أذكر ذلك الاجتماع الذي ضمنا في نهاية فبراير 2011م ودار الحديث عن أثر ما حدث في تونس ومصر وهل يمكن أن يمتد إلى بقية البلاد العربية فكان جواب الأخ (حذيفة) أن مبارك سيكون آخر الراحلين، فهل فعلا ستصدق نبوءته فيبقى صالح مفسدا في اليمن، والقذاقي يقذف الدم في ليبيا، والأسد في سوريا يلتهم الخرفان السورية؟
إن التاريخ يسعفنا في إضاءة الحدث، فحين تدفق الناس في باريس يطلبون الخبز في يوليو 1789م، لم يكن يحزر أحد أن الباستيل سوف يهدّ، ورأس ماري أنطوانيت سيطير على المقصلة، ونابليون سيقف على ابواب موسكو حاملا شعارات الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة.
حين اندلعت الثورة الفرنسية لم يكن اسمها ثورة، وحين ختمت تأمل اليعاقبة الرؤوس المتناثرة من الطبقة الارستقراطية بمتعة وارتجت أوربا الملكية برعب..
كانت الثورة الفرنسية مثل الخرفان التي افترست الأسد!
فهل سيصدق هذا على الخرفان السورية فتفترس الأسد؟
وحين بدأ تمرد الجنود في بطرسبرج في روسيا لم يدر في خلد لينين أن ثورة تفجرت؛ فحلق لحيته واعتمر قبعته، وهرب متخفيا في مطاردة المخابرات والشبيحة والتجأ إلى فنلندة حتى حين، بعد أن حدث الشيء العجيب وهو مايسمى (عمى الصدفة) التاريخية، أن يشحنه الألمان من سويسرا مشحونا بعربة مقفلة عبر أرض الجرمان ويلقوه مثل جرثومة الكوليرا في مستنقع فوضى الروس، ثم يعطوه خمسة ملايين مارك ألماني ذهبي ينجح به في ثورة تقوض عرش القيصرية في روسيا وألمانيا معا، وتندلع حرب أهلية مات فيها وتاليها بالمجاعة عشرين مليون بين بلشفي أبيض وأحمر.
وودع البلاشفة البيض روسيا إلى الأبد؛ فأحيوا أمريكا بعقولهم في اختراع الهليوكوبتر والتلفزيون كما حصل مع الدياسبورا السورية.
وهو مارسم قدري الشخصي بالذات وسيطرت علي فكرة أن جيلنا هو جيل التيه والخوف؛ فغسلت يدي من ديار البعث إلى يوم البعث، ولا أعلم هل تكتحل عيني برؤية معسكر الاعتقال السوري الكبير وقد تحرر، كما حررت قوات الحلفاء (تربلينكا) و(أوسشفيتس) و(داخاو) من قبضة النازية.
يذكر فيكتور فرانكل في كتابه (الإنسان يبحث عن المعنى) عن قدر الإنسان في الموت والحياة، أن صدفة عجيبة أنقذته من رصاص النازيين، وهم يحملون المعتقلين بالشاحنات، ويتدافع الناس على ركوبها، ولم يخطر في بالهم أن رشاشات النازيين سوف تحصد ماتبقى منهم كما تفعل رشاشات وقناصات البعثيين في سوريا.
لينين لم يتصور أن تنفجر ثورة في روسيا وكان يكرر بمرارة 300 عام من حكم القياصرة لماذا لايستمر 300 عاما أخرى!!..
وثوار باريس لم يخطر في بالهم أن تفترس الخرفان أسود البرية!
ولكن المعجزة حدثت كما يكتب الشعب السوري التاريخ هذه الأيام...
الثورة السورية هي مخاض نازف كما هو الحال مع أي حامل تضع جنينها..
قد ينتهي بولادة غلام سليم، وهو ما نأمل، ولكن لاتأتي الرياح بما تشتهي السفن ..
أم للإنسان ماتمنى فلله الآخرة والأولى..
وقد تتعضل الولادة فينقطع الأكسجين عن دماغ الجنين فيأتي إلى الحياة بعطب لايزول.
وقد يولد خديجا قبل وقته يحتاج لحاضنة.
وقد تتعسر الولادة بمجيء معترض، وحوض ضيق فيموت.
وقد يكون ارتكاز المشيمة معيبا فتنزف الأم فتموت ومعها الجنين، مالم تسعف بقيصرية سريعة، ولعل المنظر الليبي يقترب من الوصف الأخير؛ عملية قيصرية دموية على يد أطباء غير مدربين..
أو وهو الأقبح من كل التصورات السابقة أن يكون الكود الوراثي فيه أخطاء وراثية، وهو قدر الكثير من الأطفال، سواء بشكل واضح كما في المنغولية، أو غامض لاحق يتبدى في سنين لاحقة كما في السكري والسرطان وهشاشة العظام وحثل العضلات...
الثورة السورية تخضع لنفس المعايير بفارق أنها تحتاج إلى علماء نفس واجتماع وفلسفة وتاريخ يستطيعون أن يقتربوا في التصور ماذا ينطبق على الوضع السوري؟..
عندي تساؤلات ثلاث مازلت لا أحظى بالجواب عنها:
ـ من هو الدماغ الفعلي المنظم لكل هذه الثورة؟ من هو هورمون الولادة كما في الحامل؟
قال لي عصام أستاذ جامعة كونكودريا في مونتريال أنه استفاد من فيلسوف فرنسي بـ (نظرية البطاطا) أنه ليس لها بذرة بل تخرج الجذور من كل جوانبها، وكذلك حال الثورة السورية لحسن الحظ، فلو كان لها قيادة مركزية لخنقت منذ بدايتها..
ذلك أن طبيعة النظام السوري دموية جدا، وخبرتنا به طويلة لمدة نصف قرن، ووصلت حالة الشعب السوري إلى وضع المريض المسجى لفترة طويلة بدون حراك فأصيب بقسط المفاصل وعسرة الكلام بتأتاة ورترتة..
ولم نكن نظن أن يصمد في وجهه أي تنظيم سري أو علني، وما حدث أن الجماهير خرجت بدون رأس وتنظيم، وطبيعة التنظيم الثوري الحالي هلامي لايستطيع النظام البعثي الدموي أن يمسك به! كلما أمسك بطرف أو جذر تملص آخر وبزغ شرش جديد، كما في نظرية البطاطا وعفوا فالتسمية من عندي وأستاذ الجامعة كان أقرب لفكرة الهيكل الهلامي.
وهو أمر كتبت عنه بالتفصيل في كتابي (النقد الذاتي) عن طبيعة التنظيمات السرية خاصة منها المسلح، وأنه لاحظ لها بالنجاح أمام حزب متمرس على التهام خصومه مثل دراكولا بالظلام، وهو ماقدر عليه بذبح مئات الآلاف في تل الزعتر وتدمر وصيدنايا...
قالت سوزان كليبلة في مقابلة خاصة للعميد طلاس أنه كان يوقع على إعدام 150 ضحية في الأسبوع في دمشق لوحدها، ويتابع بقهقهة هستيرية ألا ترين إنها طريقة ممتازة : البتر (Amputation) فقد هدأت سوريا أربعين عاما..
تقول كليبلة مراسلة الشبيجل الألمانية كان يضحك وخلفه صورة أصلية من رسومات هتلر، وتحت سيقانه زرابي إيرانية مبثوثة، وفوق رأسه ثريات الكرستال..
لقد وصل كما قال عنه رياض الترك إلى مايريد !!..
السؤال الثاني كم سوف تصمد الثورة أمام ماكينة الهرس والدم الأسدية؟؟
والسؤال الثالث متى وكيف ستخرج سوريا من حمام الدم؟
أذكر جيدا حين اجتمعت بعائلة مغربية في أغادير فسألوني عن سوريا فاختصرت الوضع بثلاث كلمات: سوريا أسد وغابة وعصابة..
أهم مافي الثورة السورية هو تغيير رصيد مابالنفوس، فقد تغيرت سوريا ولم تعد غابة للأسد المفترس...
على السوريين أن يعتمدوا المبدأ الذهبي: تفاءل بالأفضل واستعد للأسوأ..
وعليهم الاستفادة من نصائح (كارنيجي) في كتابه (دع القلق وابدأ الحياة) أن من يريد أن ينام جيدا عليه أن يحسب حساب الأسوأ..
وعلى الثوار تذكر عمر بن الخطاب وهو يختار قواده: هذه الحرب تحتاج الكميت الحذر ولبيس المتحمس العجول..
وفي الإنجيل كونوا بسطاء كالحمام وحكماء كالحيات..
وفي القرآن من سورة النساء خذوا حِذركم فانفروا ثبات (مجموعات صغيرة) أو انفروا جميعا وإن منكم لمن ليبطِّئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا، ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما..
معنى هذا الكلام أنه قد تأتي لحظة يتصدع النظام بعد أن وصل إلى شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم..
وقد يصمد شهورا أخرى!! فمال إيران وافر، وخزائن مخلوف عامرة، ورواتب الشبحية جاهزة من النظام وسرقة المواطنين والعملة المزورة..
الشيء الأكيد أن سوريا تغيرت ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله...
وأن عسى ان يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون..
أما توبة بشار والإصلاحات فهي من الخرافات !!!
جاء في كتاب (أفضل الخرافات) لـ (جان لا فونتين) عن اعترافات الأسد والحمار عندما ضرب الطاعون الغابة. فقال الأسد يجب أن نقوم بالاعتراف بذنوبنا فنقدم الأضاحي وسأكون أول المعترفين: أعترف لكم أنني لم أقاوم شهيتي فأكلت الكثير من الخرفان، مع أنها لم تؤذني قط، بل لقد عرف عني أنني كنت أتذوق لحوم الرعاة وكأنها فطيرة محشوة مثل الفلافل الشامية؛ فإذا دعت الحاجة فأنا مستعد للموت، ولكنني أظن أن على الآخرين أيضاَ أن يعترفوا بذنوبهم؟
همهم الجميع: نعم .. نعم.
قفز الثعلب وقال: كيف تقول ذلك يا ملك الغابة. إن وساوسك هذه لمرهفة الإحساس أكثر مما ينبغي، ولعمري إن الخراف قطعان نجسة فظة تستحق أن تفترسهم ومعهم الرعيان؟
هكذا تكلم الثعلب فضجت الغابة بالهتافات بحياة ملك الغابة.
ولم يجرؤ أحد على مراجعة ذنوب النمر والدب والذئب والثعلب والضباع، فقد اتفق الجميع أن كلاً منها قديس لا يلمس.
وهنا وقف الحمار فقال يا قوم أريد أن أعترف: لقد مررت بجانب دير فأعجبني اخضرار العشب فقضمت منها قضمة بعرض لساني وملء فمي وكذلك سولت لي نفسي .. بصراحة .. وهنا ارتفعت أصوات الاستهجان تندد بالحمار المجرم، وشهد (ثعلب) عنده علم من الكتاب فصاح: أيها الحمار اللعين لا تتابع فقد عرفنا مصدر البلاء.
وشهدت بقية حيوانات الغابة أن الحمار فعلاً منكر الصوت قبيح الرائحة متقرح الجلد فظ الأخلاق. فحكموا عليه بالشنق، فكم هو وضيع بغيض الاستيلاء على عشب الآخرين؟
فاقتيد الحمار للموت وهو ينهق بأعلى صوته.
فهذه هي إصلاحات بشار أسد الغابة وتصريحات المعلم بدون علم، وفتاوي البوطي بطربوش عصملي...