نجح صاحب ويكيليكس في تفجير موجة من الإثارة وردود الفعل والتعليقات على نطاق واسع.
هناك تقديرات متباينة عما يفعله صاحب هذا الموقع ومن يشتغلون معه، وعن دوافعهم، وهل من قوى ومصالح معينة من وراء فعلتهم المتواصلة. الوقت قد يكون مبكرا للكشف والإجابة الدقيقة، إلا أن ما نعتقده هو أن الغرض الأول من هذا المشروع هو إلحاق أكبر ما يمكن من الضرر بالولايات المتحدة ودبلوماسيتها وعلاقاتها مع الدول الأخرى، سواء كان صاحب الموقع فوضويا، كما يقول البعض، أو طالب شهرة، أو موكلا عن جهات بعينها. وفي هذا الصدد يقول الباحث الأستاذ وحيد عبد المجيد إنه إذا كان نشر وثائق منها حساسة يخلق نقاشا حول محتواها، quot; فهو يثير في الوقت نفسه جدلا حول الموقع الذي ينشرها، وأهدافه الحقيقية، وما إذا كانت قوى معينة تقف وراءه أو تدعمه لتحقيق مصالح معينة.quot;

ليست القضية هل إن ما نشره الموقع لحد اليوم صحيح أم لا، بل، وإن كثيرا مما نشر عن حربي أفغانستان والعراق كان معروفا على نطاق واسع، وإن بعض ما نشر من برقيات كان يتسرب بشكل أو آخر للصحافة، عن عمد أو غفلة. فالحقائق عن الدور الإيراني في العراق، وعن عمليات القتل والمطاردة التي تقوم بها المليشيات الحزبية وحكومة المالكي، كانت معروفة على نطاق واسع، والجانب الأميركي في العراق هو نفسه الذي فضح وجود سجون سرية تابعة مباشرة لمكتب المالكي وتستعمل فيها مختلف وسائل التعذيب، ومنها الاغتصاب.
أيضا، ليست المسألة هي أن ما ينشر اليوم من برقيات ومقتطفات من تقارير دبلوماسية لا يتضمن أشياء تفيد في إلقاء أضواء أكثر على بعض المواقف والأحداث السياسية المهمة.

القضية التي أريد تناولها هنا هي مدى نظافة ونزاهة هذا المشروع الذي يراد تبريره بعنوان quot; الشفافيةquot; وضد quot;التضليل الدبلوماسيquot;. فهل التعاون مع عسكري أميركي تجسس على وثائق سرية لدولته وسلمها لصاحب الموقع عمل نزيه وبرئ ndash; وهذا بقدر ما يتعلق الأمر بالوثائق عن حربي أفغانستان والعراق، فضلا عن احتمال تعريض أرواح جنود أميركيين أو غيرهم للخطر؟!
هل يجب التهليل لخيانة جندي للأمانة الوطنية لمجرد أن صاحب الموقع ومن وراءه يكرهون الولايات المتحدة؟! وهل سطو صاحب الموقع ومن معه على البرقيات السرية لدولة ما يستحق الثناء، أو عدم الاكتراث، مع أن هذا ليس إعلاما بل عملية قرصنة ولصوصية عصريتين مدانتين؟!
إن الكاتب الفرنسي quot; ألان جيرار سلامةquot; يعلق على الموضوع في مقال بصحيفة quot; الفيجاروquot;عنوانه quot;ويكيليسكس: التضليل الثلاثيquot;. الكاتب يستنكر أن يقوم متلصص بسرقة آلاف الوثائق ونشرها في صحف واسعة الانتشار كالغارديان، دون أن يثير عمله اشمئزاز ونفور كثيرين، فيما هناك من يعتبرون ذلك من منجزات quot;الثورة المعلوماتيةquot; التي تخدم الحضارة والحقيقة.

الواقع، أننا أمام مشروع تخريبي يختفي وراء خرافة اسمها quot;الشفافيةquot; وبما يراد تحويله إلى أيديولوجيا.
إن حجة quot; الشفافيةquot; تقوم على عدة خدع، وأولاها quot;حرية الإعلامquot;. وهذا تكتيك معروف، أي استخدام الحريات الواسعة في الدول الديمقراطية من أجل تخريبها، وهو ما لا يمكن حدوثه في دول شمولية أو استبدادية، كالصين وروسيا مثلا. ونحن نتفق مع الكاتب الفرنسي في أن ما يقوم به أصحاب الموقع ليس إعلاما بالمعنى المهني الصحيح. فالإعلام يعني جهدا من البحث والتمحيص والتدقيق، ومقارنة الروايات والمعلومات، وتصنيف المصادر. وهذا ما لا ينطبق على ما يقوم به الموقع المذكور. وبين جميع ما تم نشره من برقيات حتى الآن ليست هناك معلومات جديدة حقا، وربما ثمة أقل القليل كخبر تزويد كوريا الشمالية لإيران بالصواريخ المتقدمة. وحتى هذا الخبر يحتاج إلى تدقيق. كما ليس صحيحا أن الشفافية والديمقراطية تعنيان نشر أية معلومة، لحظة بلحظة، وكأنها تمثل موقفا وسياسة دولة لأن المواقف الهامة والسياسات لا تتقرر في لحظات، ولا تحسمها آراء هذا السفير أو ذلك، وانطباعاته، وذلك مهما كانت مهمة. فدولة كبرى كأميركا تقرر مواقفها على أساس دراسة وتحليل مجموع ما لديها من بينات ومن مختلف المصادر، بصبر وعناية، وإن علاقات دولة كبرى كأميركا مع دول العالم تقوم على المصالح ولا تقوم على كل ما يقال في الكواليس وآراء بعض الدبلوماسيين، الحادة أو المخدشة، لرؤساء أو دول أخرى، أي خالية من اللغة الدبلوماسية المعتادة. والوثائق، كما يقول الكاتب عثمان ميرغني في الشرق الأوسط، quot;قد تسلط أضواء على جوانب من الصورة، إلا أن الصورة لكي تكتمل وتتضح لابد من وضعها ضمن إطارها الأوسع بعيدا عن أجواء الإثارة الآنية.quot; وفي تعليق quot;خفيفquot; نشرته إيلاف، مؤخرا، يدعو الكاتب فيه بوش إلى قراءة وثائق ويكي ليعيد تأليف كتابه!! ونحن لا نعرف هل اطلع الكاتب فعلا على هذا الكتاب؟!! أما سنده، فهو قول زعيم عربي لمسئول أميركي quot; قدمتم العراق على طبق من ذهب لإيرانquot;، وهذه نقطة تناولناها في مقالنا عن الدور العربي في استفحال التدخل والانتشار الإيرانيين، عراقيا وإقليميا. وسوف نعود لهذه النقطة عندما نعلق على الفصل الخاص بالعراق من كتاب بوش؛ ولكن نقول هنا إن أميركا قدمت بجهدها وتضحياتها، الحرية الكاملة للعراقيين، ولكنهم هم أساؤوا استخدامها، مع هجمة الحلف الإيراني ndash; السوري والقاعدة، مقرونة بعدم الاكتراث العربي وسلبيته. وللجانب الأميركي مسئوليته أيضا.

إن من التعليقات الصحفية العربية المتحمسة للموقع ما يخلط الأمور، وخصوصا عن العمل الدبلوماسي، الذي لا يمكن أن يجري كله في العلن، ولا يمكن أن يقال كل ما يُعرف. كما أن العلاقات بين الدول تتطلب، كما يقول الأستاذ عثمان ميرغني، quot;مناقشات خلف الأبواب المغلقة، وإلا كانت مناقشات الأصدقاء في أيدي الأعداء.quot; وهنا يبدو ركيكا كل الركة القول بأن دبلوماسية الدول الديمقراطية هي الكذب والخداع، كما فهمنا مما كتبه البعض، ومنهم صحفية في quot; الحياةquot; تتحمس كل الحماس لصاحب الموقع وتعتبره رائد كلمة الحق، ولذا فهو مغضوب عليه، ولربما سيصير شهيدا!!!! في الوقت نفسه، فإن الدبلوماسية لا يجب أن تعني قول عكس الحقيقة علنا مع الهمس بها سرا، كما حال حكومات عربية تطمئن شعوبها عن النوايا والممارسات الإيرانية ولكنها تهمس بمخاوفها لأميركا ودول غربية أخرى! وإذا كان التصريح العلني الواضح بواقع الأمور قد لا يكون مناسبا في هذه الحالة أو تلك، فإن قول عكس الحقيقة هو تضليل للرأي العام الداخلي وخداع.
الكاتب الفرنسي يستشهد أخيرا بتحذير ليون بلوم عام 1920 للشيوعيين الفرنسيين من إغراء الاستناد لجموع تستثار عواطفها بسرعة لأي خبر، وحتى لأية إشاعة، وهي الجموع التي تشكل تربة للشعبوية الديماغوغية.