دعيت قبل أيام من قبل بعض الأصدقاء في مؤسسة الكوثر الثقافية في لاهاي، لإلقاء محاضرة بمناسبة عيد الغدير، الذي يحتفل به الشيعة الإثنا عشرية عيدا مقدسا، في يوم الثامن عشرة من شهر ذي الحجة الحرام من كل سنة، لكونه اليوم الذي نصب فيه الرسول محمد (ص) علي بن أبي طالب إماما ووليا من بعده، بعد أن قفل راجعا من مكة إلى المدينة إثر حجة الوداع، في السنة العاشرة للهجرة، في بقعة على الطريق تسمى quot;غدير خمquot;، وبحضرة عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من الصحابة، حسب الروايات المتباينة المعتمدة.
و تأتي دعوة المؤسسة القريبة من مرجعية آية الله العظمى علي السيستاني كبير مراجع الشيعة في الحوزة النجفية، لرجل من أبناء السنة، في إطار رغبة بينة في التأكيد على أولوية الوحدة الإسلامية في رؤيتهم للتاريخ، و تمسكهم الشديد بروح الحوار والتواصل والتفاهم بين جناحي الأمة المحمدية، خصوصا في ظل هذه الأجواء الطائفية الطاحنة المزكمة للأنوف في العراق و لبنان و بلدان عديدة من عالمنا العربي والإسلامي.
و قد وجدت شخصيا في المناسبة فرصة لطرح بعض الرؤى الخاصة، التي أرى أنها تحتاج إلى إنضاج أكاديمي وفكري ومعرفي، و هي كما اعتقد قادرة على المساهمة في جسر الهوة بين الشيعة والسنة، اللذين أومن بأنهما سيبقيان متباينين كما هما إلى يوم القيامة، تماما كما اليسار واليمين في السياسة والاقتصاد، لكن الأمل معقود على نزع فتائل الفتنة بينهما وتحقيق قدر من الود و الاحترام واللقاء المطلوب بين أجيالهما الحاضرة والمستقبلة.
بدأت كلمتي ببيان أن حب علي بن أبي طالب عليه السلام، و سائر آل البيت الأطهار، سار في أهل السنة كما هو عند الشيعة، فقد قامت في المغرب العربي السني مثلا دول كثيرة أسسها أئمة ينحدرون من نسل الرسول (ص)، من بينهم شيعة إسماعيلية كما هو شأن الفاطميين، و شيعة إثنا عشرية مثلما هو شأن الأدارسة، وكذلك أشراف سنة على نحو العلويين الذين يحكمون المملكة المغربية إلى يوم الناس هذا.
بل إن أثر الرسول (ص) ومجرد وجود ريحه في قوم، كان مدخلا لقيام بعض الدول، فقد أقام السعديون في المغرب الاقصى دولتهم بالاعتماد على زعمهم أصلا يعود إلى حليمة السعدية مرضعة الرسول (ص)، مثلما اختار المغاربة رجالا من أصل نبوي شريف أمراء للجهاد ضد مستعمريهم، كالأمير عبد القادر في الجزائر، و الشيخ محمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب، والشيخ عمر المختار في ليبيا.
و كل باحث في تاريخ الزوايا الصوفية في بلاد المغرب العربي، سيجد أن أهل بيت النبي كان لهم باع طويل في الولاية، و ما تزال مقامات الأشراف و أضرحتهم و تكاياهم و مساجدهم مزارات لملايين المسلمين الذين يعتقدون بأن لأولياء الله الصالحين مكانة رفيعة و وظيفة سامية في نشر العقيدة المحمدية.
الشائعة الثانية التي أردت تبديدها، أن السنة كما قد يظن أنصار معاوية بن أبي سفيان في مقابل الشيعة الذين كانوا أنصارا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فالسنة ينكرون تحويل الخلافة إلى ملك عضوض، ولا يعدون معاوية صحابيا كبيرا، إذ يعرفون أنه كان من الطلقاء، وقد أسلم مع والده يوم فتح مكة، و يعتبرون إبنه اليزيد فاجرا ومغتصبا للسلطة، و يؤمنون فوق كل هذا بمظلومية علي وبنيه الحسن والحسين، ويتبرأون من كل الجرائم التي ارتكبها الخلفاء الأمويون والعباسيون في حقة الأئمة من آل البيت، لكنهم مع كل ذلك لا يؤمنون بأن الإمامة ركن سادس للدين، ولا يرون الأئمة من آل البيت معصومين، بل إنهم يعتقدون أن النبي نفسه معصوم، إذ هو كذلك فقط في ما يتعلق بالرسالة، أما في جانبه البشري فهو إنسان يخطئ ويصيب.
و قد ذكرت في هذا السياق بما جرى للإمام النسائي، وهو واحد من أصحاب الصحاح، و أحد مصادر أهل السنة الكبار، فقد طلب من الرجل لما دخل دمشق على عهد الأمويين أن يسب quot;أبا ترابquot; كنية علي بن أبي طالب عليه السلام، فأبى و كان رده أنه لن يسب رجلا يعرف في رفعة مقامه وعظيم قدره أربعين نصا من القرءان والسنة، وهو أمر لا يتوفر في أحد سواه من المسلمين، وكان مصير الرجل أن ضرب حتى أدمي وألقي به خارج الأسوار.
المحطة الثالثة التي توقفت عندها، كانت محطة خاصة لا تنطق بما ثبت عند أهل السنة، فالإخوة الشيعة يرون أن تنصيب علي وليا وإماما للمسلمين جرى بأمر إلهي نزل به جبريل على الرسول (ص) في غدير خم، و ثبت بمنطوق النبي و صحيح حديثه quot;من كنت مولاه فعلي مولاهquot;، و ينظر الشيعة إلى التاريخ الإسلامي اللاحق على أنه كونه سلسلة انقلابات ومؤامرات و نقض للبيعة التي أخذها الرسول (ص) من الصحابة لأمير المؤمنين.
و رأيي أن أحدا من الصحابة لم ينقض عهد الوصية النبوية لعلي، فالولاية والإمامة بصريح اعتقاد الشيعة، تكليف إلهي لا يحتاج إلى تزكية بشرية، و قد مارس علي بن أبي طالب و سائر الأئمة المنحدرين من نسله، إمامتهم و ولايتهم على المسلمين ممثلين بإستمرار أعلى سلطة دينية وفقهية، غير أن الولاية والإمامة شيء والخلافة شيء آخر، فبالقدر الذي تمثل فيه الأولى شأنا إلهيا روحيا و دينيا يختار له الله من يقدر على تحمل أعبائه، فإن الخلافة شأن بشري دنيوي يختار فيه المسلمون كمواطنين في دولة حاكمهم، تماما كما قال أبو بكر (رض) في خطبة توليه quot;وليت عليكم ولست بخيركم..quot;، وبعبارة أخرى فإن الإمامة ترمز في رأيي إلى السلطة الروحية مثلما ترمز الخلافة إلى السلطة الزمنية.
و رأيي هذا يستند إلى قراءة في تاريخ الإسلام المبكر وأدلة عقلية مستوحاة من سيرة النبي وأصحابه، و بمقدوري إيجاز ذلك كما يلي:
_ لو كانت وصية غدير خم بهذا الوضوح الذي يعتقده الإخوة الشيعة، لما كان أبدا مصدرا للتأويل والتفسير والخلاف بين كبار الصحابة و مئات الآلاف من المؤمنين.
- إنني من الميالين إلى التصديق بواقعة غدير خم، كما نقلتها كثير من مصادر الشيعة والسنة على السواء، لكنني من الميالين أيضا إلى أن غالبية المسلمين قد فهموها على أنها وصية روحية ودينية وفقهية، وليس المقصود منها ولاية سياسية.
- إن علي بن أبي طالب ليس الرجل الذي يمكن أن يتخاذل في القيام بوظيفته أو يتقاعس عن الاضطلاع بمهمته لو فهم أن وصية غدير خم هي كما تقدم اليوم في المصادر الشيعية، إنما رأيي أنه فهم الأمر كما فهمه عامة المسلمين في ذلك الوقت، وهو فهم لا يتناقض مع اعتقاده أنه أحق الناس بالخلافة بعد وفاة النبي، فاعتقاده الأحقية هنا كان من منظور بشري، حيث كان يرى في نفسه عليه السلام الأقدر والأكفأ، وهو في واقع الأمر كذلك، لكن الانتخاب السياسي لا يفضي دائما إلى اختيار الأفضل بالضرورة.
- كان الخلفاء الثلاثة برأيي، كما عامة المسلمين، يؤمنون أيضا بولاية علي بن أبي طالب الدينية والفقهية، و لا تذكر المصادر مرجعا للفتوى أهم من مرجعية علي طيلة فترة الخلافة الراشدة، بما في ذلك فترات أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وقد كان برأيي أول العلماء، إذ يقول الرسول (ص): quot;أنا مدينة العلم وعلي بابهاquot;.
- ثمة أقوال كثيرة منقولة عن الخلفاء الراشدين الثلاثة تثبت أن عليا كان مرجعهم في الفتوى والقضاء، حيث نقل عن عمر بن الخطاب (رض)مثلا قوله quot;لولا علي لهلك عمرquot;.
- إن التقاء الإمامة الروحية مع السلطة الزمنية بعد اختيار علي بن أبي طالب خليفة عقب مقتل عثمان، كان في رأيي حكمة إلهية، فقد جاء علي إضاءة مبهرة للتاريخ الذي سيأتي من بعده، بعد أن تغير المجتمع الإسلامي، من مجتمع دولة مدينة إلى مجتمع دولة امبراطورية، وكان لا بد من أن يشرح الإمام محددات الحكم الإسلامي للحالة المستجدة و وفقا للظروف الطارئة على الأمة، وتكفي العودة هنا إلى وصيته الرائعة المشرقة لواليه على مصر مالك بن الحارث الأشتر.
- و أما المسؤولية في حفظ أصول الدين و روح النبوة، فقد كانت مناط حركة وعمل وتضحيات الأئمة عليهم السلام، و لا يذكر مصدر سني أن إماما من أئمة آل البيت قد لقي من عامة المسلمين المتدينين ما يضيرهم أو يغضبهم أو ينقص من قدرهم أو يمس من حظوتهم و سلطتهم، لكن القواعد التي تحكم الصراعات السياسية والزمنية كانت مصدرا لكثير من العنت الذي لاقاه هؤلاء، و لقد لقي الأئمة من شيعتهم منذ الإمام علي وإلى غاية الإمام المهدي الكثير من العنت أيضا.
وهذه رؤية أطرحها ولست واثقا أبدا من قدرتها على الصمود أمام مدفعية البحث العلمي، ولربما كانت مساهمة تحفيزية لمزيد من العناء الأكاديمي في تناول هذه المرحلة التأسيسية من تاريخ الإسلام والمسلمين، ما تزال تداعياتها وتجلياتها مؤثرة فينا و في العالمين إلى يوم الدين.

* كاتب تونسي