استقبلت نظرية الأمريكي الياباني فرانسيس فوكوياما حول quot;نهاية التاريخquot; في بداية تسعينيات القرن العشرين بكثير من التشكيك وقدر كبير من الاستهزاء ربما. وقد ربطت النظرية في حينها باتهام صاحبها بأنه quot;يطبل و يزمرquot; للولايات المتحدة ndash; وسائر الغرب- بعد خروجها منتصرة من حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي ndash; وسائر المعسكر الشرقي-، وأنه بالغ في تصوير لحظة الانتصار إلى حد تحويلها إلى نهاية، فيما يشبه النبوءات، وهو ما لا يدخل في وظائف العلماء.
بعد ما يقارب العقدين على إعلان فوكوياما لنظريته، بدا أن وقائع عديدة تؤكد صحة نبوءته، ليس في جانبها الظاهر، الذي قد يوحي بأن ساعة القيامة قد اقتربت، أو حتى بالمعنى المباشر الذي فهم منها والذي منح الغرب لقب المنتصر الأخير، إنما بمعنى quot;نهاية المعنىquot; و انهيار المثال الذي يمكن أن يتقدم نحوه الاجتماع البشري.
مشهد العالم الراهن كما يلي: انكفاء الولايات المتحدة على ذاتها ومشاكلها وأزماتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية المتلاحقة، و غرق الاتحاد الأوربي في بحار الشك حول ضرورته وقدراته على مواصلة المشوار ومكانته العالمية و عملته الموحدة وعجزه الإقليمي والدولي في لعب دور فعال وحقيقي، و تراجع اليابان و انشغالها بالحفاظ على استقرار عملتها ومكانتها و تماسك مؤسسات دولتها، وبروز الصين الاقتصادي عالميا لكن دون أي حمولة ثورية أو برنامج انساني أو دعوة عقائدية.
انتصار القطب الرأسمالي على القطب الشيوعي إذن، كان مقدمة لهزيمة لعلها ستأخذ وقتا طويلا لتتبلور معالمها النهائية، فقد كان وجود منظومة مضادة مسألة في غاية الحيوية، يتغذى من خلالها الأنا ويجدد شبابه وطاقاته وأنظمته عبر تحدي الآخر ومجاراته والتنافس معه على مختلف الاصعدة و في جميع المجالات، ولا شك أن التطور الإيجابي للرأسمالية قد توقف بالمعنى التصاعدي للكلمة، منذ انهارت التجربة الشيوعية، و بعد لحظة الانتصار التاريخي بدأت في عمق الجسم الرأسمالي لحظات ضعف تدب ونقاط سوداء تكبر وخلايا سرطانية تنمو و آمارات وهن شامل تلوح في الأفق.
وعلى الرغم من استعداد كثيرين للاعتراض على فكرة أن الرئيس جورج بوش الإبن كان الأكثر وعيا ndash; سواء من نفسه أو بضغط من المحافظين الجدد- بخطورة لحظة الانتصار وأهمية تحويل المشروع الأمريكي فكريا وسياسيا إلى مشروع إنساني عالمي، تتحول معه الولايات المتحدة إلى قوة تدخل مباشر لنشر قيم الحرية والديمقراطية، فإن الواقع يؤكد مصداقية هذه الفكرة، فعندما تحولت الرئاسة الأمريكية إلى الديمقراطيين بوصول الرئيس أوباما إلى الحكم، سيتأكد الجميع من أن سياسة الانكفاء الأمريكي على الذات عقائديا وسياسيا، ستقود إلى كارثة داخلية و خارجية، و ستفضي إلى انهيار غربي دون ظهور بديل قيادي على الصعيد الدولي، و ستبرز في أفق العلاقات الدولية حالة تعدد قطبي بلا هوية محددة أو فائدة جماعية.
اليوم يقف الإنسان بلا نموذج كوني، كما لم يكن في أي يوم سابق في التاريخ، فقد كانت هناك دائما قوة دولية أو أكثر ذات مشروع عالمي، تمكن النخب من خلال الانتماء إليه أو معارضته من إسباغ معنى ما على وجودها، فلوقت قريب كان بمقدور هذه النخب أن تكون استعمارية تسعى ndash; ولو شعارا- إلى تمدين المتخلفين من أبناء أفريقيا وآسيا و أمريكا اللاتينية، أو مكافحة للاستعمار حالمة باستقلال دولها المحتلة المفقرة، و لوقت قريب أيضا كان بإمكان المثقف أن يكون مع العالم الحر، أو مناضلا يساريا من أجل العدالة الاجتماعية، يحلم ببناء دولة البروليتاريا.
خف بريق العقائد والمشاريع الإنسانية الكبرى، وتميعت الإيديولوجيات وغدا الحكام على اختلاف مرجعياتهم مجرد حكام لدول ثابتة، يمارسون السلطة تحت شعارات متنوعة ربما، لكن بالوسائل والأهداف ذاتها، و قد سفهت الممارسة كافة تجارب الحكم على اختلافها، و عاد الجميع متشككا في مبدئية الجميع، و لا بريق لأحد أو مشروع تقريبا.
وتطبيق الأمر على العالم العربي ربما جعل الصورة أوضح، فالعربي اليوم يصعب أن ينجذب للشيوعية لأنها فكرة قديمة ثبت فشلها، و يصعب أن يستمال للقومية العربية، بل إن تاريخه الراهن يدفع إلى مزيد من تفتت الدول القطرية تحت وطأة مشاريع فئوية و انفصالية ضيقة، كما يبدو تعلقه بالليبرالية سيرة مشبوهة و تشكيك بالوطنية، فيما يظهر الخيار الأصولي الإسلامي خديعة كبرى لا تعدم وجود منفرات واعتراضات لا حد لها، فتجارب الإسلاميين في حكم إيران أو السودان أو أفغانستان لم تحقق الجنة الموعودة أو بنت النهضة المنشودة.
و عندما تدرك البشرية لحظة كالتي نعيش، يعدم فيها الإنسان وجود فكرة إنسانية كبرى تساهم في توجيه التاريخ البشري نحو مزيد من الإنسانية والحرية والعدالة، أو تتساوى فيها نظرة البشر للقضايا المطروحة، على نحو ترى معه كافة المشاريع الفكرية والسياسية مجرد شعارات زائفة و وسائل خداع و التفاف لفائدة مصالح شخصية أو حزبية أو فئوية ضيقة، فإنها لن تكون حينها بعيدة عن نهاية التاريخ..حتى يكون هذا التاريخ جديرا بولادة ثانية، و في ذلك بيان لضرورة التدافع كسنة إلهية وحاجة بشرية.
* كاتب تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات