نحن الآنفي أيام أعياد الميلاد وكربلاء، وهو أمر أذكره جيدا حيث ترعرعت؛ فأنا رجل ولدت في مدينة اسمها (القامشلي) فيها عشر لغات، وثماني أديان، بما فيها المسيحية المنقرضة (النسطورية)، وعشرين لهجة (كوسموبوليتيان) بين سريان وأرمن وآشوريين، وطخلركه وكرمنج وشيعة، وماردينيين وداغستان، وشمريين وعلوية، وشراكسة وشوام، وكلدان ودروز، وكاثوليك وبروتستانت، ومحلمية وعبدة الشيطان من اليزيديين.
كل شارع بلغة ومدرسة وكنيسة، وكل دكان بطربوش وطاقية وعمة وعقال وشرشوبة وشروال؟؟ كأننا في هوليوود في فيلم تاجر البندقية!!
والدي اعتمر الطربوش العصملي الأحمر، وخالي يونس من عشيرة طيء بعقال، وقريب آخر أمه أرمنية من أيام (القفلات) وهو لا يعلم، أو يعلم ولا يصرح، وهي تلك الزيجات التي تمت أثناء الترحيل القسري للأرمن من تركيا في عشرينيات القرن الفائت، ففاز البعض بالفتيات الجميلات، وهن نجون من التشرد والدعارة، فأسلمن وحسن أسلامهن، وقصص التاريخ مرة حزينة..
لذا لا غرابة عندي إن ناقشت أرثوذكسيا عن سبب انشقاق الكنيسة عند صدع البلقان على طبيعة الآب والأبن والروح القدس، ومن أين اشتق روح القدس هل من الآب أم الابن أم من كليهما معا؟ أو كاثوليكيا لماذا يرسمون صدورهم بالصليب وهي أداة قتل المسيح؟ وهل يقدس أهل القتيل المسدس الذي قتل به ولدهم؟
كنا نحتفل معهم في أعياد الميلاد، كما نحتفل برمضان والضحية، وجوزيف بدكانه المختص ببيع العرق والويسكي؟ الملاصق لدكان والدي يبيع كل أنواع الخمر المعتقة؟
أصدقائي رافع أبو الحسن الدرزي، وهابو وأخوه جيجي الأرمني، وجودت وابن أخيه سمير العلوي، وجورج ابن الصائغ الكاثوليكي، ودنحو السرياني (الوزير الحزبي الذي اجتمعت به أثناء الإمساك بي في درعا يوما)، ومروان شريف المردلي (الشارد من البعث إلى الطليان لاحقا) من نفس ملتي، قبل أن يرسخ حزب البعث الطائفية إلى درجة القرف والتقزز وحواف الحرب الأهلية..
هكذا كان حالي حتى جئت بلاد السلفية والوهابية فرأيت العجب؛ وأفهم هذا لأنهم مثل طيور البطريق إذا اجتمعوا في الانتراكتيس (القطب الجنوبي)، فلا يفرقون عن بعضهم في عقال وغطرة ودشداشة، ولأنهم محرومون من الرؤية الفراغية، والتباينات المذهبية، فلا يتصورون إلا لونا واحدا من الطعام واللباس؛ الكبسة والعباءة والغطرة...
وأذكر في يوم من أيام عيد الميلاد، كيف تربص (الشباب الطيبة) بمجموعة من الممرضين والممرضات الفيليبينيين، فكبسوا البيت عليهم عسى أن يضبطوهم متلبسين بالجريمة النكراء وهم يحتفلون بعيدهم الذي احتفل به أجدادهم من قبل، ويحتفل به أهلوهم في كل مكان...
إن الشباب الطيبة من المتعصبين المتشددين، يرتكبون ثلاث جرائم دون أن يشعروا برائحة جريمة؛ التجسس على القوم، ودخول البيوت من غير أبوابها، واقتحام الخصوصيات من غير استئذان، وأخيرا نار التعصب لظى نزاعة للشوى..
والله حرم التجسس، وحرم الاقتحام، وأمر بالاستئذان والرحمة والمرحمة...
ولكن بيننا وبين هذه المفاهيم الإنسانية مسافة قطر المجرة مائة ألف سنة ضوئية!!
وفي النقاش الذي دار فيما سبق بين جيمس سواكرت وديدات قال له؛ سمحنا لك بالتبشير بالإسلام هنا في بوسطن وفيلادلفيا ونيوجرسي؛ فهل يمكن أن تعاملونا بالمثل فنعرض أفكارنا بين أظهركم كما فعلتم بنا؟
كان جواب ديدات ـ رحمه الله ـ نعم حين تأذن تأشيرة دخول لبلدنا، وهي أن تعلن إسلامك؟؟
والأمر يصلح للنكتة وليس للنقاش؟؟
الله يقول ولا تخاطبوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، ونحن حريصون على أن نخاطبهم بالتي هي أسوأ..
وفي يوم عيد الميلاد المجيد بدل أن نهنئهم ونبذل لهم المعروف؛ فإننا جدا حريصون على اعتباره بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار؟
أما رفع الرايات والصور في عبادة الشخصيات فليست بدعة، والفتوى جاهزة بمعول يناسب فتحة هدم الإسلام..
وهكذا فلا يجوز مبادأتهم بالسلام، وإذا كنا في طريق يجب أن (ندفشهم) على جنب، ونجبرهم إلى أضيق الطريق، وتحويل حياتهم بيننا إلى جحيم وعداوة، تحت أحاديث مشبوهة عرجاء برصاء شوهاء عوراء....
لا عجب أن علَّم ابن حنبل ابنه خمسة آلاف حديث مكذوب، ليقول له في النهاية إذا مرت عليك فانتبه لها فكلها أحاديث مكذوبة..