لأول مرة منذ ما يزيد عن العقدين، تحتل تونس على مدى أيام متتالية، مراتب متقدمة في واجهة الأخبار الرئيسية لعدد كبير من القنوات الفضائية العربية، و خصوصا قناة الجزيرة، التي بدا و كأنها عثرت على ضالة كانت تبحث عنها منذ سنوات طويلة، حيث بوأت quot;أحداث سيدي بوزيدquot; المكانة الأولى في نشراتها الإخبارية، مقدمة إياها على أحداث العراق و فلسطين والسودان والصومال الدامية.
و قد قامت السياسة الإعلامية في تونس على المستويين العربي والدولي، على فلسفة خاصة تجعل النجاح حسب وجهة النظر الحكومية، مرادفا لquot;عدم الذكرquot;، فالمسؤولون التونسيون لا يرغبون عادة في أن تقوم القنوات الإخبارية، وخصوصا الجزيرة منها، في تناول شؤونهم الداخلية، بالخير أو بالشر، كما يرفض هؤلاء المسؤولين في غالب الأمر المشاركة في أية برامج حوارية حول القضايا التونسية، مفضلين تفويض الأمر لناطقين غير رسميين، اشتهروا عند مواطنين بملكيتهم التي هي أكثر من الملك، و أضحت أجوبتهم النمطية أو quot;الخشبيةquot; شبه محفوظة ومحل تندر، على نحو يسيء إلى الرؤى الحكومية أكثر مما يخدمها.
و لعل أهم التغييرات التي قد تفضي إليها quot;أحداث سيدي بوزيدquot; مراجعة هذه السياسة الإعلامية الرسمية، إذ ظهرت مؤشرات توحي بأن بعض التغيير سيطال قريبا أسس تعامل نظام الحكم التونسي مع الإعلام العربي والدولي، ومن ذلك ظهور وزير التنمية والتعاون الدولي محمد نوري الجويني على شاشة الجزيرة، و تعليقه على احتجاجات الشباب التونسي بلغة سياسية أبعد ما يكون عن الخشبية، قام فيه بالمزج بين الاعتراف بوجود المشكلة و الدعوة إلى محافظة كافة الأطراف على منطق الحوار والمصالح الوطنية.
المؤشر الثاني، جاء به الرئيس بن علي نفسه، في خطاب استثنائي ألقاه على مسامع الشعب التونسي عبر كافة القنوات التلفزيونية والإذاعية الرسمية، وليس من عادة الرئيس بن علي إلقاء خطب في الحالات الاستثنائية، من منطلق أن ذلك سيعني لدى الخاصة والعامة اعترافا بوجود أزمة و دليلا على ضعف قد أصاب هيبة الدولة، وقد اعترف الرئيس بن علي في خطابه بوجود قضية حقيقية إسمها quot;التنمية الجهويةquot; و quot;بطالة أصحاب الشهادات الجامعيةquot;، ودعا مسؤوليه على الصعيدين الجهوي و المحلي للإصغاء إلى المواطنين بطريقة أفضل، والعمل على تطويق مشاكلهم المستعصية قبل استفحالها.
و لا شك أن هذه العقلية الرسمية السائدة في تونس، القائمة على خوف مبالغ فيه من تناول الإعلام العربي والدولي للقضايا التونسية، و على رغبة جامحة في النأي بالشأن التونسي عن أي تغطية إعلامية مستقلة، محتاجة بعد ما أفرزته تجربة سيدي بوزيد من دروس مستفادة، إلى مراجعة سريعة، إن لم أقل جذرية، فاتباع سياسة قائمة على الخوف أو التضييق أو الرقابة، عادة ما يفضي إلى بروز ظاهرتين سلبيتين هما ظلم الانجازات الحقيقية الحاصلة، و إتاحة الفرصة أمام التطرف بكافة أشكاله لملئ الفراغ الإعلامي وتحقيق انتصارات غير مستحقة.
في هذا السياق لا بد من أن أؤكد على أمرين، أولهما أن من حق الجزيرة أو أي قناة أخرى تناول الشأن التونسي، و توظيف كافة قنوات الاتصال الممكنة لتقريب الصورة من المشاهدين و صناعة مادة إعلامية تلفزيونية مهنية، بما في ذلك استغلال وسائل الشبكة العتكبوتية أو الميديا الاجتماعية، أما ثانيهما، فهي الإشارة إلى أن تغطية الجزيرة لأحداث سيدي بوزيد لم يكن بمنأى عن تأثير حركة النهضة الإسلامية المعارضة، التي لا يخفى وجود عدد كبير من أعضائها الراديكاليين كعاملين في غرف الأخبار، وقد ظهر هذا التأثير جليا في محاولة إضفاء صبغة quot;الانتفاضةquot; على الأحداث، و الربط الإعلامي quot;السياسويquot; بينها وبين تحركات سياسية جرى تنفيذها من قبل قواعد الحركة المقيمين في أكثر من عاصمة غربية.
و لست أجد في واقع الأمر مبررات حقيقية، لإبقاء الساحة الإعلامية التونسية بمنأى عن حركة التحرير والخصخصة المتبعة في سائر المجالات، خصوصا منها الاقتصادية، فحصر الدفاع عن صورة تونس في الخارج بأيدي وسائل إعلامية هزيلة ومعدودة، غير مقروءة أو مشاهدة في الغالب، تعود في ملكيتها إلى شخصيات باهتة عربيا ودوليا، و غير ذات مصداقية في أكثر الأحيان، إنما يشكل مثالا على أخطاء كبيرة ترتكب منذ سنوات، و قد تجلى عقمها وكارثيتها خلال الأسابيع الأخيرة، عندما بدت سيدي بوزيد أقرب جغرافيا إلى الدوحة من العاصمة التونسية.
إن المقارن بين الأوضاع التنموية في تونس و غالبية الدول العربية، ما يزال يؤكد تفوق وتوفق النموذج التونسي على هناته التي أظهرتها أحداث سيدي بوزيد، لكن المفارق أن أنظمة الحكم في غالبية البلدان العربية التي تقل إنجازا عن الحالة التونسية، لم تجد غضاضة في توسيع هامش الحرية الإعلامية والنقاش الصحفي حول شؤونها الداخلية، بأشواط كبيرة قياسا بما هو الحال عليه في تونس، و لا شك أن مصر أو اليمن أو الأردن لم تتزعزع أوضاعها السياسية أو أنظمة حكمها بتقارير قناة الجزيرة أو سواها، ولن تتزعزع لهذا السبب في كل الأحوال.
إن الدرس الأساسي الذي يجب أن تستقيه القيادة التونسية quot;ما بعد أحداث سيدي بوزيدquot; في المجال الإعلامي، هو إفساح الطريق أمام مزيد من الحضور الإعلامي المحلي و العربي والدولي في الشأن الوطني، و التخلي عن سياسة الخوف غير المبرر من الإعلام الخارجي، و الابتعاد ما أمكن عن عقلية quot;البروباغنداquot; لأنها أكثر وسائل الإساءة إلى المنجزات، و الثقة بشكل أفضل وأقوى في إنجازات البلاد ومسيرتها النامية باضطراد، فهي أفضل من سيدافع عن نفسها، و تشجيع المسؤولين السياسيين على التعاطي مع الوسائل الإعلامية، من منطلقات سياسية تقتضيها طبائع مواقعهم، لا التصرف كرؤساء أقسام أو مصالح إدارية، خطابهم بارد و ردودهم متشنجة، فالإعلام كأي شأن عام لا يقبل الفراغ، فإن لم تتكلم تكلم غيرك وأساء إليك أو عمق جرحك أو أضعف موقفك.
* كاتب تونسي