العزل والاعتزال
سنركز، في هذا المقام، على مدلولين أساسيين من مدلولات العزلة هما: التنحي عن الشيء والابتعاد عنه، بمعنى quot;اعتزل الشيء وعنه أو عزله: نحّاه جانباquot;، كأنْ يُعْزَلُ شخص، جماعة، بلد أو ايدولوجيا، وما شابه ذلك، وهذا يعني أيضا، أن يسعى طرف ما (أطراف) بغض النظر عن الوسائل المتبعة، لتقزيم الخصم (المفترض) وتقليص قدرته على المناورة إلى أقصى الحدود من خلال وضعه موضع التساؤل والشك والريبة والدفاع عن النفس مما يؤدي إلى فقدانه روح المبادرة، مثلما يعزل المعتوه والمريض نفسيا. ومن بين عواقب مثل هذه الممارسة هي أن يصبح الخصمُ محدودَ الحركة والتأثير، لأن مصداقيته تعرضت (تتعرض) للطعن والانتقاص بحيث تصل حد السخرية منه. ولعل السخرية من بين أخطر الوسائل - التي لم يلتفت إليها كثيرا في الأوساط العربية المعاصرة- أثرا في إلغاء الآخر والتشهير به، وبهذا المعنى ندخل في نطاق علمي النفس والاجتماع، فيصبح المرء (الجماعة) جراء ذلك بمثابة الأعزل الذي لا سلاح له، فتضيق وتُسَفّهُ حقوقه فهوquot;عن الحق بمعزلquot;، أي كما تقول القواميس العربية: quot;مجانب له، بعيد عنهquot; (القاموس المحيط؛ لسان العرب؛ المورد). وبالتالي فلا رغبة لأحد بالاستماع إليه.
أما المدلول الثاني، فهو العزلة والاعتزال، بمعنى أن يعزل الفرد نفسه عن فكر ما أو جماعة ما، بغرض التأمل أو التنسك أو التصوف أو التزهد، أي الاختلاء بالذات، أو الابتعاد عن شيء وتجنبه، ولنا في المعتزلة خير مثال. وقيل أن quot;المعتزلة قد اعتزلوا فئتي الضلالة: أي أهل السُنّة والخوارجquot; (قاموس المحيط والمورد). وبمعنى الابتعاد والتنحية والتجنب والتجاوز ورد فعل العزل في القرآن الكريم في ثماني سور هي: (البقرة/232/، الدخان/21/، الأحزاب/51/، الكهف/16/، مريم /48-49/، الشعراء/212/، النساء/90-91/، هود/42/). يأخذ مدلول فعل quot;عزلquot; أبعادا خطيرة وهامة حينما ينتقل من حيزه اللغوي إلى فضاء علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والسلوك العام وهنا تكمن خطورته لأنه يصبح ممارسة واقعية يومية. في هذه الممارسة، تضيع حقوق وتهدر كرامات، وهنا تكمن عزلة العرب والمسلمين وعقدة الشعور بالنقص في الوقت الراهن، في عديد من الأوساط، عالميا ومحليا.
عزلة الإسلام وغربته
من يعيش في البلدان العربية والإسلامية قد لا يُحسّ بوطأة عزلة العرب والمسلمين خارجها، ولا بالنظرة الدونية للمسلم أينما حلّ ورحل. فهو متهم بالتخلف وبالنزعة نحو تدمير الآخر المختلف عنه، وبالتالي فهو متهم ولو لم تثبت إدانته وهو عنصر هدّام وغير متسامح. قد تكون كثرة مشاكله وتخلفه من بين أهم أسباب ظاهرة ضمور ذلكم الإحساس وبالنتيجة غياب معالجة أسباب العزلة المذكورة. أما على صعيد التفكير والخلق، فهو برأيquot;الآخرquot;: صنو المقلد، والتابع، لا المجتهد. وهو أيضا رجل تجري روح الاستبداد والتسلط في أعماقه حتى لو أبدى عكس ذلك، لأنه يستند إلى إرث ديني quot;أحادي النظرة، شمولي النزعة، إقطاعي التقاليد والأعراف، يعتبر نفسه وأتباعه مُنَزَّهينَ وخاتمين لكل القيم والأعراف والدياناتquot;. وهم، أي المسلمونquot; يمثلون مجتمعات ذكورية بحتة، لا شأن ودور فيها للمرأة ولا صوت لهاquot;، كما وأن quot;مساهمتهم في الحضارة الحديثة معدومةquot;. وهناك أوصاف كثيرة لا يليق بنا ذكرها. إذن، فالمسلم يقف على نقيض التحضر والديمقراطية والتسامح. كل تلك التوصيفات quot;الصحيحة إلى حد ماquot; وquot;المفبركة إلى حد ماquot; تسمح بخلق حالة هستيريا ضد العرب والمسلمين في دول الغرب قادت إلى نشوء ظاهرة عنصرية إقصائية من طراز جديد- قديم، ضد العرب والمسلمين على وجه الخصوص، تشبه إلى حد ما تلك التي تعرض لها اليهود في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وأدت فيما بعد إلى عمليات القتل والحرق والإبادة والإقصاء زمن النازية مثلا. والفرق واحد: أن اليهود استطاعوا تجاوز محنتهم بدهاء لا مثيل له، حتى قاموا- بإزاحة تلك الممارسات ونقلها إلى طرف آخر هو العرب والمسلمون- (على حد تعبير المستعرب الفرنسي جاك بيرك). بينما أخذ العرب والمسلمون يكرسون فكرة سوء معاملتهم وتجاهلهم ومن ثم اضطهادهم، بجهلهم ولا مبالاتهم وعدم إحساسهم بالخطر الذي يهددهم جميعا. تشير آخر استطلاعات الرأي (ويا ما أكثرها في البلدان الأوروبية وكندا والولايات المتحدة الأميركية!) إلى أن ما نسبته 40% أو يزيد من سكان تلك البلدان ترى أن الإسلام دينا خطيرا غير حضاري وبالنتيجة فالمسلمون يشكلون خطرا ماثلا.
هناك جهات خارجية كثيرة تستغل عجز العرب والمسلمين، لكننا نفرد من بينها طرفين رئيسين يعززان ويرسخان هذه التصورات ويشكلان اعتقادا يترسخ يوما بعد آخر ليرقى إلى مستوى المعتقد، يبرر التعامل مع المسلم، خصوصا العربي، بدونية وعنصرية متماديتين لا رادع لهما. الغريب في الأمر أن هذين العنصرين متداخلان بصورة تثير الريبة والتعجب والسخرية والمقت على السواء. ثمة أطراف سياسية ودينية محافظة (مسيحية ويهودية على حد سواء) تروج للعداء والكره للعرب والمسلمين، لأغراض وأسباب متعددة. ففي الوقت الذي استغلت فئات من هؤلاء الساسة والأحزاب العداء للآخر (خصوصا اليهودي) قبل الحرب العالمية الثانية، للوصول إلى السلطة، أخذ هذا العداء يسير في اتجاهين رئيسين بعد الحرب العالمية الثانية: محاربة الشيوعية، أثناء الحرب الباردة، وتهيئة الأجواء والأرضية المناسبة لتسفيه ومحاربة العرب والمسلمين وتصويرهم بالتخلف والتقليدية والسطحية والشهوانية والسعي للسيطرة على العالم من خلال النفط والعنف! منذ عشرات السنين ونحن نسمع ونقرأ ونشاهد ما يعزز ما أوردناه في الإعلام الخارجي.
الطرف الثاني، يتمثل بالعرب والمسلمين أنفسهم، فهم بتصرفاتهم الغبية المتخلفة على كافة الأصعدة، وعدم احترامهم للقوانين المدنية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، واحتقارهم لمواطنيهم، وتبذيرهم لأموال شعوبهم، وعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم، وعن اللحاق بالحضارة العالمية الحديثة، وبروز ظاهرة التطرف ومحق الآخر في صفوفهم، جعلهم لقمة سائغة يمكن ابتلاعها أو بصقها في أية لحظة. لقد قدم الإرهابيون quot;العرب والمسلمونquot; خدمة تاريخية لا مثيل لها لعزل الإسلام والعرب، بحيث أصبحت كلمةquot;مسلم وعربيquot; صنوا لكلمات: quot;منبوذ، بربري، همجي، خطير، متعصب، غير متسامح، متخلفquot; في المجتمعات الغربية، نعاني منها وتشكل لنا كابوسا يوميا نحن المبتلين بالمنافي والمهاجر.
السؤال الذي يأخذ أبعادا وجودية ويومية كثيرة هو: هل نحن مقبلون على محارق جديدة ضد العرب والمسلمين؟ وهل أخذت تتحقق النبوءة المنسوبة للرسول محمد (ص): بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباءquot;؟ فيا لهما من عزلة وغربة مدمرتين؟!
إسلام العزلة والتأمل
من المفارقات العجيبة هي أن الطرف الذي يدعيquot;الدفاع عن الحرمات ومحاربة قوى الكفرquot; راح بتصرفاته الهمجية يخدم ما يدّعيه ويوصفه بأنه عبارة quot;أعداء الإسلامquot; وquot;قوى الكفرquot;. لم يخدم أحد في التاريخ الحديث أعداءهquot;المزعومين والمفترضنquot; مثلما فعلت وتفعل اليوم قوى الإرهاب والتكفير العربية-الإسلامية. إن ذبحهم للمسلمين فاق ما يقومون به في صفوف quot;أعدائهم المفترضينquot; وهذا يعني أنهم قوى عمياء همجية تقاد كما هو الحال في مسرح العرائس بخيوط تمسكها سرا جهات توظفهم لفعل مثل هذه الموبقات، مدعومين كما حال طالبان من قوى عربية ومسلمة عن طريق المال والفتاوي التي تتعارض ومنطق العقل والمنطق والإنسانية.
المفارقة الأخرى، هي أن العصر الذي سمح بظهور حركات وتيارات فكرية وعقلية وفلسفية وفقهية، مثل حركة المعتزلة التي ازدهرت فأثّرَتْ إيجابا على مسيرة الثقافة العربية، خصوصا في فترة الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق، لكنها انتكست بعد مجيء الخليفة المتوكل (847-861م) الذي اعتمد على السلفية المتزمتة وممالئتها المعهودة للسلطات الإسلامية المتعاقبة.
كانت نزعة المعتزلة العقلانية ونهجها في دعم حرية العمل وتوظيف العقل والعلم والنقل وتشجيع التلاقح الثقافي والحضاري دليلا على حيوية وتفاعلية كل من كتب آنذاك باللغة العربية من العرب وسواهم، ودليلا على حيوية تلك الفترة التي انتهت بضربهم والتنكيل بهم بحيث quot;تقلص سلطان العقل العربي الإسلاميquot; (على حد تعبير الباحث الإسلامي محمد عماره). ألم يُصْدِرْ الخليفةُ العباسي القادر بالله (991-1031م) الذي كان يوصف quot;بالعالِم المتهجِّد الوقورquot; كذا!، كتابه الشهير (مرسومه في واقع الحال) المسمى quot;الاعتقاد القاديquot; الذي أجبرَ أهل الحديث وعلماء وفقهاء السنّة على التوقيع عليه، والذي كان من شأنه تحريم تدريس علم الكلام والمناظرة، وتحريم وتكفير أفكار المعتزلة ولعنهم علنا، وخاصة في صلاة الجمعة؟ أقول: إذا كان الإسلام قد سمح بظهور مثل تلك الحركات والتيارات التنويرية وسواها، فهل يعقل أن يبقى المسلمون يعيشون في ظل عقلية المتوكل والقادر بالله اللذين كما اتضح فيما بعد، أنهما (ومن خلفهما وسار على نهجهما) أدّيا إلى انهيار الحركات العقلية والفكرية، من خلال محاربة وتقزيم دور العقل والاجتهاد في الحياة العلمية والثقافية، الأمر الذي أدى بدوره أيضا إلى ضعف فانهيار الدولة العباسية فيما بعد؟
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فهذا يعني أننا ما زلنا نعيش في الفترة التي سبقت سقوط بغداد (1258م) وما بعدها، وأن التقويم الإسلامي الهجري (1432) يعني فعلا أننا نعيش فيما يعادله في التقويم الميلادي!
عزلة الإسلام وإسلام العزلة
وعليه فالإسلام الذي سمح بنشوء الحركات الفقهية والعقلية والفكرية المختلفة المتناقضة قبل أكثر من ألف عام والذي سمح للمرء بالعزلة والتأمل والتلاقح الحضاري والثقافي واحترام أهل الكتاب وتجنب قتلهم، كان إسلام عزلة وتفكير وحركية وتصوف وجدل وإنصات للآخر المختلف بحدود معقولة، قد صنع ثقافة تجاوزت حدود العرب والمسلمين وأثرت في الآخرين ولو بنسب متفاوتة. لكن الغريب في الأمر والذي يخالف منطق التطور والتقدم هو أن يصبح الإسلام، بعد هذه القرون الطوال، دين تخلف وتحجر وممارسات ونهج انغلاقي، متزمت، بدائي، يقف ضد أي تقدم حقيقي، ويصدر الدمار إلى الآخرين ويذبح ويكفر المخالفين والمختلفين معه من المسلمين وسواهم، إنما هو دليل على تطرف وعزلة هذا الدين وأتباعه، وشتان ما بين عزلة الإسلام وإسلام العزلة والاعتزال والاعتدال!!!
حرر في السادس من كانون الثاني 2011 ميلادية المصادف 2/2/ 1432 هجرية
التعليقات