ماحدث في شوارع القاهرة بتاريخ 25 يناير 2011م كان هائلا؛ فالزلزال التونسي شقَّق الأرض في قرطاج، وأرسل الحمم إلى الأزهر وقصر عابدين؟ فداخ شيخ الإسلام، وارتعش العجوز الثمانيني بيد باركنسون.. مذكرا بقصة فرعون وكهنة آمون...
ونادى فرعون في قومه قال أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذه المعارضة السخيفة؟؟ فاستخف قومه فأطاعوه أنهم كانوا قوما فاسقين؟؟
هذه المرة يخرج له من رحم التاريخ موسى مقلوبا، بشعب بني إسرئيل متمرد بدون عصا موسى..
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .. خلق الله السموات والأرض بالحق ..
ولأن قراصنة الشعوب قد خطفوها بطائرة الزمن؛ فعلينا توقع نتائج كل اختطاف من فوضى ودمار وقتل ودماء؟
يبدو أن مصير العالم العربي يتأرجح بين الدكيتاتورية والتفسخ كما حصل مع سلطان بغداد المالكي؟؟
يشبه النظام المصري قط مريض عاجز يحوم حول أنفه مجموعة من الذباب لايملك لهم طردا، ولايملكون له قتلا وأكلا.. فيهتفون في الشوارع بلعنه ومن معه إلى يوم الدين؟
لنتصور مثل هذا أيام العجل الناصري؟؟
كانت الديكتاتورية يومها شجرة أصلها من أرض الجحيم طلعها كأنه روؤس الشياطين؟
واليوم تجتث من فوق الأرض مالها من قرار؟؟
الأنظمة الديكتاتورية عاجزة والمعارضة أعجز، والمعادلة بينهما هي معادلة الضعف والعجز؟؟ فلم يتشكل بعد تسونامي هادر..
مع ذلك فأول الوضع في الحمل عصرة، وأول الغيث قطرة، تتبعها عصرات وزخات حتى تحي الأرض بعد موتها، ويستقبل الجنين الحياة الجديدة..
مشكلة المشاكل في العالم العربي هي جيل من الحكام العجايز الذين شاخوا وشخروا على الكراسي وضربوا الأرقام القياسية في الجلوس على ظهور شعوب بئيسة لم تخرج بعد من ظلمات القرون الوسطى، يشفع لهم فكر ديني يعيد إنتاج ثقافة آبائية ميتة، يجب أن تدفن بخشوع مثل دفن الجثث..
هذه الظاهرة الفظيعة حول الإدمان على تعاطي هيروئين القوة، كما طمـأنت هيلاري صديقها بجنب أهرام خوفو بأنه سوف يبقى راكبا ببركة اليانكي والسونكي على ظهور العباد إلى يوم التناد، في تقاطع رائع بين هبل العالم الكبير أمريكا، والطغاة الترانزستور المتناثرين في سفاري العالم العربي..
لنمضي في تحليل الظاهرة من رحم التاريخ؟
يذكر (تزفتيان تودوروف) في كتابه (اكتشاف أمريكا) مذبحة مروعة حدثت في (كاناو) في كوبا عندما بدأ الأسبان في اجتياح أمريكا.
تبدأ الحادثة بظرف عرضي أثناء تناول طعام الإفطار في مجرى جاف لإحد الأنهار عندما يلفت نظرهم الأحجار الصوانية المكتظة ما ألهمهم فكرة شحذ سيوفهم. وعند اقترابهم من أحدى القرى الهندية راودتهم فكرة ابليسية فلماذا لايتحققون من حدة سيوفهم إن كانت قاطعة بالدرجة الملائمة.
وفجأة يستل أسباني السيف وسرعان مايحذو المائة الآخرون حذوه ويشرعون في تمزيق أحشاء أهل القرية الذين كانوا يتأملونهم بوداعة وسلام.
وفي دقائق معدودة لايبقى على قيد الحياة أحد.
ولدى دخول الأسبان بيتاً كبيراً مجاورا ً هرب إليه من تبقى من أحياء شرعوا بقتل جميع من كان هناك ضربا باليمين حتى سال الدم في كل مكان كما لو أنه قد جرى ذبح قطيع من الأبقار.
ومن بعض اللقطات من هذا الفيلم الاسباني الذي يستوحي زخمه من مصارعة الثيران أنه:(عندما نزل الشاب الهندي لمحه جندي أسباني فاستل سيفاً قصيراً ووجهه إليه كما لو كان يريد الاستمتاع بضربة في خصره تعري أحشاءه. ويحمل الهندي المسكين أحشاءه في يده ويهرب من البيت راكضاً ويقابل القس الذي يحدثه فوراً عن أمور الإيمان ( بأية لغة؟) بقدر ماكانت تسمح بذلك الحالة المؤلمة جاعلاً إياه يفهم أنه إذا كان يريد أن يُعمَّد فسوف يذهب إلى السماء ليحيا مع الرب. والحال أن المسكين يجيب وهو يبكي ويتأوه من الألم كما لو كان يهلك في اللهب بأنه يريد ذلك، عندئذ عمده القس ثم سقط الهندي ميتاً على الأرض).
هذه القصة هي لون آخر من السادية التي ينخرط فيها بعض الناس تحت عوامل سيكولوجية شتى ليس أقلها الشعور أن (الآخر) لايساوي شيئاً أكثر من تجربة تافهة، في ظل بعد عن العيون، واختفاء عنصر المساءلة والردع، وزهو القوة بامتلاك السلاح.
منذ الستينات يتناقش علماء النفس عن هذا اللون من الانحراف وكيف يحصل؟ وماهي العناصر التي تتفاعل لتوليده؟
لقد ذهل العالم (النفسي الاجتماعي) الأمريكي (فيليب زيمباردو) من تحول الناس العاديين في ألمانيا النازية الى قتلة ساديين وعندما كانوا يسألون كيف فعلتم مافعلتم؟ كان جوابهم بكل بساطة: هكذا كانت الأوامر ولم يكن علينا سوى تنفيذها.
أحقاً كانت الأوامر فقط أم كان مرض (امتلاك القوة) عندما يسقط البعض ويعتلي ناصية أقدارهم آخرون؟
هل القسوة والسادية سببها (خلل جيني) أم خليطة كيمياوية من (تفاعل التربية والوسط الاجتماعي)؟
لماذا تحدث كل هذه الوحشية في السجون والحروب الأهلية؟
لماذا ينزل جندي في مدينة حماة من القوات الخاصة الى قبو لجأت إليه خمسون امرأة يحتمين من الحرب الأهلية الدائرة فيحصدهن بالرشاش إلا واحدة حمتها والدتها بجسدها فخبأتها تحتها؛ فبقيت يومان تسبح في الدم ورائحة الجثث لتبقى الشاهدة الوحيدة تروي قصة الانسان الوحش.
يقول (ميشيل فوكو) عن (تاريخ الجنون) إن استئصال الرحم عند المرأة مازال في اللغة الطبية يعني حتى اليوم (إزالة حالة الهستريا)(Hysterectomy).
لقد استأصلهن الجندي الهمام بضربة واحدة مالها من فواق.
تحت تأثير أمثال هذه الصدمات التاريخية لم ير الكاتب البلغاري استاذ السوربون (تودوروف) لرد الاعتبار والتكفير عن الذنوب التي اقترفت مع فتح أمريكا أفضل من إهداء كتابه (مسألة الاخر) الى المرأة الهندية؛ فخلال الحرب أسر القائد (آلونسو لوبيث دي آبيلا) هندية حسناء كانت قد وعدت زوجها بأنها لن تكون لإحد سواه.
وهكذا فإن أية محاولة للإقناع ماكان لها أن تنجح في ثنيها عن الرحيل عن الحياة بدلاً من أن تسمح لنفسها بأن يدنس جسدها رجل آخر.
وهذا هو السبب في أنهم قد ألقوا بها إلى الكلاب الضارية المدربة على تقطيع اللحم فالتهمتها في دقائق فكأنها لم تكن؟
يقول (زيمباردو) إن الجلاد والضحية يقعان في حالة انكسار (رافعة القوة) فيختل توازنهما النفسي معاً ويتحول كلاهما الى مريض نفسي (Psychopath).
وبالتالي فإن كلاً من القتلة الساديين المجرمين والمعذبين المتمردين يتم برمجتها في (نظام) مريض.
يقول (فولفجانج شول Wolfgang scholl) من معهد (هومبولدت Humboldt) في جامعة برلين:
(إن هناك القليل من الأبحاث التي عنت بعلاقات القوة ولم تأخذ بعد أهميتها على الرغم من تأثيرها في الحياة اليومية).
وفي التجربة التي أجراها (زيمباردو) على السجانين والمسجونين في تجربة ستانفورد الشهيرة لم يخرج المتطوعون من هذه التجربة (البريئة) بدون أثر بل بقوا الى وقت طويل تحت تأثير الصدمة وهم يستعرضون شريط الوقائع حين تفنن السجانون في تعذيب الضحايا الى درجة إغراقهم في قاذوراتهم الانسانية ودفعهم الى اللواط ببعض.
إن وقائع سجن (تازمامارت) في المغرب صدمت الضمير المغربي والعالمي عن عمق المأساة التي عاشها رجال في قبور حقيقية عشرات السنوات وهي عينة من العالم العربي الذي يعيش أيام الباستيل قبل الثورة الفرنسية.
إن تجربة (زيمباردو) لم تتكرر منذ عام 1971 سوى على شكل فيلم في ألمانيا في شهر مارس بعد ثلاثين سنة.
كذلك فإن (مالكي القوة) من الحكام السياسيين ورؤوساء الشركات ليسوا بهذه الدرجة من الغباء أن يفتحوا ملفاتهم السرية لعلماء النفس ويخضعوا للسؤال بحيث تكون مفاتيح سيطرتهم تحت ضوء الوعي وموضع التحليل العلمي.
يعتبر عالم النفس السلوكي (سكينر) إن كل شيء خفي مطوق بالأسرار يحتفظ بلون من القدسية، وتتبخر كل الهالة من حوله حين معرفة سره ونقله الى القانون العلمي:
(إننا نعترف بهذه العلاقة الغريبة بين التقدير وعدم وضوح الظروف المسيطرة. ويختلف مدى التقدير باختلاف ضخامة الظروف المضادة. فيتناسب ثناؤنا على الولاء مع حدة الاضطهاد، وعلى الكرم مع أهمية التضحيات، وعلى العزوبية مع شدة الميل للانهماك في المتع الجنسية... ويستمر لاعب الناي في العزف رغم وجود ذبابة تحوم حول أرنبة انفه، ونحاول ألا نعطس في المناسبات الوقورة، ونأكل الطعام على مهل في حين نشتهي أن نلتهمه كالوحوش الكاسرة، ونمد أيدينا بتؤدة ودون لهفة الى المال الذي نشتهيه، ونفضل أن نتعرض للحرق ونضع الصحن الحار في بطء بدل أن نتخلص منه بسرعة لاتليق بهيبتنا. إننا نحاول أن نكسب تقديرا عن طريق إخفاء التحكم أو تغيير مظهره. أما العلم فيسعى بطبيعته لايجاد تفسير للسلوك أكثر كمالا فهدفه تدمير الخفايا والأسرار).
ولذا كانت الذاكرة الانسانية مشبعة بفكرة المعجزات وجاء الاسلام بحرص وإصرار لكسرها وإدخالها تحت مفهوم (سنة الله) وأن المعجزة لاتخرج عن قانون سرى مفعوله على شكل (نوعي) وبهذا المفهوم يتعانق العلم والأيمان.
ويشير (سبينوزا) في كتابه (اللاهوت والسياسية) الى هذا الخطأ عن تصور المعجزة:
(يوجد الله بمقدار قهره للطبيعة وهذا جهل بفكرة الله والطبيعة على حد سواء... إن قوانين الطبيعة الثابتة أعظم دليل على وجود الله بل إن المعجزة لاتحدث خارج الطبيعة بل داخلها مع أننا نصفها بأنها فوق طبيعية وبذلك يؤدي الإيمان بالمعجزات الى الالحاد. ولم يستطع مدعي النبوة الكاذب إقناع الناس بنبوته مع أنه أجرى المعجزات).
يعتبر كتاب (مالكو القوة The Powerholders) الذي كتبه عالم النفس الاجتماعي (ديفيد كيبنسDavid Kipnis) الذي صدر في منتصف السبعينات من أكثر الكتب المدرسية التي تحلل وتصف على نحو تأسيسي (مظاهر التحول في القوة).
وكما يرى (برتراند راسل) في كتابه (القوة The Power) أنه إذا كانت القوة النووية هي الأساس في علم الفيزياء فإن (السلطان) هو الطاقة الأساسية في المجتمع.
وكما كان للطاقة في الطبيعة مظاهر تحول كذلك السلطان في المجتمع مثل تحول سلطان الكهنوت أو المال أو السياسة الى شكل آخر، وهو يعدد من مظاهر السلطان هذه ستة:
(الكهنوت والملوك والسلطان العاري والثوري والاقتصادي والسلطان على الرأي أي آلة (الانفوميديا) بامتزاج الاعلام مع المعلومات) تماماً كما في تحول الكهرباء الى طاقة حركية أو حرارية أو حتى انفجارية تدميرية ويقابلها عمل الطغاة في المجتمع فيدمرون ويفسدون في الأرض ولايصلحون.
يقول (راسل):
( السلطان هو المفهوم الجوهري في العلوم الاجتماعية تماما كما أن الطاقة هي المفهوم الجوهري في علم الطبيعة. وللسلطان كما للطاقة مظاهر شتى. منها الثراء ومنها التسلح، ومنها السلطات المدنية، والتأثير على الرأي العام، ولايمكن اعتبار أيا من هذه الأشكال تابعا للآخر، كما أنه ليس ثمة شكل واحد تشتق منه بقية الأشكال الأخرى. فالسلطان كالطاقة يجب أن يعتبر متنقلا من أي شكل من أشكاله الى الشكل الآخر. وعلى علم الاجتماع أن يتحرى وضع القوانين التي تنظم مثل هذا التحول أو التنقل). وعندما يعلل (راسل) هذا العطش الى القوة يرجعها الى طبيعة خاصة في الانسان تفرقه عن الحيوان فثعبان (البوا) ينام بمجرد أن يزدرد فريسته فلا يتحرك الا بشهية جديدة الى الطعام.
ولم يكن ينقص (كزركسيس) العاهل الفارسي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والزوجات الجميلات الناعمات عندما قام بحملته المدمرة على أرض اليونان.
كما أن سجلات (عبد الناصر) لم تظهر امتلاكه المليارات في البنوك السويسرية خلافاً للنخب الحاكمة الحالية كما طار بن شقي التونسي بـ 3,5 مليار دولار وزوجته المغناج من قرطاج بطن ونصف من ذهب الأبريز الخالص؟
ولكنه أي العجل الناصري كما وصفه (حسن العشماوي) كان يريد:
( أن يجلس على مكتب فيه زران كهربائيان إذا ضغط على احدهما قام الشعب كله وإذا ضغط على الاخر جلس الشعب كله دون أن يخرج على هذا الاجماع أحد. وأنه لذلك يريد أن يطهر البلد من كل العصاة. قال له صديق: إن هذا حال الارجوزات لا الشعوب إنك لن تفرغ البلد من العصاة بل من الأحرار لتحكم قطيعا من أغنام أو عبيد).
يقول (راسل):(ربما تكتفي الحيوانات بالوجود والتوالد في حين يتشوق الناس الى التوسع والتمدد، ولاحدود لهذه الرغبات في هذا الصدد، الا ضمن إطار مايحدده لها الخيال من حدود ممكنة. فكل انسان يود أن يكون إلها إذا أمكنه ذلك).
وقليلون هم اولئك الذين يصمدون أمام هذا الاغراء.
ولو عرض على (ساركوزي أو بوش قبيح الذكر الذي ختم عهده بحذاء اليزيدي في جمجمته؟) لو عرض عليه حكم بلد من العالم الثالث لانفرجت أساريره، وزعم أن جده الرابع عشر من قحطان وعدنان وقبيلة عنزة وطيء؟
لأنه يعلم أنه سينفق ملايين الدولارات بدون ضرائب ومراجعة الكونجرس ومجلس الشعب غير المزور، وأنه لن يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأن الجماهير العمياء ستصفق له الى الأبد في عرش مضمون له ولذريته من بعده.
يستعرض (كيبنيس) في كتابه ثلاث مظاهر رئيسية لمالكي القوة:
(1) إضافة الانتصارات الى سجله وأما الكوارث فتبقى لمساعديه الحمقى المقصرين أما هو فلا ياتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.
(2) وتحت تأتير خدر (هيروئين) القوة التي تحقنها في وعيه الحاشية المتملقة المستفيدة يدخل في روعه أنه هو الأعلى وأن الإله صيَّر طينته جوهرا ومن غباره شاد كونا آخر؛ فالناس حجر وهو معدن نفيس من المريخ. وهذا يقود الى (خطيئة الخطايا) أي الاعتقاد بمعصوميته وتعاليه عن النقد ونزاهته من الخطأ، فهو النقي التقي الطاهر العلم، ليصل في النهاية الى ظاهرة الاستخفاف بالعباد. يصف الله فرعون أنه (استخف قومه فاطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين).
(3) وفي النهاية يقع تحت إدمان (هيروئين القوة) فالمدمن يقع مع تعاطي الهيروئين في قبضة الادمان من جرعة واحدة، والحاكم يقع في شعور التأله والعظمة مع النَفَس الأول لحشيش السلطة فيترنح بخمر السلطة اللذيذ.
وإذا كانت أبخرة الحشيش تعمي الرؤية وتقود الى الهلوسة فهذا هو مصير الحكام بانفصالهم عن واقع شعوبهم.
من يسيطر على الاخرين يسجل لنفسه الانتصارات ومع أن رمسيس الثاني نصب بنفسه من التماثيل أكثر من كل الـ 330 ملكاً الذين حكم مصر وزور الكثير فنسبها لنفسه ولكن اكبر هزيمة في تاريخه في وجه موسى عليه السلام لم يذكرها بكلمة.
وكل الهزائم العربية اعتبرت انتصارات للأنظمة الثورية الخايبة والبعثية العبثية والناصرية السامرية؟.
هكذا يعلم طلاب المدارس الذين يرضعون ثقافة الغلط ويعيشون محنة ثقافة مزورة.
وعندما تحطم اسطول نابليون في معركة (أبو قير) على يد البريطاني (هوارسيو نيلسون) ومعها أعظم تحفة فنية عسكرية (سفينة الشرق) عزى الكارثة الى قائده (برويه) لأن نابليون كان مشغولاً بتسجيل انتصاراته عند سفح الهرم على فرسان المماليك الذين انفصلوا عن صيرورة التاريخ. وعندما يريد نظام ما أن يضحي بأحد فإنه يختار كبشاً أملحاً فيضربه في مقتل، ويكون في العادة من الضعفاء المغفلين أما (خراجات) و(أعشاش) الفساد الفعلية فتبقى في حرز أمين.
ويصف (كيبنيس) في فقرة خطيرة:
(كلما ازدادت القوة في يد أحدهم مال الى اعتبار نفسه مهماً ومعصوماً وأنه مسموح له بالتصرف لأن الآخرين تافهون).
وماحصل في تجربة (ستانفورد) في السجن وصلت الى هذه الحدود فلم يعد ينادي السجانون على السجين بالرقم بدون اسم بل بألفاظ التحقير والسباب في كل مايقدسه ويعتقده.
وفي الجيش السوري يستقبل المدرب فوجاً جاء لتأدية خدمة العلم ومنهم أطباء ومهندسون فتكون كلمة التحية الاولى لهم: انسوا شهاداتكم لأنها تحت جزمتي هذه!! وعندهم متعة خاصة في شتم الرب وهو خالقهم؟
لقد أظهرت التجارب أن المسجونين يخسرون مع الوقت احترامهم لأنفسهم وآدميتهم مقابل الانضباط، ويكون انتقام النفس في هذه الأهانة العميقة رهيباً إذا وقعت الواقعة.
وبالمقابل فإن مشاعر الاعتداد بالنفس تتصاعد عند جبابرة القوة في وسط تحيط بهم حاشية تعيش على التملق والمديح بما ليس فيهم. بحيث يستولي عليهم في النهاية شعور أنهم يتصرفون لأنهم (أفضل) الناس. وان كل مايفعلونه صدقا وعدلا ومبررا.
كذلك أظهرت الدراسات أن أفظع الناس وأدعاهم أن يخشاهم المرء هم اولئك الذين ينقصهم الحس القيادي ليصبحوا في ليلة معتمة في مكان الصدارة والقرار.
يقول (يورج فيرتجن Joerg Wirtgen) المسؤول عن تخريج أطقم القيادات الادارية في المانيا حسب ماأوردته مجلة (در شبيجل) الألمانية (العدد 11\ 2001 م):
(أنهم بسبب ارتكاسهم الداخلي المملوء بعدم الثقة بالنفس فإنهم مع التسلط يصبحون مع الوقت دوماً أكثر خبثاً وسمية).
ويروي تاريخنا أن الحجاج جلس يوما لقتل أصحاب عبد الرحمن بن محمد الأشعث فقام رجل منهم فقال: أصلح الله الأمير إن لي عليك حقاً؟
قال وما حقك؟
قال سبك عبد الرحمن يوماً فرددت عليه.
قال من يعلم ذلك؟
قال: أنشد الله رجلاً سمع بذلك إلا شهد به.
فقام رجل من الأسرى فقال: قد كان ذلك أيها الامير. فقال خلوا عنه.
ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر كما أنكر؟ قال: لقديم بغضي إياك؟ فقال الحجاج: ويخلى عنه لصدقه؟!.
إنها قصة مفزعة من تاريخنا يقتل بها الانسان على الكلمة؟ ويطلق سراحه بكلمة؟ ويخلدها تاريخنا أنها من المآثر؟
إنها نكبة بكل معيار ولكن اكثر الناس لايعلمون. والشعوب العربية المسرجة تعيش كالبغال المطهمة حتى حين انفجار الزلزال والعودة إلى الآدمية كما في اوديسة هوميروس؟
مراجع وهوامش :
(اكتشاف أمريكا مسألة الاخر ـ تزفتيان تودوروف ـ ترجمة السباعي ـ نشر ابن سينا) ـ (رواية عن سيدة سورية نجت من المذبحة) ـ (ميشيل فوكو ـ تاريخ الجنون ـ باللغة الانكليزية) ـ (مجلة در شبيجل الألمانية ـ العدد 11 \ 2001 م ـ بحث سيكولوجية السيطرة والانصياع ـ ص 96 ومابعده) ـ (تكنولوجيا السلوك الانساني ـ ب . ف . سكينر ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 32 ـ ترجمة الدكتور عبد القادر يوسف ـ فصل الكرامة ص 50 ومابعده) ـ (قضايا معاصرة ـ حسن حنفي ـ دار الفكر العربي ـ ص 73 - 74) ـ ( كتاب السلطان ـ برتراند راسل ـ ترجمة خيري حماد ـ دار الطليعة بيروت ـ ص 12 و 14) ـ (فلسفة الكذب ـ محمد مهدي علام ـ مكتبة التراث الاسلامي ـ ص 34) ـ (الإخوان والثورة ـ حسن العشماوي ـ المكتب المصري الحديث ـ ص 92)
التعليقات