كنت أرجو، منذ طفولتي، ألا أراك، نكاية بنفسي ربما، شيء ما بها أشجبه كي أكبر وحيدا دون يد، أبيا كنبتة في صحراء، كنت أريد أن أراني أطول وسط نظرات الارتياب دون شفقة أو رأفة، همتي في ذلك أن أدلل للناس أن بإمكان النهر تغيير مجراه إلى أعلى حين تسعفه المهاوي.

***
لم أنكر أبدا أني رغبت في رؤيتك يا أبي، هناك في مدينة كالدار البيضاء، حرصت على عبارة تلقفتها من لسان إحدى الخالات حرصي على رؤية هذا الرجل الذي يدعى أبي، ترصدت المكان جيدا حين عبرناه ذات ظهيرةlaquo;هنا يوجد أبوك، هنا يعملraquo;، وأنا كطفل راشد رحت ابحث في الوجوه عمن يشبهني، أحدس، أخمن، طيلة شهور، بل سنوات وأعود أدراجي أتجرع الطرقات وبي رغبة فضول جمة، أنفذ ببصيرة ملاك صغير إلى أعماق الرجال الذين أصادفهم دون كلمة أو حتى لمسة عزيزة.

***
حتى كراسات الدرس وأقلامي الملونة لم تسلم من البحث عنك يا أبي، أرسم عينين وأنفا، فما وشعرا كثيفا وأترك الباقي لحنيني، بإلهام من أمي وأنا أتوسد ركبتها، كانت تومئ لي في كل مرة أنه هو، فيبتهج قلبي، وأعشق هذا الأب الورقي الذي يسكن دفاتري عند كل إطلالة للمعلمة، تسألني، من هذا؟، أجيبها بابتسامة كسيرةlaquo; إ ن ه أ ب ي raquo;، تمرر أناملها على خصلات شعري، فأحدس أنها تعرف الحكاية.
***
يوم أتاني خبر رحيلك: laquo; لقد مات أبوك!raquo;، جلجلت كلمات الأم في أذني وانتصبت اللقمة في حلقي، وحزنئد صعدت إلى الغرفة الصغيرة، غرفة الأم ببيت الجد، أجهشت بما تبقى لي من أحلام، وأقسمت إذاك أن تاريخ العائلة سيبدأ من تحت أقدامي، وأن ذريتي ستخرج من ضلعي، من طوفان أتعمده أنا.

***
تعب حجري، يهدني باستمرار، ويسد كوة القش التي بنيتها بالدمع والطين. أمي إني عاينت أسراب الأحلام طويلا، لم تأت ولم يأت أبي الذي غاب بعيدا. أتذكرين أمي كم كنت أهرع إليك باكيا كلما رمقتني عبر كوة القش تلك فزاعات مخيفة.
***
وهكذا مت يا أبي دون أن أراك، ودون أن تترك الحصى في يدي حتى، كم هو ثقيل ميراثك الفارغ! لن أفعل مثلك يا أبي لن أموت قبل أن أنقح مسودة طفولتي في دفاتر أبنائي.

***
لقد كبرت اليوم، ولست ناقما عليك، عزائي أني صرت أبا بارا، وحويصلة الحنان الفارغة التي كبرت معي قد طفحت زوادتها اليوم، منها تقتات فراخي التي أحرص أن تغدو نسورا تجوس بعظمة حلما قديما تراءى لي بعيد رحيلك ( كنت تمد لي ذراعيك من بعيد وأنا أهم بالدخول، لم أنس جلبابك، وطربوشك الأحمر الوطني، ونظارتيك السوداوين، تتوسط أريكة من جلد بني فاتح في باحة منزلك )، لم أصدق الأمر، لقد عاينت أشياءك مثلما كانت في الحلم، وأنا الذي لم أرك قط حين جئت لأول مرة أعزي نفسي وأنا أخر المعزين.

شاعر مغربي