أرسل لي رجل لم يكن يستوعب نظريتي في اللاعنف وسيلة ناجعة لدحر الديكتاتوريات وولادة الإنسان الموحد محررا من علاقات القوة فكتب يقول:
السيد الكريم خالص جلبي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعد،
لقد كنت دوما أقرأ مقالاتك التحليلية المختلفة، ولم أكن (والحق يقال) اقتنع كثيرا بمقولاتك، خاصة ما يتعلق منها بالسلام، رغم أني كنت أعجب كثيرا من حماسك البالغ وإيمانك الشديد بكون السلام هو طريق النصر. كانت فورة الشباب في دمائي والتي يستخفها الطرب للقوة، تنكر تلك النظرية. حتى إني أذكر أني منذ سنتين (وبالضبط) عندما كنا نشاهد العدوان الإسرائيلي على غزة وما استعمله من وحشية، أرسلت إليك رسالة أنكر فيها نظريتك السلمية، وأضرب المثال بما يقع من أحداث وعدوان إسرائيلي يستوجب القصاص والرد بالمثل. لكني عندما شاهدت بالملموس والمحسوس كيف أن ثورتين سلميتين منذ بدايتهما، ودون إطلاق رصاصة واحدة (من طرف المتظاهرين) أسقطتا نظامين من أعتى الأنظمة البوليسية القمعية التي توسلت بكل وسائل القوة، آمنت حقا بنظريتك. نعم إن السلام لينتصر حتى وإن بدا في الظاهر أن القوة المتغطرسة تنتصر. ولكم أحب الآن أن أقرأ مقالاتك لأنها تبدو مستنيرة بحكمة الشيوخ...
تحية طيبة لك أيها السيد الكريم.
تحية مفعمة بعطر المحبة والسلام
.

وكان جوابي له
الفاضل عيسى
الجدل لاينتهي ولكن الواقع يتكلم بلغته الخاصة وقد ينقلب ا لأمر فتنقلب وتقول ما كنت تؤمن به سابقا
ولذا فالقرآن يقول يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أظلم عليهم قاموا
أما من تبدت له الأمور فهو ينظر بمنظار التاريخ
والرؤية التي توضحت لي جاءت من مزيج علوم كثيرة
وفي قناعتي أن ما حدث في مصر زلزل قناعات أناس كثيرين
وما حصل في مصر لم يحدث في تاريخ البشر بهذا الكمال إلا بعثة النبي ص
فلم نشهد مثل هذا الحدث بهذا الكمال والأناقة حتى في عهد الصحابة الذين اقتتلوا
ومازال الشيعة يضربون أنفسهم كل عام بالسلاسل والمنجنيق
فهم في مربع الزمن مختنقون يكاد البرق يخطف أبصارهم
النتائج هي التي تحكم ولكن كم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون مع كل الحب والتقدير
ثم ختمت له رسالتي بهذا البحث الذي كتبته قبل سنوات وتحققت رؤياي حقا في ثورة تونس ومصر وكان وعد ربي حقا..
عندما يبطل سحر رجال الأمن
لا يحتاج الحق للظهور إلا الحضور وما يبديء الباطل وما يعيد. والباطل والطاغوت لا يحتاج أن يقتلا، بل يكفي حضور الحق. ولكن الكثير يؤمنون بأن القتل سيد الحلول. وبأن حضور الحق والباطل معا يعني تفوق الباطل. ذلك ظنهم بربهم أرداهم.
وقوة (لا) الناعمة غير موجودة في قائمة التعامل السياسي عندنا، بل نؤمن أن الانقلاب على الانقلاب سيعيد الأمور إلى نصابها، وهو ضلال اتبعناه منذ الانقلاب الأموي على الحكم الراشدي، فلم نقترب من الحكم الراشدي إلا بعدا، وذبح العباسيون خصومهم أكثر من الأمويين، وختمت على يد العثمانيين بفتوى من شيح الديار الإسلامية؛ بأن يقتل كل أخوة السلطان يوم توليه السلطة، ولو كان في المهد صبيا، وبآية من القرآن أن الفتنة أشد من القتل، وهكذا حكمتنا الجاندراما والسيف والمخابرات ومازالت، فنحن نتبع ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.
كل هذه المقدمة أردت بها رواية واقعة بسيطة لم تقلها قناة فضائية، ولم تعني بها محطة إخبارية، كما أن دعاة الجهاد أبعد ما يكونون عنها.
شيخ يدعو إلى اللاعنف في الريف، في بلد عربي ثوري، يعمل درسا لأقل من عشرة أشخاص، في قرية لايزيد سكانها عن مائة إنسان، اهتزت له عروش المخابرات لانتشار مثل هذا الفيروس الخطير المهدد، بأشد من حمى الطيور، كيف يتجرأ هذا الأخرق أن يعمل درسا يدعو إلى السلام بدون موافقة رجال الأمن؟
طلبوه للفرع فرفض الامتثال وقال لهم لا .. لن أحضر .. يمكن أن تأتوا أنتم وتعتقلوني أو تضربوني بسياراتكم وتقولون أنه حادث قضاء وقدر؟
قالوا له أنتم تعمل درسا بغير ترخيص؟ قال لهم منذ متى احتاج الأنبياء أن يأخذوا ترخيصا لنشر أفكارهم؟ قالوا أنت ممنوع من التدريس؟ قال سوف استمر وامنعوني أنتم.. أما أن امتنع أنا فلا.
قالوا حسنا إن لم تحضر إلينا حضرنا نحن إليك لاستنطاقك؟ قال افعلوا ما يحلو لكم. فاقتحم المسجد الصغير رهط من عناصر الأمن فأحصوا المسجد عددا وأصغوا إلى درس الشيخ وجلين متوترين.
ثم حضر لمنزله أحد السحرة مع جماعته قالوا له أنت مخالف للقانون؟ قال حسنا أنا أعصي القانون الخطأ فعاقبوني عليه؟ قالوا له تحتاج إلى أذن للتدريس ؟ قال هو منطق فرعون عندما آمن السحرة فقال لهم آمنتم بهم قبل أن آذن لكم .
أقلق هذه الواقعة رجال الأمن وأقضت مضجعهم في العثور على حل لمرض خطير، فبدأوا في إحصاء الحاضرين نساء ورجالا، وطلبوهم لمراجعة الفرع الأمني، فمنهم من سن سنة الشيخ وقال لمن أحضر، وكان رجلا قد نام في سجونهم وأقبيتهم سنتين ونصف لأنهم فتح موقعا محرما للمعارضة في الانترنت، ومنهم من راجع فبدأت حفلة منكر ونكير، في أسئلة تبدأ من الطفولة عن نوع الحليب الذي كان يرضع، وهل أحد من أهله سجن أو هرب أو اعتقل أو قتل؟ هل هو حزبي وله توجه في الحياة أم يعيش نباتا يدرس وظائف النبات ويتقيد بتعليمات المزرعة.
وفي النهاية جاء التهديد والتخويف أن حياتهم مهددة ومصادر رزقهم مقطوعة. ولأن الحاضرين كانوا قد أخذوا لقاحات اللاعنف فلم يفعل لهم الحضور والتهديد شيئا.
هذا الأسلوب من ممارسة العصيان المدني هو الذي أحرق نظام شواسسكو فمضى غير مأسوف عليه، حينما تعرضوا لراهب في مدينة تيمي شوارا، وقد يفعل هذا مع داعية اللاعنف العربي الذي ذكرناه.
ومن الملفت للنظر أن هذه الأنظمة الثورية من بقايا الجيوب الستالينية زالت هيبتها وفل حدها وآذن الله بأجلها، وهي أشبه بالمعلبات أو الأدوية الفاسدة التي فات وقت صلاحيتها ويجب أن تزال من الرفوف.
ومن الملفت للنظر أن أول مرة يحدث أن تتحرك مظاهرات للمطالبة برفع قانون الطواريء فلا يعتقل الناس ولا يفتح عليهم النار.
إن شعبا واعيا لا يمكن أن يركب رقبته ديكتاتور، فهذه حقيقة اجتماعية مثل دورة الفلك.
وتبقى الشعوب ترزح في الذل مع موت الأنظمة؛ لأن دابة الأرض غير موجودة فأكلت منسأة سليمان وكان سليمان جثة فسقط. أو لعلها موجودة فالحشرات تقضم العصي ببطء.
متى يا ترى ستكنس هذه الأوضاع ويبدأ ربيع جديد ؟؟
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا.
إن رصيده في عالم النفوس.
وحين يؤمن الناس بطريقة هذا الشيخ اللاعنفية فإن سحر رجال الأمن سيزول . ومتى انكسر حاجز الخوف والهيبة انكسر العمود الفقري للنظام فهلك..