سؤال الوجودي يفاجأ به كل طفل ليكتشف نفسه ذكرا كان أو أنثى مسلما أم مسيحيا. وأذكر من طفولتي هذا الاكتشاف عندما هرعت مع فريق من الأطفال النصارى إلى مخيم صيفي فحرمت من شرب الماء حينما صاح أحدهم هذا (مسلمي) يقصد مسلما فلا تذيقوه الماء. وما زالت الكلمة ترن في أذني حتى اليوم. لأنني اكتشفت أنني مختلف عن الآخرين ومحروم من جنتهم.
وأتذكر من الجامعة عندما التقيت بأحدهم جلس أمامي وعيونه تفحصني يتشمم أفكاري كما تفعل الأرانب حين الاقتراب من أرنب غريب. فكنت إذا ذكرت فكرة استنكرها بكل الأدلة (النقلية والعقلية). وبعد أسبوع التقيت به وإذا لمعارضته تحولت إلى استسلام. ولما عرفت السبب زال العجب فقد أخذ (الأخ) التزكية من حراس العقيدة في التنظيم. فحمدت الله على المصادفة.
والأحزاب في العادة تصطاد الأتباع من الدراويش السذج فتحصرهم ضمن سياج من الرقابة مثل الخرفان في الحظيرة معزولين عن أي فكر ومن دخل عليهم من فكر مغاير اعتبر ذئبا يفترس أتباعهم. وفي يوم دعيت لخطبة جمعة في مونتريال فكانت الأولى والأخيرة. فقد خاف حراس العقيدة على خرفانهم وطردت من جنتهم؟
وفي قرية عامودة من منطقة الجزيرة في سوريا رأيت فيها أربع مساجد للمذاهب الأربعة كل يصلي بطريقته ووقته. وما زلت أذكر شيخ الحنفية وهو يستشهد بحاشية ابن عابدين في الفقه الحنفي أن مذهبه هو الأعلى. والنقاش في مثل هذه الحالات غير مجدي. والنصوص لا تخدم إلا في زيادة الانشقاق.
وكما يقول الوردي أن كل فريق عنده استعداد أن يجند كل الأدلة (العقلية والنقلية) على صحة مذهبه.
وفي حرب الخليج عام 1990م انعقد مؤتمران إسلاميان في مكة وبغداد حضرها قادة الفكر الإسلامي. كل يؤكد بكافة الأدلة صحة ما ذهب إليه فريقه. ومعه كل الفتاوى والأدلة من النصوص. والذي حسم الموقف لم يكن المفكرون الإسلاميون بل أمريكا بصواريخ الكروز.
وفي حي الميدان في دمشق حضرتني صلاة العصر في مسجد فرأيت أناساً يصلون وأناساً ينتظرون إمام مذهبهم، وبذلك قسمت المذاهب الناس شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون.
وفي بعض كتب الفقهاء كلاماً لا يصدقه الإنسان هل يجوز زواج الشافعية من الحنفي؟ ما يذكر بصرخة فولتير عندما أرادت كاثوليكية الزواج من بروتستاتني فهرع الكاثوليك لقتله فكتب فولتير مقالة نارية بعنوان: اسحقوا العار.
وفي طهران تقدم سني ليصلي بالناس صلاة العصر وكان في زيارة لهم بمناسبة ذكرى الثورة فلم يصل خلفه إلا نفر قليل، حتى جاء إمام الشيعة فاحتشدت خلفه الجموع وبدأ التكبير.
وفي الجولان من سوريا جمع الحب بين فتاة شركسية وشاب درزي فحصلت أزمة مخيفة ضد التقاليد والمذهب وكاد الحب أن يذوي الاثنين. حتى تغلب الحب فتزوجا وأنجبا.
هذا السؤال الوجودي يطرح نفسه ليس باتجاه الأسفل في اكتشاف تشقق الفصائل الإنسانية وتعدد الملل والنحل والمذاهب وفصائل الفصائل. بل صعوداً في شجرة الفكر والعقائد إلى الأعلى. فإذا كانت الشجرة تتفرع ومن كل فرع تصدر فروعاً جديدة، فإن رحلة العودة سواء في مستوى الشجرة أو الخليقة والأفكار تتوحد تدريجياً.
ونحن نعلم من علم الأنثروبولوجيا أن مصدر الإنسان ليس القرد، ولكن القرود بأنواعها من الأورانج أوتان والشمبانزي والغوريلا تجتمع في فرع خاص بها، لتلتقي مع فرع الإنسانيات (الهومونيد) فيما يشبه الفرعان المستقلان ليشكلا فرعا أكبر في شجرة الخليقة، وهما بدورهما مشتقان من كائن أقدم من الاثنين هو (مفترس الحشرات) الذي وجد قبل عشرة ملايين من السنين.
ومن هذه المقارنة بين شجرة الخليقة وشجرة الأفكار والملل والنحل نعرف أن أحدنا لا يزيد عن ثمرة من شجرة عملاقة. وهو يعلمنا التواضع والتسامح وتقبل الآخرين.
وروى لي من أثق به أنه كان طفلاً فواجهته معضلة فكرية فسأل أمه عن نوعين من الدعاء تعلمهما من المدرسة. لماذا كان الدعاء دعائين؟ قالت: الدعاء الأول هي للمذهب الحنفي والثاني للشافعي ونحن على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة؟.
ولكن الطفل تخيل أن الأم الثانية ستقول بدورها لطفلها عن الدعاء الثاني أنه على مذهب (الأمام الأعظم) الشافعي. وبذا ينطلق التفكير على نحو مسلسل انشطاري. فلماذا اختلف الحنفي عن الشافعي؟ وما معنى وجود أكثر من أربعة مذاهب في الدين الواحد؟ وما معنى اختلاف الشيعي عن السني؟ وبنفس الوقت تحكم هذه الجدلية الفرع الآخر المتشعب من شجرة الاختلاف. فكما صدرت فروع مثل المالكي والحنبلي في المذهب السني انشقت فروع لا نهاية لها من المذهب الشيعي بدءً من فروق بسيطة كما يحدث في أول صدور للانشقاق من الغصن الكبير فيبرز مثلاً المذهب الزيدي والإمامي القريبان من السنة ليصل إلى بعض الفروق التي تصل إلى حد تأليه الحاكم بأمر الله وعلي.
وبينهما هذين القطبين طيف واسع من العقائد تعرض لذكرها ابن خلدون في مقدمته بالتفصيل فذكر فرقا كثيرة مثل الكيسانية والإسماعيلية والفاطمية والواقفية والهاشمية... الخ.
فإذا صعدنا في شجرة الخلاف الفكري اجتمع الغصن الشيعي والسني إلى دين واحد. ولكن الشجرة الإنسانية لا تكف عن التفرع فنرى الخلاف المذهبي ليس ضمن الدين الواحد مثل الشيعي والسني والخارجي بل نرى تدرجات الاختلاف تحت الشيعي مثل الزيدي والإمامي والاسماعيلي والعلوي والدرزي، وعند نقطة تفرع الأديان نرى المسلم والمسيحي. وفي الفرع الكبير عند المسيحي نرى الأغصان تتكاثر بنفس القانون العضوي فتبرز فروق لا نهاية لها مثل الأرثوذكس والكاثوليك والمارون والأقباط والبروتستانت والأرمن والكلدان والمورمون وشهود يهوه والمعمدانيون. وينطبق هذا في أغصان الأديان فنرى البوذية والهندوسية، ومن كل فرع أغصان شتى فنرى من البوذية أتباع لاما وبوذية زن وأتباع الماهايانا، ويسري نفس القانون على اليهودية.
وتفاجئنا شجرة الإنسانية بتنوعات أكبر حجما من أعظم شجرة تين في الصيف لنرى ليس أصحاب الأديان والمذاهب في الأديان والفرق في المذهب والجماعات في الفرقة. بل نرى من شجرة التفرع الكبيرة انشقاق فرع من يؤمن ومن يلحد. من يؤمن بدين ومن يعبد النار أو الأجداد ومن يعتقد بالماركسية فيكفر بكل الأديان، ويعتقد أن الدين أفيون الشعوب. أو يعتقد بالقومية والنازية فيرى أنها ديانة جديدة. أو يعلن موت الإله كما فعل الفيلسوف فريدريك نيتشه قبل أن يصاب بالجنون.
ولكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه.
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم. وهنا نصل إلى الجذع الكبير الذي تنشق منه كل الفروع. وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.
وعند جذع الشجرة الأساسي كان الشيء الذي يبحث عنه الإمام الغزالي عبثا، حينما قال فرايت صبيان اليهود ليس لهم نشوء إلا على التهود. وأولاد النصارى ليس لهم نشوء إلا على التنصر. وغلمان المسلمين ليس لهم نشوء إلا على الإسلام فحن قلبي إلى دين الفطرة.
ولكن أين دين الفطرة وكيف نعرفه ومن يزعم أنه اهتدى إليه؟
وإذا كانت الأمور على هذا الشكل من التعقد فمن يغامر بقتل الآخرين بتفجيرنفسه يذكرنا بقول برتراند راسل حينما سئل هل عنك استعداد أن تموت من اجل فكرتك؟ أجاب: لا.. لأنني قد أكون مخطئاً فكيف لي أن ارتكب هذه الحماقة؟ وكما ينقل عن نيتشه: أن من أراد هدوء البال والسعادة فليعتقد ومن أراد أن يكون من حواري الحقيقة فليسأل؟