(إن الشعب يتكون من أشخاص، وإذا ما بدا بعض الأشخاص يفكرون بطريقة مستقلة فإن الشعب برمته سيرغب في تقرير مصيره).. تودروف

حين ختم زميلنا الشاعر عبد القادر الجنابي مقاله المنشور هنا تحت عنوان : (وهكذا يهوى نظام كتمثال عملاق أُزيحت قاعدته) متسائلا : (هل، قرار هذا الشعب التونسي الزاخر بنخبة عَلمانية وثقافية وسياسية متقدمة قلّ وجودها في العالم العربي، بأن يكون ذا إرادة صاحية، سينتقل عدواه إلى... سوريا مثلا.) كنت أتساءل حينها عن بعض الانسدادات التي يمكن أن تحول دون التحولات في المشرق العربي كما التي حدثت في تونس. والحال أن ثمة الكثير من التباينات التي يمكن أن نلحظها في طبيعة التحول الذي وقع في تونس عبر انتفاضة شعبية أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي في سياق تحولات دراماتيكية لم يكن متوقعا أن تحدث اختراقا كهذا في المنطقة العربية. لم يكن الجميع يتوقع المعجزة لأسباب ظاهرية كثيرة، وهي أسباب قد تكون هي بعينها مثارا للتعجب في إحداث مثل هذه المعجزة. ذلك أن الدرس التونسي الذي بدا مفاجئا ومثيرا، كان يمكن أن يكون تعبيرا عن مسار نمطي آخر في البيات الشتوي العربي. إذن حدث الكثير لتقع المعجزة بالطبع، لكن السبب الذي أدى لخروج الشعب التونسي وتحويله للمسار الاحتجاجي المطلبي إلى مسار سياسي ربما يكمن في حقيقة قد لا ينتبه لها الكثيرون. وهي حقيقة يراها البعض هنا في المشرق العربي مدعاة للتعجب. ذلك أن تونس كما هو معروف حققت في زمن زين العابدين بن علي الكثير من معدلات التنمية المتقدمة في مجال البنى التحتية والنظام التعليمي والبنية السياحية، وهذه التنمية خلقت بطبيعة الحال وجودا حقيقيا لطبقة وسطى بصورة من الصور ؛ الأمر الذي يفسر لنا الكثير التحولات التي يمكن أن تحدث على يد تلك الطبقة، فالوعي هو الذي يصنع المعجزة وليس الفقر المدقع أو الغنى المترف ؛ الإفقار يحدث هنا في المشرق العربي عبر دوله التي أفقرت شعوبها بحسب منهجيات بوليسية ماكرة لا توازيها في ذلك إلا تلك الحال من الترف التي في دول الخليج العربي. والرهان على ذلك الوعي بالطريقة التي تجعل من النظر إلى الواقع نظرا مستقلا هو الذي يختبر، طردا وعكسا، مقياس قوة التدخل الأجنبي في تقرير مصائر الدول والمجتمعات. ومع ذلك فإن تونس بوعي نخبها التي استفادت من نظام تعليمي متقدم، ومن ثم استخدام تقنيات التواصل الحديثة عبر الانترنت، رغم الجفاف الذي أدى إلى إفساد السياسة عبر تغييب بنياتها وآلياتها الموضوعية طوال 23 عاما وفق استرايتجية كانت تنطوي على خطورة بنيوية معيقة، قد تؤدي لا سمح الله إلى انفلات أمني يذهب بها إلى المجهول ؛ إلا أن الشعب التونسي الذي يعرف تماما ما لا يريد ربما أمكنه الوصول إلى ما يريد إذا أدرك طبيعة الحكومة التي ينبغي أن تتولى الأمور عبر تمثيلها لأكثر المكونات السياسية والتكنوقراطية للشعب التونسي. بيد أن هناك حظوظا أخرى في الجغرافيا تدرج تونس ضمن السياقات التي يمكن أن تجعل من سوريا مثلا عاجزة عن تحقيق ما حققته تونس ؛ فتونس التي تبعد مسافة كافية عن الملفات العالمية الثلاث الكبرى في منطقة المشرق العربي والخليج (النفط ـ الإرهاب ـ إسرائيل) قد تكون بذلك البعد يسرت شروط انفصالها من تلك المطحنة العظيمة التي يراد لشعوب هذه المنطقة أن تقبع فيها وفق استراتيجيات دولية يمكن أن نجد تفسيرها التحولات النسقية التي يدور فيها لبنان مثلا، وكذلك في الملفات المسكوت عنها حيال الأوضاع في مصر والأردن الأمر الذي يجعل من قانون التحدي والاستجابة في التحولات السياسية الجذرية لشعوب هذه المنطقة أمرا بالغ الصعوبة، ليس بسبب الفقر المدقع الذي لا يمكن أن تنشأ معه إلا ثورات كلاسيكية من طراز القرن التاسع عشر، بل وأيضا بسبب المصالح الإستراتيجية التي تجعل من تحدي القوى الخارجية كلفة مضافة إلى حال الإفقار المتمادي الذي تهوي فيه تلك الشعوب. ثمة انسدادات كثيرة تمنع سورية أو مصر مثلا من تحقيق ماحققته تونس وهي انسدادات من طينة مختلفة عن تلك التي عانت منها تونس. ولكنها تظل تحديات موضوعية تحيل عليها الكثير من الحقائق الصلبة في الواقع العربي. ذلك أن بلدا مثل لبنان حين يدور في الفراغ النسقي دون أن يكون قادرا على الخروج من تلك الحلقة الطائفية المرعبة رغم التعليم المتقدم الذي تحظى به مختلف طوائفه، فإن ما يستقطب تناقضاته ويدرجه في سوية وطنية بالتأكيد لن يكون تلك الدرجة المتقدمة من التعليم، بقدر ما هو في قدرة نخبه على الإمساك بالمصير السياسي عبر رؤية عقلانية لدولة المواطنة التي تلهج بها تلك النخب دون القدرة على تمثل معناها في واقع سياسي متماسك. وهو أمر سيحيلنا على حفريات أخرى تشير إلى أن بنية الدولة في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا لم تكن موجودة في يوم من الأيام بقدر ما كانت باستمرار انعكاسا لظلال العالم الحديث في الدول الأوربية التي ولدت من رحم اتفاقية وستفاليا بعد حروب دينية وقومية طاحنة ربما كان في تلك العناصر الذاتية والموضوعية التي أدت إلى انتفاضة تونس في وجه نظام بن علي مضافا إليها خلو هذا البلد من طوائف المشرق العربي وقبائله، مايشير إلى تحديد رؤية واضحة ضد التسلط والقمع المتمادي ؛ فما حدث في تونس انتفاضة وليس ثورة الأمر الذي يعني، فيما يعني، احتمالات تندرج في تلك المعادلة التي تقول : إن قدرتك على معرفة ما لا تريد لا تعني بالضرورة قدرتك على ماتريد. فالشعب الذي عرف تماما ما لا يريد ـ أي وجود نظام بن علي ـ نتمنى أن يجسد ما يريده على نحو يترجم تطلعاته عبر نخبه الحزبية والسياسية فهاهو الآن يتخطى أبواب الخوف أمام الجميع في المنطقة العربية. شكرا لتونس.
[email protected]