كما يقال، أهل تونس أعرف بشعاب وضع البلد وتضاريسه؛ ولكن تطورات الوضع التونسي تمس المنطقة العربية كلها، بل والوضع العالمي أيضا.

الرئيس التونسي أدرك، في اللحظات الأخيرة، خطورة الوضع، واضطر لتقديم تنازلات كبرى يجب على المعارضة الديمقراطية استثمارها للسير من أجل إصلاحات سياسية واجتماعية وفق خارطة طريق عملية مدروسة، ولكن بالتعاون، وليس بالضد، من الرئاسة التونسية. صحيح أن هناك مسألة الثقة المتصدعة، ولكن ساسة التبصر والواقعية لا يحكمون بالسلب مسبقا، بل يجب أن يبدوا المرونة السياسية لإنقاذ البلد من خطر الفوضى، ولوضع الرئيس التونسي على محك مصداقية وعوده والتزاماته المعلنة للملأ كله، وتحقيق الإصلاحات المتدرجة، أولا بأول، بلا هزات عنيفة تزعزع الاستقرار.

إن النظام التونسي ظل مع الأسف مغلقا سياسيا، وفرض قيودا ثقيلة على وسائل الاتصالات. وهو لم يعرف كيف يتعامل مع المظاهرات، وما رافقها من أعمال عنف وتخريب- ربما تتحمل قلة من المندسين مسئوليتها. فقد كان يمكن الاسترشاد بكيفية تعامل فرنسا والدول الغربية الأخرى في هذه الحالات بدلا من استخدام الذخيرة الحية، وما أدى إليه ذلك من سقوط العشرات. والنظام التونسي لم يتخذ تدابير جادة لمكافحة مظاهر الفساد الذي يتهم به بعض المقربين.

يبقى أن دولة تونس ظلت أمينة للعلمانية، التي تكاد تغيب من العالم الإسلامي، وهي لا تزال دولة حقوق المرأة، مما يميزها عن معظم أقطار العالم العربي والإسلامي- ومنها العراق. والتعليم التونسي ظل موضع تقدير المنظمات الدولية المختصة، وأعداد خريجي الجامعات في ازدياد والأمية انحسرت.

لقد سبق للرئيس التونسي عام 1987 أن أسس صندوقين للعمالة وللتضامن الاجتماعي، ووعد، بعد سنوات، بخلق 421000 وظيفة وعمل. غير أن ما تحقق لم يكن عند مستوى المطلوب، ومن هنا مشكلة بطالة حملة الشهادات العليا، وهي مشكلة لا يمكن حلها بين عشية وضحاها لان الاقتصاد التونسي قائم على الخدمات والسياحة والمهن الصغيرة، ولابد من خطط مدروسة لضمان خلق مشاريع تستوعب بطالة الجامعيين- علما بان النمو الاقتصادي التونسي كان أفضل مما جرى في أكثرية بلدان quot; العالم الثالثquot;.

من المؤسف أن تونس بلد فقير بالنسبة لدول النفط والغاز، ولكن مشكلة البطالة الجامعية لابد لها من حلول عملية على المدى المتوسط. وهنا تقع على القوى والشخصيات الوطنية والنقابية الواعية أن تدرس وتصوغ أفكارا وخططا عملية، للحاضر والمستقبل، وأن تقدم مقترحات لحل مشكلة البطالة والإصلاحات السياسية والاجتماعية. وهذا، لا يمكن - في رأيي - من دون التعاون مع بن علي للجلوس معا والعمل معا من أجل هذه الأهداف المشروعة. أما التصعيد بالمطالب، واشتراط رحيل بن علي عن السلطة، فهو موقف غير مدروس، ولم يحسب حساب الفراغ الذي سينجم لو ذهب بن علي: فهل أحزاب اليسار التونسي وأقصى اليسار والنقابات قادرة على إدارة البلد لوحدها، وفي هذا الوضع المتوتر، بينما القاعدة والجماعات المتطرفة الأخرى بالمرصاد؟؟ أم يجازفون باحتمال انقلاب عسكري؟

الوضع التونسي مفتوح على احتمالات بعضها خطير، و من القلب أتمنى لو أن عقلاء البلد تكاتفوا معا للسير ببلادهم نحو الإصلاح والديمقراطية. وتحية لأرواح الضحايا.