إنها هذه الثقافة المهيمنة في العالمين العربي والإسلامي. وما من يوم يمر، وحدث ما يقع، حتى تتأكد من جديد دقة هذا التوصيف. إنها استعلائية بمعنى الاعتقاد بأن المسلمين يمتلكون كل مفاتيح الحقيقة، وأن على الآخرين، والغرب بالتحديد، القبول بكل ما يفعلونه حتى داخل دول الغرب نفسها، وإلا فهي الاتهامات، والتحريض، والابتزاز.

من الأمثلة الأخيرة بداية حملة جديدة ضد قرار البرلمان الفرنسي بحظر النقاب، وهو موضوع سبق وكتبنا فيه- علما بأن البرقع والنقاب غير متفق بشأنهما بين الفقهاء أنفسهم، ولم يكن لهما وجود زمن الرسول والخلفاء الراشدين، ولا نص في القرآن، بل هما مجرد تقاليد من عهود المماليك، وحريم الخلفاء والسلاطين. فلماذا رفع المسألة للمستوى الديني؟! ها هي صحيفة خليجية واسعة الانتشار تنشر كاريكاتورا يصور فرنسا جالسة على كرسي عال ،[ لعله كرسي العدالة]، وبيدها خنجر طويل، وأمامها امرأة منقبة! وكاتب آخر يعتبر القرار سجنا في البيوت للمنقبات في فرنسا. إنه لتشويه للقضية، وتحريض، وبصرف النظر عن شرعية النقاب، ففرنسا هي دولة مستقلة، ولها سيادتها، ومبادئ علمانيتها، وموقع كرامة المرأة في ثقافتها ودستوره،، وإذا رأت المنقبة أن لا مكان لها في فرنسا، فلماذا لا تعود لبلد الأصل، وتتحرر من quot;السجنquot;؟! وكم بلدا إسلاميا يقبل بلبس النساء الأجنبيات ملابس بلا أكمام وقصيرة أو للمايوه على الشواطئ؟؟ وبالأمس، حضر رئيس الوزراء الفرنسي بنفسه لافتتاح مسجد كبير لمسلمي فرنسا. هذا يمر مر الكرام، بل وعندما يذكر أن في فرنسا حوالي 2000 مسجد، فإن الإمام يرد: quot;نريد 4000quot;! فهل سأل نفسه كم عدد الكنائس في مجموع البلدان العربية والإسلامية؟؟ وكم منها دمرت، أولا تزال تدمر، دون أن يكون هناك رد فعل قوي بين المسلمين حيث يكون التدمير، ولنقل في مصر، أو العراق، أو ماليزيا، وحتى في تركيا؟! وبماذا نفسر إصرار المسلمين في نيويورك على بناء مسجد في مكان تفجيرات 11 سبتمبر، إن لم يكن من باب التحدي، وعقلية quot;نحن هناquot; الاستعلائية؟؟ أما كون المنقبات أقلية في فرنسا، فهذا لا يغير من جوهر القضية. ونسأل نفس السؤال الذي طرحناه من قبل، ومن زاوية أخرى: من يقبل بأن يسير رجل منقب أو مبرقع في الشوارع العامة في أي بلد مسلم؟ ومن يدري إن كان النقاب لا يخفي رجلا إرهابيا، كما حدث مرارا؟؟

حدث آخر. عندما اغتال مجرم ألماني من أصل روسي المرحومة مروة الشربيني، فقد صوروا الأمر عدوانا من الشعب والدولة الألمانيين على المسلمات المحجبات، وسارت المظاهرات، وشارك برلمانيون وحكوميون في المواكب المتشنجة، وارتفعت نداءات تحرض ضد المسيحيين. وفي الوقت نفسه، لا تزال تصدر الفتاوى بتكفير غير المسلمين، واعتبارهم مواطني أهل الذمة، وربما يطالبونهم بدفع الجزية. وعندما يبدل المسيحيون في الغرب ديانتهم للإسلام ترتفع الهلاهل عندنا، فإذا انتقل مسلم للمسيحية، فجزاؤه بين فتوى تحليل قتله، وبين فتوى طلاق زوجته منه.

هذه نماذج من الثقافة الشائعة، فنحن أمة الأمم، وعلى الآخرين القبول بتقاليدنا ومعاييرنا وقيمنا حتى داخل بلدانهم. ويكتب مسئولون كبار في منظمات ثقافية حكومية، عربية وإسلامية، أن المشكلة مع الغرب هي مشكلة quot;حقوق المسلمينquot; هناك. ولكن لا حديث عن واجبات المسلمين حيث يعيشون، ويتلقون المعونات، وحيث يمارسون العبادة بحرية تامة وبلا تقييد. فأي من حقوقهم مهضوم؟! هل هي قضية النقاب أو مأذنة في جنيف أفتى المواطن السويسري ضد وجودها وليس ضد وجود المساجد؟؟

والثقافة الشائعة تبرر عيوبنا الفاضحة: من انتشار الأمية، وارتفاع نسبة من هم تحت سقف الفقر برغم الثروات الهائلة، والتقييد على الحريات العامة والشخصية، ومطاردة الإبداع وحرية الرأي باسم الدين، أو باسم محاربة الفحش. حتى ألف ليلة وليلة لم تسلم من تشنج فريق من المحامين المصريين- تصوروا: هم محامون وليسوا من العامة الأميين!

ولنذكر داهية الدواهي: جحافل الإرهابيين quot;الجهاديينquot; وعملياتهم الدموية، التي لا تقتصر على بلدان الغرب، بل وكذلك وعلى الدول المسلمة نفسها، وحتى على السعودية حيث مكة المكرمة. من هم؟ ومن أية أصول؟ وباسم أي دين؟ لماذا يُعتبر التصريح بهوية هؤلاء مسا بالإسلام نفسه؟؟ نعم، quot;الإرهاب لا دين لهquot;، كما ينشر كاتب خليجي في quot;الحياةquot;. فالفاركيون الكولومبيون ومنظمة الأيوتا الباسكية الإسبانية، كأمثلة، ليسوا مسلمين، وهم إرهابيون. ولكن الحديث هو عن الظاهرة الأكثر انتشارا، وعلى نطاق العالم كله. فما الذي يجمع بين نضال حسن وعمر الفاروق وفيصل زاد، وبين خلايا القاعدة في المغرب وفي اليمن، والعراق، وquot;حركة الشباب الصوماليquot;، وبين خلية إرهابية في النرويج تضم عراقيا مسلما وأوزبكيا وصينيا مسلما؟ ما يجمع كل هؤلاء وعشرات غيرهم، هو أنهم مسلمون، ويتخذون من الدين ورقة لتبرير تفجير الأبرياء بالجملة، وتنفيذ العمليات الانتحارية. إن التأكيد على هذه الحقيقة ليس فقط لا يعني إدانة للدين نفسه، بل هو واجب لكي ينتبه قادة الرأي وأصحاب السلطة الواعون في العالم الإسلامي إلى مسئولياتهم في مكافحة التطرف وثقافة quot;الجهادquot; الانتحارية، ولاسيما في مجال التعليم والإعلام. وقد كتب في ذلك مرة الأستاذ طارق الحميد مقالا نافذا ومعبرا.

ونأتي الآن إلى حدث جديد آخر، أثار، هو الآخر، ثائرة الأقلام العربية المتشنجة، وهو حدث رحيل العلامة المرحوم حسين فضل الله.

المعروف أن الراحل كان رجل علم وفضل، وداعية تسامح وحوار بين الأديان، مثله في إيران ،مثلا، مثل محمد خاتمي بالنسبة لأحمدي نجاد . فخاتمي لم يقل بأن محرقة النازيين كذب، وكان داعية حوار من الدرجة الأولى، ورفع، عند حملته الانتخابية، شعارات لصالح المرأة والشباب [ لم ينفذها فيما بعد]. والشيخ فضل الله، كان داعية من هذا الطراز، له فتاوى تعارض فتاوى المتطرفين والمتشنجين من رجال الدين من دعاة الكراهية. بل وأفتى بحق المرأة في الرد بالمثل لو ضربها زوجها. ويبقى أن المرحوم كان زعيما روحيا لحزب الله، وهو حزب سياسي ديني، وأنه كان لولب الدعاية لثورة الخميني في لبنان، وداعية من دعاة quot;الثورة الإسلامية العالمية ومركزها في طهرانquot;[ *]- أي بزعامة الخمينية. إنه لم يكن مجرد رجل دين فاضلا وحسب، بل كان داعية للإسلام السياسي الشيعي، الذي يحتذي مثال الخمينية. وهنا الإشكالية في شخصيته، ومن هنا يأتي تعدد الاجتهادات في تقييمها. الشيخ فضل الله لم يكن كحسن نصر الله، مثلما خاتمي ليس مثل نجاد، ولكن تبقى هناك نقاط أساسية مشتركة ظلت حتى النهاية. ونلاحظ ذلك في الحالة العراقية أيضا. ففي عام 2004، شرع مقتدى الصدر بإشعال حريقه في مدينة النجف المقدسة، معتديا على مخالفيه، ومقيما محاكمه الدينية التعسفية. واعتدى حتى على دور السيد السيستاني وبقية زملائه في المرجعية، وضرب قبة الإمام علي بالنار. ففي أبريل من العام نفسه، وجه حسن نصر الله خطابا انتقاديا لاذعا لرجال الدين في النجف داعيا إياهم إلى لبس الأكفان لنصرة الصدر ومحاربة القوات الأميركية. وقد ردت المرجعية النجفية بخطاب نشرته إيلاف بتاريخ 22 مايو 2004، سردت فيه كل جرائم الصدريين وجيشه الدموي. كما فضحت تعاون أنصار صام والقاعدة مع جيش المهدي. أما الشيخ فضل الله فكان له ميدان آخر، حيث حذر العراقيين من تبني العلمانية نظاما، ودعا لقيام نظام إسلامي في العراق. كان ذلك في تصريح منه في quot;الحياةquot; بتاريخ 4 أبريل 2004 ، وحيث يهاجم quot;المحتل الأميركيquot; بحجة أنه يريد تجريد العراق من إسلاميته وفرض العلمانية عليه. وفي حينه رد الكاتب العراقي جميل صالح بقسوة في موقع quot;كتاباتquot;بتاريخ 5-6 منه.

أريد استخلاص أننا لا نستطيع فرض التقييم السائد عن الشيخ على دول تعتبر حزب الله منظمة إرهابية، ولا حتى على مسلمين لا يدينون بما يسمى بالثورة الإسلامية، ويرفضون النظام الإسلامي لصالح نظام ديمقراطي علماني. ويبقى المرحوم من فضلاء علماء الدين المسلمين برغم هذه الإشكالية المعقدة وذات الأوجه، وإن المسئولية عن حجب جوانب الإفتاء المنفتح لديه تعود إلى كيفية قيادة نصر الله للحزب، وربطه بالحسابات السياسية الإيرانية، واستيراده لكل أنواع السلاح الإيراني، وخزنها في الجنوب باسم المقاومة، ودون أي احترام لسيادة لبنان. فكيف نتهم السي. إن . إن. والإعلام الغربي كله بالصليبية على الحريات، ونردد ترهات كاتب بريطاني مهووس بالتطرف اليساري وبكراهية أميركا مثل روبرت فيسك، الذي شن حربا إعلامية شعواء ضد حرب إسقاط نظام صدام؟!!

منذ أيام، استمعت إلى مقابلة في quot;العربيةquot; مع الكاتب تركي الحمد، تناول خلالها موضوع ثقافتنا السائدة هذه. وقد أجاد الكاتب في عرضه وتحليله، ووصف كيف تراجع الوعي لحساب ثقافة التخلف quot;الراكدة التي لا تعترف بالآخر، وبأنها جزء من العالمquot;، وبأنها لا تمتلك كل الحقيقة بل جزءا منها وحسب. وقال إنها ثقافة الشاعر البدوي الذي كان يردد quot;لنا الصدر دون العالمين أو القبرُquot;- وquot;القبرquot;، [وهذا مني]، بمفهوم quot;الجهاديينquot; اليوم قد يعني عمليات الانتحار!

[ * هامش:انظر مثلا عن فضل الله مقال وضاح شرارة في عدد الحياة بتاريخ 14 تموز الجاري بعنوان quot; محمد حسين فضل الله أحد أئمة quot;الثوريين الإسلاميينquot;. والكاتب يتحدث عن دور المرحوم في خدمة quot;الإسلام الثوريquot; ورفض quot;التسليم للغرب الاستعماريquot;، وquot;الاستكبار الأميركيquot;. ويقول الكاتب إن عماد مغنية كان من بين يحضرون حلقات الشيخ، وإن quot; بعض هجمات حزب الدعوة على مرافق عراقية في لبنان [ أي زمن الحرب مع إيران] كانت علامات في الطريق.quot;
كذلك انظر تقرير quot;الحياةquot; في تأبين الشيخ بتاريخ 5 الجاري بعنوان quot;سيرة رجل متنور كان من مؤسسي المقاومة الإسلاميةquot;. والتقرير يتحدث عن تنظير المرحوم quot;للاستراتيجيات الإسلامية للثورةquot; ورفضه لمقولات quot; الإرهابquot; أو quot;محور الشر والخيرquot;، ومعارضته لإضعاف التحالف الإيراني ndash; السوري. ويقول التقرير quot;إن الأمة الإسلامية تفتقد برحيله رجلا من رجالات المقاومة والممانعة الذين أثمرت جهودهم في ترسيخ ثقافة الجهاد والنضال التي حققت عزة وكرامة هذه الأمة في مواجهة المشروع الصهيونيquot;... هناك أيضا مقال لهاني فحص في quot;الشرق الأوسطquot;.......]