مقتٌ وإعجاب
منْ يتمعن في السياسة الخارجية الأميركية يجدها تختلف تماما عن السياسة الداخلية. فالأولى، تلتزم إلى أبعد الحدود بدستور البلاد وتسهر على احترامه، وعلى تطبيق القوانين المرعية، وتستجيب قدر المستطاع لإرادة ناخبيها والدفاع عن مواطنيها، على عكس سياستها الخارجية التي تستند إلى إرادة تغلب عليها المصالح الاقتصادية والعسكرية الخاصة وحب الهيمنة، مصحوبة بنهج يتوسل بكافة الوسائل لبلوغ الأهداف. كانت أغلب عملياتها السرية في الخارج وما تزال تتم في منأى عن علم مواطنيها المنشغلين بما يجري داخل البلاد.
سياستها الخارجية خلقتْ لها مناوئين ومنافسين ومؤيدين وكارهين وأعداء. إذن، فنحن إزاء إعجاب حد الافتتان بالمنجز الديمُقراطي والعلمي والتكنولوجي الأميركي من جهة، وخلاف حول سياستها الخارجية ومقت لها من جهة أخرى.
إن مصادر التخوف والريبة التي تصل داخل بعض الأوساط إلى حالة من القرف والكره لسياسة الولايات الأميركية المتحدة الخارجية متعددة. على أن عمر هذه العلاقة السلبية ينحصر في الستين سنة الأخيرة. ولعل الحرب الباردة(عموما، شملت الفترة ما بين سنة 1946 حتى سقوط المعسكر الاشتراكي في 1989) بين المعسكرين quot; الشرقي- الاشتراكيquot; وquot;الغربي- الرأسماليquot; بقيادة الولايات الأميركية المتحدة قد ساهمت إلى حد كبير في استدراج قوى اليسار وحركات التحرر الوطني في العالم لاتخاذ مواقف عدائية ومناوئة لأميركا، وهذا ما لمسناه في العالمين العربي والإسلامي وأميركا اللاتينية وقارة إفريقيا. المصدر الآخر، يتمثل في الموقف من القضية الفلسطينية، وبالذات مواقف الولايات المتحدة quot;المؤيدة للسياسة الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى رفع صفة الحياد والعدل عن السياسة الأميركيةquot;(كما أُشيعَ في الإعلام العربي)، مما خلق لها صورة سلبية في العالمين العربي والإسلامي، ليس فقط في أوساط quot;حركات التحررquot; السابقة وقوى اليسار، وإنما وسط الإسلاميين المتطرفين منهم والمعتدلين على السواء. كما أن الغزو الأميركي لكل من العراق وأفغانستان، وإسناد الأنظمة الديكتاتورية والظالمة في العالم، ومنها البلدان العربية(رغم تباين الأسباب الحقيقية وراء ذلك)، قد زاد الطين بله. من الملاحظ، أن أميركا لم تفعل شيئا يُذكر لتحسين سمعتها المتردية في العالم، وتبقى محاولات باراك اوباما وإدارته الجديدة بسيطة في هذا المجال، خاصة وأن الإرث السلبي الذي تركته الإدارات السابقة، خصوصا، إدارة بوش، ما يزال عالقا في ذاكرة الكثيرين.
أما على الصعيد العراقي حصرا، فقد تعرض الشعب العراقي إلى عملية تدمير مبرمجة ومتعددة الأوجه والمشارب، في ظل الحقبة الصدّامية. فإذا ما تركنا الآثار التدميرية التي ألحقتها الحرب العراقية- الإيرانية الغبية، وغزو الكويت الأكثر غباء، وتوقفنا قليلا عند عواقبهما لألفينا أن الدمار الذي تعرض له المجتمع العراقي لا يوصف، وقد جعله الحصار المريع جراء غزو الكويت عاريا تماما وبكل المقاييس والمستويات. في تلك المرحلة بالذات، قامت الولايات المتحدة الأميركية بالإجهاز على ما تبقى من البنيتين العسكرية والاقتصادية للبلاد(في قصف العراق: في 1991، 1994، 1998)، وتركت مصدر البلاء يصول ويجول بلا رادع، بحيث تشكلت في داخله قناعة أن أميركا لا تستهدفه شخصيا، وعليه فبإمكانه أن يمارس لعبته التقليدية الماحقة والغبية- quot;لعية القط والفأرquot; عسى أن يُتْرَكَ وشأنه.
كان ثمة اعتقاد يتشكل(غذته ماكنة النظام الإعلامية الرهيبة) داخل المجتمع العراقي، فحواه هو أن الغرض الأساسي من الموقف الأميركي من العراق هو تدمير البنية التحتية للبلاد وتحييد العراق على صعيد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وليس معاقبة وتنحية quot;حاكميه المستبدينquot;.
كانت قوى المعارضة العراقية(أغلب ثقلها في الخارج وفي جبال كردستان العراق) تضغظ هنا وتحاور هناك لإقناع المتنفذين في المجتمع الدولي بضرورة مساعدتها بالمال والسلاح لإطاحة النظام السابق من الداخل، بدون اللجوء إلى الغزو المباشر، فلم تستجب الولايات المتحدة وحلفاؤها لهذا النداء المتكرر. بناء على ذلك، انقسم الرأي العام العالمي إلى مؤيدين للغزو ومناهضين له، وظهرت في أوساط المعارضة العراقية قوى ترفض الغزو وأخرى متحمسة له. على أن ثقل القوى العراقية المعارضة المؤيدة ضمنا للغزو كان أكبر من سواه. راحت قوى المعارضة تجتمع في هذا المكان وذاك وفي تلك الدولة وغيرها، حتى أخذت فصائل منها تجتمع مع مسئولين أميركيين رسميين في واشنطن ونيويورك. قام الجانب الأميركي بتوفير المال والغطاء الإعلامي لما سيحدث فيما بعد. حتى أن قسما آخر من المعارضة العراقية قد انتقل سرا إلى داخل العراق تحسبا لكل طارئ، ورافقت بعض المجاميع القوات الغازية أثناء توغلها في العمق العراقي فيما بعد.
ينبغي أن نُذكّرَ بأن إدارة بوش سبق وأن قامت، عبر سنوات قبل اندلاع الحرب، بحملة إعلامية كاسحة محليا وعالميا لإقناع الرأي العام بضرورة القيام بفعل عسكري مباشر ضد quot;الخطر العراقيquot; المفترض. فصُوّرَ النظام العراقي على أنه يمثل دولة مارقة عدوانية تتعاون مع القاعدة وقوى الإرهاب وساهم في كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001. ذكر موقع (Common Dreams. Org) الأميركي بأن quot;نصف الأميركيين أو أكثر كانوا يعتقدون أن العراق قد اشترك في تلك الأحداثquot;.
قال -بول بريمر- الحاكم المدني للعراق- في صحيفة الواشنطن تايمز: quot;لا يمكننا كسب الحرب على الإرهاب باتخاذ موقف دفاعي، لذا ينبغي علينا أن نكون السباقين بالهجوم... علينا قتل الإرهابيين قبل أن يقتلوناquot;. شاعت حمى الإرهاب في الإعلام الأميركي بشكل رهيب. منْ كان يعيش في أوروبا وأميركا أدرك أن الحرب لا مفر منها. لكن ساسة العراق آنذاك كانوا يغطون في أوهامهم ويعيشون في فلك شعارات وانتصارات وهمية وقراءة مغلوطة وفارغة تماما لمجريات الأمور، كانت انعكاسا مباشرا لمستوى العقلية المتحكمة بالبلاد آنذاك التي لا تقبل بأي اقتراح ورأي محايد لإنقاذ البلاد من كارثة محدقة.
في ظل تلكم الأوضاع والأجواء شنت الولايات الأميركية المتحدة الحرب على العراق فقصفت بنيته التحتية العسكرية والاقتصادية ومن ثم توغلت في أراضيه فسيطرت عليها تباعا وأطاحت النظام السابق بوقت قصير، بحيث لم نرَ أكثر من دبابتين في بادئ الأمر واقفتين فوق أحد جسور بغداد ولم نكنْ ندري أين ذهبت أو اختفت قوات النظام الذي تبجح بها طويلا.
حينئذ، فرح من فرح بهذا الحدث الجلل ذي المدلولات والمعاني الكبيرة وغضب من غضب. ولم يكنْ يعني شيئا للعراقيين وعلى الخصوص للأميركيين، موقف القوى المنتقدة والمنددة. على سبيل المثال، كتبت صحيفة (Die Presse ( النمساوية معلقة على الأحداث: quot;إن الحرب الهجومية قد وضعت الولايات الأميركية المتحدة في دور المعتدي الذي يتجاهل القانون الدوليquot; وشاطرها الكثيرون الرأي، لكنهم quot;أعني الكثيرين من المحيط العراقي والدوليquot;، قد عادوا تدريجيا للتعاون مع الأميركيين طمعا في الحصول على حصتهم من quot;الكعكة العراقيةquot; كما اصطلح عليها. غير أن هؤلاء المنتقدين الكثيرين لم يغيروا شيئا في مجريات الأحداث مثلما أنهم لم يلتفتوا ذات يوم لمأساة الشعب العراقي المريعة.
عمليا، لولا الولايات المتحدة لما سقط النظام السابق، على الأقل بهذه السرعة والطريقة.
لقد تخلص الشعب العراقي حقا من نظام دمّرَ مقوماته الحياتية وجَوّعَه وأهانَه واحتقرَه لعشرات السنين، فتأمل بأن يكون الآتي (مهما كان) أفضل مما مضى. فظل يتطلع إلى البديل، إلى ما ستقوم به الولايات الأميركية المتحدة من تدابير سريعة لتحسين أوضاعه المزرية من جهة، وإعطائه الدليل على أن مستقبله أحسن حظا من ماضيه القريب.
لقد قامت الإدارة الأميركية في التخطيط للحرب ببراعة، لكنها لم تكنْ قد قرأت الكثير من خبايا الواقع الاجتماعي والاقتصادي العراقي بالشكل المطلوب ولم تتعامل مع واقع ما بعد التغيير وفقا لخطة ترقى إلى مستوى طموح الشعب العراقي وقواه السياسية، وتتناسب وحجم الخسائر الفادحة التي مني بها هذا الشعب من جهة، وفيما بعد الجانب الأميركي من جهة أخرى، كما وأنها عملت على تقويض المشروع الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة بأن يكون quot;العراق الجديد أنموذجا لشرق أوسط جديدquot;. بالمناسبة، ذكر (بول بريمر) في مقابلة أجرتها معه قناة العربية: quot;إننا تفاجأنا بالوضع الاقتصادي العراقي، لأننا لم نكنْ نعلم مدى سوء وضعهquot;(قناة العربية: 15/2/2006).
بعد كل ذلك، فهل كانت لدى الإدارة الأميركية، حقا، سيناريو لما ينبغي عليها أن تقوم به، بعد سقوط النظام السابق؟ مجريات الأحداث منذ العام 2003 حتى اللحظة لم تثبت ذلك، وتؤكد أن البلاد قد خضعت فعلا لفكرة quot;الفوضى الخلاقةquot; التي كان (بول وولفوفيتز)* أحد مهندسيها البارزين!

الورود وساحة الفردوس والهامَرات
دخلت quot;قوات التحالفquot; العراق وهو في أسوأ حال. كان الاقتصاد مدمرا والمجتمع منهكا، بحيث كان راتب الأستاذ الجامعي لا يتعدى خمسة دولارات شهريا في أحسن الأحوال، ووصلت البطالة ذروتها وانتشرت الفاقة في البلاد. لذلك علينا ألا نتعجب من مواقف شرائح وقوى من المجتمع العراقي، ولا نستغرب حينما قام البعض منهم بتقديم الورود إلى الجنود الأميركيين، ظنا منهم أنهم quot;محرروه الحقيقيونquot; وquot;أملهم الفعلي في خلق مستقبل يعوضهم عن سنوات الحرمان والذلquot;، فأميركا دولة عملاقة متطورة وثرية(Number One) وقد تكون قادرة على تلبية أبسط احتياجات العراقيين اليومية إن كانت جادة فيما تفعل، خاصة وأن البلاد غنية بثرواتها، وما قد يحتاجه الأميركيون من أموال يمكنهم استقطاعه فيما بعد من النفط والغاز الذي لم يستفد منه العراقيون من قبل على شاكلة أهل الخليج العربي.
في خضم فورة المظلوم وفي حضرة الذي quot;حرّرهquot; خرج العراقيون إلى الشوارع مبتهلين مهللين، وقاموا بتدمير نصب quot;القائد الضرورةquot;، وأصبحت quot;ساحة الفردوسquot; في قلب بغداد ذات مدلول ورمز لنهاية حقبة تاريخية، تمثلت في تدمير ومن ثم إسقاط تمثال رمز الظلم والعسف لتلك الحقبة، فصفق لهم الناس ونشرت صورهم وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، وعادوا إلى بيوتهم فرحين، رغم انعدام الرؤية الليلية بسبب شحة التيار الكهربائي وسيطرة الهامرات على كل مكان، وتحليق الطائرات وتلوث الجو وانتشار الدخان. صفقت غالبية الناس لواقع الحال(إيمانا أو طمعا بتحسين واقع الحال أو بفعل فورة ما) عن قرب أو بعد.
كانت تلك الأحداث جساما بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وهكذا تأملت غالبية الشعب العراقي في أن تبقى البداية في ذاكرتهم ذات نكهة خاصة، لأن القادم من الأيام سيكون quot;أحلى وأكثر إشراقاquot;. أصبح العراق بكامله تحت رحمة quot;قوات التحالفquot; وحصرا في ذمة الطرف الأميركي الذي بسط نفوذه في كل مكان. فهل أستطاعت الولايات الأميركية المتحدة على مدى السبع سنوات الأخيرة من إقناع نفسها والعراقيين بتحقيق نجاحات ومكاسب محققة في العراق؟ ولماذا ارتكبت كل هذه الأخطاء الشنيعة؟ وما هو الدور/الأدوار الحقيقية التي تلعبها وتمثلها في الواقع العملي، وهل سينحسر دورها/أدوارها في العراق بعد سحب قواتها المقاتلة منه؟ وهل استفاد أو يستفيد العراقيون من وجود أكبر دولة حديثة في العالم على أراضيهم؟ سنجيب عن ذلك في الحلقة التالية.
* بول وولفوفيتز(مواليد 1943 في بروكلين)- ينحدر من عائلة يهودية بولندية مثقفة- كان والده يعقوب وولفوفيتز بروفَسورا قد هاجر من بولندا إلى أميركا في العام 1920. يعتبر بول من صقور المحافظين الجدد في أميركا. تنسم مناصب حساسة منها منصب نائب وزير الدفاع السابق رامسفيلد ورئيس صندوق النقد الدولي حتى العام 2007. كان صاحب منهج عرف باسمه، رغم أنه نشر بعنوان: Defense Planning Guidance، حصلت على هذه الوثيقة صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; ونشرتها في 8 مارس 1992. فأثارت وقتئذ ردود فعل متباينة. ورغم نأي الإدارة الأميركية عنها، إلا أن معظم العارفين، يؤكدون على أنها أصبحت في الحقيقة الحجر الأساس لسياسة جورج بوش.