جاء في السيرة الذاتية لـ (مالكوم اكس MALCOLM X ) الزعيم الأسود المسلم في أمريكا أن زيارة الحج كانت انقلابية في حياته فدخل مكة وهو يكره البيض وعاد من الحج وقد تلاشت من قلبه كراهية الانسان الأبيض . ففي الحج التقى بخليط مدهش من الألوان والثقافات والأعراق واللغات وبحضور الجنسين . وبذلك نبهه مؤتمر الحج العالمي الى الصفة الأولى لهذا اللقاء السنوي أنها بوتقة تتمازج فيها كل الألوان ليخرج الانسان منها بدون لون قد تحرر من التعصب للون أصله من تراب، ولم يعد مايرفع الانسان لون جلده أو انتماءه العرقي أو تميزه الجغرافي أو مصدر ثقافته أو جنسه أن يكون ذكرا أو أنثى؛ ففي الحج تزول كل الفوارق وبتطبيق ميداني عملي؛ فيخلع الناس ملابسهم الملونة ويتشحوا بالبياض ولايغطون رؤوسهم فيخرجون شعثا، ولاينتعلون أحذية فاخرة فيمشون أقرب الى الحفاة ويرجعوا الى ربهم كما ولدتهم أمهاتهم يغلفهم لباس واحد أبيض مشترك يذكر بالكفن والقبر واجتماع يذكر بالحشر يوم القيامة والميزان، وهكذا فالصفة الأولى للحج أنه انساني ودعوة ابراهيم عليه السلام لم تكن لطائفة محددة بل كان أذانه للناس كافة (وأذن في الناس بالحج) فجاء اللفظ مكرراً مشدداً (الناس) أن يأتوا من أقصى المعمورة من كل فج عميق من طائرة كونكورد وقطار مغناطيسي وسفن عابرة للقارات، ولعل مايميز الحج في هذه النقطة أنه لاتوجد مدينة على وجه الأرض الا وقد جاء منها حاج وبذلك يكون الحج مؤتمراً عالمياً للتجمع البشري.
اختط الاسلام عدة مؤسسات تشكل دوائر تزداد اتساعاً للارتفاع بالانسان فيلتقي بأخيه في مسجد الحي كل يوم، ويجتمع بالناس على دائرة اكبر في الجامع كل اسبوع، ثم تخرج المدينة عن بكرة أبيها في العيدين بما فيها المرأة الحائض دعاها الاسلام لحضور الخطبة بدون صلاة، وتاتي الدائرة الأعظم كل سنة للقاء بشري يضم وفوداً من كل الأرض، ولكن المسلمين أضاعوا الكثير من المعاني الجوهرية لكل هذه اللقاءات؛ فلم يعد المسجد ينبض بالحيوية، وتحولت صلاة الجمعة في معظم بلدان العالم الاسلامي الى مصادرة كل الكلام لصالح خطبة مكتوبة سلفاً تحت عين رقيب صارم يدقق على الكلمات وظلالها يتلوها موظف على رأس جمهور نصف نائم شارد الذهن يسمع بدون أذن واعية خطبة لاعلاقة لها بهمومه.
لاغرابة أن اعتبرتها ايران سابقاً أنها خطبة وعاظ السلاطين لاتستحق عناء الاجتماع حتى أحيتها الثورة الايرانية فأدى آية الله الطالقاني أول صلاة جمعة في طهران بعد نجاح الثورة وهو اجتهاد نرويه ولاندعو له ولكنه لم يأت من فراغ. ثم تحول بعد ذلك إلى ماهو أبشع فتم التأميم الكامل للخطيب والمسجد في خطبة واحدة يتيمة في طهران يؤديها ملا بيده تفنكة وبارودة ورشاش؟
وأما صلاة العيدين فمع الالتفات الى الجانب بقول السلام عليكم يبدأ الناس يتسللون لواذا لايريديون سماع كلمات خطيب يحدثهم عن مواضيع لاصلة لها بقضايا الأمة المصيرية، ولو كانت صلاة الجمعة مقلوبة على هذا الشكل تبدأ بالصلاة ثم تختم بالخطبة لما بقي أمام الواعظ من يستمع الا الواعظ نفسه.
وليس كل العالم الاسلامي على هذه الشاكلة ولكنها صور نجتمع بها أحياناً. وأما مؤتمر الحج الأعظم فقد خسر بعض معانيه أيضاً مع أنه مؤسسة كونية لرموز ضخمة.
إن كثيراً من المسلمين يمارسون هذه الطقوس ويغفلون عن هذه المعاني الكبيرة، والله غير حريص على الذبائح ورمي الحصيات بقدر التقوى (لن ينال الله لحومها ولادماءها ولكن يناله التقوى منكم).
يكمن خلف هذه التظاهرة السنوية الكونية مؤتمر لايقبل الالغاء أو التأجيل في مؤسسة بناها ابراهيم (عليه السلام) قبل اربعة آلاف سنة فكانت أول بيت للناس ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً ) ومع وضع البيت العتيق في واد غير زرع كان ابراهيم (عليه السلام) يدشن تشريعاً صمد عبر آلاف السنين أن لايسفك دم الانسان، وكانت الكعبة حراماً مكانياً وكانت الأشهر الحرم الأربعة ثلث امتداد الزمن يستظل بها الناس بأوقات سلام تتوقف فيها آلة الحرب في غابة يتخطف الناس من حولهم ويقتلون (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم).
وكان هدف ابراهيم (عليه السلام) أن يزرع فكرة السلام كبذرة في بقعة محدودة تكبر مع الزمن الى شجرة باسقة طلعها هضيم تظلل كل الأرض في مشروع عملاق تتحول فيه الكرة الأرضية مع الشحن الدائم من موسم الحج السنوي الى كعبة عملاقة من حجم الكرة الأرضية ، وفكرة الأشهر الحرم ترميز عميق الى أن تكون بداية لمط هذه الأشهر وسحبها على مدار السنة فتتحول السنة كلها الى أشهر حرم لايسفك فيها دم الانسان تحت شعار ماأنزل الله به من سلطان.
الحج بين الطقوس والمعنى؟
لقد أشار القرآن الى قدسية الأشهر الحرم وأن من يريد التلاعب بها لإعادة إشعال الحروب هو زيادة في الكفر (إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ماحرم الله فيحلوا ماحرم الله) فحتى يستمروا في الحرب كانوا يغيروا مواقيت الأشهر الحرم بالتلاعب بالوقت تأخيراً ودفعاً وهو اغتيال كامل لهدف هذا التشريع، وتاتي فكرة القربان لتتويج هذا المعنى الضخم فبعد إنقاذ اسماعيل بذبح عظيم بطلت مؤسسة التضحية بالانسان كقربان وتم استبدالها بالتضحية بالحيوان.
ويتم الضحك على الأمهات في عيدهن أنهن يقدمن أولادهن شهداء للبعث والطاغوت والناصرية والقومية في حروب قبيلية يقودها الجنرالات الغلمان والجندرما وكلها صور جديدة لقرابين قديمة.
ويمارس المسلمون الطقوس ويتجمدون في حرفية النصوص على حساب هذه المعاني الجوهرية.
إن الاعلان الابراهيمي انساني عالمي للبدء بمشروع السلام على وجه الأرض وفي القلوب المسرة في نقطة بعينها من أجل تعميم هذه التجربة الرائدة عبر آلاف السنين ونقلها الى الجنس البشري.
وفكرة الأشهر الحرم تحمل معنى ضمنيا أن يتفق الجنس البشري على إيقاف الحرب بأي ثمن في اوقات بعينها من أجل مد هذه الفترة ما أمكن الى أطول فترة ممكنة حتى تنقلب السنة كلها الى سلام ولايضحى بالانسان كقربان لأي صنم من فكرة وشخص.
ها قد دارت الأرض حول الشمس دورتها السنوية، وها قد دار القمر حول الأرض دورته الشهرية، وها نحن نعيش موسم الحج الأكبر عيد الأضحى ذكرى إبراهيم عليه السلام الذي أُبطل على يديه القربان البشري، فليكن هذا العيد الكبير عند المسلمين عيد السلام وعيد اللاعنف وعيد اللاإكراه وعيد إلغاء القربان البشري وعيد الأخوة الانسانية وغفران الذنوب؛ لإن كل قتل في العالم صار قرباناً بشرياً، ولم نعد في حاجة الى القتل لحل المشاكل، ولايعالج الطبيب مريضه بالقضاء عليه بل بسقيه الدواء أو اجراء الجراحة المناسبة، وماتت مؤسسة الحرب في العالم غير مأسوف عليها أمام حسرة البعض وذهول الآخرين عن مقاصد تطور الكون، ونحن نغفل عن مقاصد الشريعة فحتى القصاص من القاتل وصف النبي محمد (ص) من يريد أن يقتص من قاتل أخيه : (إن قتله فهو مثله).
لم يعد من حاجة لقتل أي انسان ويمكن أن يمرر الانسان بدورة تدريبية يخضع فيها لألوان من الجراحة النفسية تماماً كما في جراحات المعدة والشرايين يتم من خلالها تغيير نفسية المجرم وتعقيم الجو الذي تفرخ فيه الجريمة وتشتد . والشريعة غير حريصة على القتل للقتل ولامصلحة لها بذلك بقدر ضبط الأمن في المجتمع وحماية الفرد.
وهذه الآلية من علاقة النص بوظيفته انتبه لها كل من (ابن قيم الجوزية) عندما اعتبر أن مناخ العدل هو مجتمع الشريعة (فحيث العدل فثم شرع الله) وان (الحرام) ماكان أكثره أو كله ضاراً، فاعطى بهذا الحركة العقلية مضامين فلسفية لآليات عمل النصوص، وانتبه الفيلسوف والفقيه (ابن رشد) لهذا المعنى فكتب (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ) . إن فهم النص خارج إحداثيات عمله يجعله يفقد وظيفته أو يعمل في غير مجاله .
مالكوم اكس بعد أن عاد الى أمريكا كان قد تبدل جذرياً وشعر مبغضوه بخطورة هذا التحول فرأوا حل المشكلة بسفك دمه ، وعندما حذَّره من حوله أن منيته قد دنت وأصبح القدر قاب قوسين أو ادنى منه يتدلى فليحاول أن ينجو بجلده كان جوابه : أعرف أنني لن أنجو لإنني أنا الذي دربتهم وأعرف مايقدرون عليه.
كان مالكولم اكس قد ودع منذ زمن بعيد الجهالة وقرأ العالم وفقه التاريخ في سجنه الذي دام سبع سنوات وتتلمذ على يد فلاسفة كبار وبدأ يحاور الأمريكيين بأدوات ثقافتهم، وأدرك أخيراً قبل مصرعه بوقت قصير أن الروح السلامية تمثل قيمة محورية في الاسلام، وكان قد بدأ بالاقتراب والتأثر من الأسود الآخر (مارتن لوثر كينج)، وكانت النهاية لهما أن قتلا بالتتابع كما حصل من قبل مع غاندي الذي انتهت حياته بالرصاص على يد هندوسي متعصب .
لم يهرب (مالكوم اكس) من الموت ولم يجبن، وفي إحدى محاضراته التي كان يكهرب بها إرادة الجموع ويزلزل كيانها أطلقت عليه مجموعة النار فأردته صريعاً أمام زوجته وبناته الصغيرات .
سقط الداعية (اكس) مضرجاً بدمه أمام أفراد عائلته وكانمتوقعا مصرعه بيد من رباهم وعلمهم؟ مات باسطاً يده وكأنه يقول: لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لاقتلك إني أخاف الله رب العالمين.
لماذا شرع الحج اذاً؟
إنه سؤال فلسفي حقاً؟
نحن نظن أن الحج وضع لطائفة من خلقه، وأنه موسم للطقوس، وأن الأضحية هي للحيوان بالقربان، والثلاثة مفاهيم تحتاج إلى تصحيح.
ففي الأولى نرى الله يقول أن الحج ليس لطائفة من خلقه بل هو لجميع خلقه؛ فليس من آية إلا ويذكر فيها بنو الإنسان، بدون احتكار ومصادرة من فئة وجماعة ودين واتجاه وحزب وعائلة وعصابة وطائفة بل هو للناس جميعا، وذلك في سبع آيات من المثاني والقرآن العظيم (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين .. وأذن في الناس في الحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر... ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا .. يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج .. جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ... وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر.. والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيها والباد.. ).
ويظن بعض الناس أن الحج هو من أيام نبي الرحمة ص وهو بناء دشنه إبراهيم زمانيا ومكانيا، على أمل أن تتحول هذه الغرفة الصغيرة، فتتمدد وتضخم إلى قبة هائلة تضم الكرة الأرضية فينعم الجنس البشري تحتها بالسلام الأبدي، على ماتمناه إيمانويل كانط فيلسوف التنوير الألماني في كتابه نحو السلام الأبدي (To eternal Peace = Zum ewigen Frieden)، وتتحول زمانيا أشهر الحرم الأربعة بدون حرب وضرب ولا رفث ولا فسوق ولاجدال في الحج، فتتمطط إلى كل أشهر السنة فتكف الحرب عن التهام القرابين البشرية.
وهنا يأتي المعنى الجديد من الحج، أعني مفهوم القربان، بعد أن تحول الحج موسما للطقوس الميتة.
ولن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم؟
إن الحج هو لأحياء المعنى وليس للطقوس الميتة المكررة من رمي حجارة وذبح أضحية والركض والطواف مع الدهس والرفس؟ بل يجب أن يفهم أنه إعلان لتوقف التضحية بالإنسان كما فعل إبراهيم. في موكب جدا ديموقراطي لبشر يلبسون الكفن في رحلة إلى الله فلا فرق بين أمير وحقير وغني وفقير وامرأة ورجل.
كما يجب أن يفهم أنه مظاهرة كونية إنسانية، نفتتح بها موسما لعشرات الصالات، لمئات المفكرين والمتكلمين الكليمين من كل أرجاء الأرض، لبث الروح السلامية، ذلك أن الحج دورة مكثفة سنوية لشحن العالم بالروح السلامية، فليس من مدينة على وجه الأرض إلا ومنها حاج وحاجة من كل فج عميق، ولذا كان من الأهمية دعوة أهل الفكر والقلم من كل العالم لتأمل هذه الاحتشادة الكونية السلامية لنزع فتيل الصراعات في العالم..
نعم إن جمعية الأمم المتحدة الفعلية هنا..
بكل أسف طمرت هذه المعاني، كما طمرت مكة بين ناطحات السحاب، لقوم همهم الاستثمار ونفخ الجيوب بكل عملات العالم الرخيصة والغالية بدءً من التاكا البنجالية حتى الكرونه السويدية واليورو والدولار والجنيه الغالية العالية.
وهو مايذكرني بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام وهو يطرد الصيارفة وباعة الحمام من دار العبادة في القدس.
كان أول اجتماع لي مع الكعبة حزينا بعض الشيء؟ كنت أتصورها بناء كبيرا على قمة ترى من بُعد أميال، كما رأيت جامع قرطبة في الأندلس، ولكن خاب ظني فكنت أنزل وأنزل لأجتمع في النهاية بكعبة لايراها المرء إلا من بعد مائة متر، مطمورة بين أبراج عالية باردة خالية من المعنى والقدسية في ناطحات سحاب لانهاية لها اكتملت بأعظم ساعة في العالم في تباهي فارغ لانهاية له؟
وتمنيت في تلك اللحظة أن تمسح كل تلك الأبنية، وتحاط الكعبة وإلى امتداد خمس كيلومترات، بمسطحات خضراء بهجة للناطرين ومتعة للعاكف فيها والباد، يرتاح فيها الناس والنساء يصلون ويتسامرون في ضوء القمر المتشح بالأذان الجميل..
أعتقد أنه سيأتي ذلك اليوم حين يتحول الحج فعلا إلى موسم للمعنى ومكان للبشرية جميعا..
كنت مع زوجتي نسعى بين الصفا والمروة، فنركض مابين الخطين الأخضرين، فهجم علينا رجل قصر فكره بقدر ماطالت لحيته فأوقفنا وقال المرأة يحرم عليها الركض؟
لماذا ياعزيزي؟
تابعت أقول راكضا ضابحا.. إن من ركض هنا هو هاجر وهي امرأة ؟ احتفظ بحريمك السلطاني لنفسك؟ أما أنا فمهرول مع زوجتي بإذن الله تقليدا لهاجر عليها السلام.
التعليقات