رحلة الثمانين!
ودعت كتبي وأوراقي، ليحلق بي البساط إلى حيث ولدي اليتيم، الذي قال، عند اللقاء، إن نهاره حاسوبة، وليله نوم جميل، وخدر لذيذ. وسار معي إلى عنبر الحبوب الذي يفرغ ليمتلأ، ويمتلئ ليتوزع في مجار من الجلد والفولاذ. ورأيت عنزته تدر حليبها بنفسها، وتصبه في قارورة ترضع منها حسناء. وعلمت أنه، مذ بيعت كتبه في المزاد، أزهرت غلاله، وتلألأت أحواله، وأن لمعزته، فوق فيض حليبها، بلاغة يقصر عنها أدب الكاتب، والبيان والتبيين. وعندما أعادني البساط إلى حيث مكتبتي، وجدت هري الراحل يشمشم أزهار بودلير، وامرئ القيس، ويداعب لوحات ماتيس ورينوار، ويبتسم لنفسه في المرآة. وكان الليل يقترب، وتعبُ السرى قد أنهكني، فأعددت فراشا من كتب، وفوقي لحافها، ونمت وأنا أحلم بأهرامات من ورق، وبمصباح.... وفي الفجر أيقظتني رعشة حامية، ونقر عصفور مهاجر على الزجاج الموصد، وهاتف من الوادي البعيد: quot;يا لروعة شجر الثمانين!quot;

الحلم
عندما صدئ المفتاح، تفتقت القرائح عن تراتيل السهر، وانتفخت أوداج الورق بالمقبلات الشهية عن فضائل العيش بلا منزل ولا باب.
وحين انتقلت الكينونة ndash; الهوية من مطلع الشمس إلى احتضار النور، قرقعت الطبول المترهلة تشتم الجرح والحب، وافترست العناكب مزارع الخير وبساتين التفاح، واستأسدت الذبابة، واختنق العصفور، واحترقت الفراشة، وانتحر الشاعر.
وخرجت الخنافس في مهرجان، ووضعت البعوضة ساقا على ساق، تحتسي نخب النصر، وتسخر من الجمال، فولت المرأة الأدبار: quot;لم يعد لنا مكان في عالم الابتذال، والقبحquot;- هكذا صاحت.
ولما وصل الخبر إلى المقبرة- المزار، شهقت الوردة، ونزفت حتى بللت الأرض، ولونتها بالدم الحزين. وفي القرية حذرت الأم وليدها الجديد: quot;عد من حيث أتيت، فلا طعم لحياتنا بعد اليوم..quot;
وانفتح النفق على كوة، وارتفع نغم في الفضاء: quot;أنا الحلم، طاقة الحلم، والحلم لا يموت، وسلوا شاعر المطر، والحلم مطر، ومن الماء الحياة...quot;