تحكي أسطورة طائرة الفينيكس أنه طائر لايكف عن التجدد وحين يموت ينبعث من رماده طائر جديد أكثر فتوة وأمضى.
ويقول محمد إقبال الفيلسوف الهندي عن الصنم مناة أنها تجدد نفسها دوما فتحافظ على شبابها والناس تشيخ وكأنها تعتلي ظهر شعاع الشمس وتنحر الزمن حسب النظرية النسبية. ذكر ذلك شعرا فقال:
تبدل في كل حال مناة شاب بنو الدهر وهي فتاة
وحاليا يتم في إطار الجملوكيات العربية استنساخ أمساخ من ظهور ديكتاتوري العالم العربي بحيث يشعرنا أننا نعيش عصر الماليك البرجية في الزمن مقلوبا من الهجرية إلى الميلادي؟
نحن نعيش فعلا في العالم العربي متجمدين في الزمن عام 1431 ميلادي! قبل الثورة الفرنسية بأمد طويل..
هذه المقدمة ضرورية لمعرفة لماذا يهاجر المواطن العربي من سفينة غارقة؛ فيظن أنه أمسك طوق النجاة، ليكتشف فجأة أنه على ظهر سمك قرش أبيض اسمه (تيلو سارازين) في ألمانيا، أو أخطبوط مرعب أو أفعى أناكوندا بأسماء جديدة في فرنسا وبريطانيا وأمريكا..
في هذه الحالة يبقى مصير هذه الجالية الهاربة من ديكتاتوريات الرعب والفلق، أن تواجه مصيرا جديدا محفوفا أيضا بالرعب والمستقبل الغامض لهم وذراريهم من بعدهم، ولهم الويل مما يصفون.
البطل القومي الجديد لجرمانيا العظمى!؟
شعب متعلم مثل الشعب الألماني ليس أميا ولا نصف أمي؟ منظم أفضل من الجيوش العربية قاطبة، بارد مثل حديد أوكرانيا يطحن الشعوب في الحروب، ويغلب في الفرق الرياضية، صلب مثل ألماس جنوب أفريقيا، بصقل تجار هولندا اليهود خصومهم التاريخيين، أدق من كمبيوتر ناسا لارتياد الفضاء، يعمل بروح الفريق أفضل من خلية النحل ودبيب النمل، أرض الفلاسفة والعباقرة والموسيقيين مثل باخ وموتزارت وبيتهوفن.
شعب يملك مثل هذا التفوق كيف ينساق خلف الغوغائيين، كما جاء في عنوان مجلة در شبيجل الألمانية (Volksheld Sarrazin , warum so viele Deutsche einem Provokateur verfallen?) ويهتف للناعقين العنصرين، كما فعل من قبل مع هتلر وغوبلز، ويصفق للجديد سارازين، بل ويعطيه شهادة في ختام نقاش ساخن في ألمانيا أن 70% من الشعب الألماني خلفه؟
وإذا سرح من عمله من البنك الألماني فهو نبي فهكذا فعل الناس مع الأنبياء البررة من قبائل التيوتون؟ وإذا عمد تركي مجنون إلى قتله فلا شك أنه قديس شهيد، ولا يستبعد أن تنصب له التماثيل في كل محل رمزا لحرية التعبير؟ كما فعلت ميركل المستشارة بشاتم الأنبياء والمرسلين فنفحته بركاتها الحزبية؟
سارازين أطلق موجة مخيفة من الكراهية والعنصرية في كتابه الجديد (ألمانيا تلغي نفسها Deutschland schaft sich ab) فاعتبروه خير من نطق؟ وأفضل من تكلم؟ وأشجع من أخرجت البرية فروى فدمدم؟ ويتقدم له المهنئون في المطاعم والحانات والمراقص، وتنهال عليه الايميلات أن أخيرا ولد من الشعب الألماني من صدع بالحق وقال الحقيقة الموجعة؟
ولكن ماذا قال زرادشت ألمانيا؟
هكذا تكلم سارازين؟
الشعب الألماني متفوق عرقيا بالجينات طبقا لما جاء في وحي نظرية الآوجينيا التي دشنها حفيد دارون، فالتركي يولد أبله نصف غبي من بطن أمه صبيا، والألماني يولد ذكيا متقد الإدراك سريع الفهم يأخذ أعلى علامات الذكاء الحيوية.
الأجانب مفسدون في الأرض مخربون يمارسون الجريمة والقباحات على مدار الساعة ويفسدون جرمانيا العظمى.
ألمانيا تشيخ والأتراك والعرب والكرد والعجم والمغاربة يتناسلون ويتناكحون أشد من سفاد العصافير وولادة الأرانب والعجول البرية وثيران المصارعات الأسبانية؟
كيف يحصل ما لايجب حصوله؟ من هذا الشعب الفنان المجنون؟
والجواب من القرآن أن أكثر الناس لايعلمون ويجهلون ولا يشكرون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون..
إن التاريخ يعلمنا دروسا قاسية أن اضطرابا في سوق العمل، وارتفاع نسبة البطالة، والتضخم النقدي، قاد هتلر من الحانة إلى السرايا، وحكم الجموع المجنونة التي كانت تهتف له بالروح بالدم نفديك يا أبو الجماجم..
ليس مثل الغوغاء العربية بل بصدق واندفاع وارتكاب أفظع الفظائع في الحرب الكونية..
إن الألمان قوم لايمزحون بل جادون أكثر من الجد، فإذا قال سارازين مقال فهناك قطعا مئات الآلاف من نسخته التي تؤِّمن على تسبيحه وتحميده وتهليله للوثن الجرماني؟
ولذا فالسؤال الجدي هو ماذا بعد سارازين؟
اذكر جيدا عندما جمعتني طاولة الغداء مع رئيس الأطباء (الأوبر آرتس Ober - Artz) الألماني مونز (Mohns) حين كنت أختص عندهم فقال لي إن النازية جيدة باستثناء نقطة التفوق العرقي فيها؟
ضحكت عليه وقلت له ولكن هذه هي لب النظرية الآرية في تفريغ الأرض من الشعوب الوضيعة وملئها بالعرق المتفوق الآري، ويسمونه (الفراغ الحيوي Lebensraum) ـ وهو مادافع عنه مارشال الجو جورنج في محاكمات نورمبرغ فأسكتوه وخرس، لأنه قال نحن نقول بفروق الثقافات وليس تفوق الأعراق الجيني؟ وهو الكذاب الأشر ـ فإذا رفعت هذه الجملة من نص الإنجيل النازي لم يبق شيء، وكان مثلها مثل نزع نواة الخلية من الخلية فلا يبقى طاقة ولا حياة؟
سكت مونز التيوتوني غير مقتنع فهو عنصري، يفيض بغضا لكل ما هو أجنبي، تشم رائحة هتلر من جيب معطفه والقلم، يظهر ذلك منه في لحن القول وخائن النظرات وما تخفي صدورهم أكبر؟ وكيف
أنا رجل عشت بين أظهرهم تسع سنين عددا، وأزعم أنه يمكن لي أن أحكم عليهم جيدا وعلي إنصافهم أيضاً؟
فالله أمرنا بقول الحق والعدل ولو لقوم بيننا وبينهم شنآن اعدلوا هو أقرب للتقوى..
لقد كتبت بعض المقالات القصيرة لجريدة الوطن السعودية حول هذه المشكلة التي تفجرت في ألمانيا، سوف آخذ بعضا منها للاستشهاد، وهو وضع مخيف يحتاج إلى الاستنفار العلمي والنظر في زاوية المستقبل المحجوبة عن مصير الملايين؟ هل سيكون مصيرهم مصير مسلمي البوسنة على نحو أفظع؟ أم ينتظرهم مستقبل واعد زاهر في أوربا متحدة؟ نأت بنفسها عن المذابح الطائفية والمذهبية والقومية والعالمية فاجتمعوا بروح جديدة وواحة يهرب فيها المسلمون من جحيم الشرق إلى أرض تفيض لبنا وعسلا وحرية وكرامة وعلم ورفاهية؟
هل بعث هتلر من مرقده؟
كنت جالسا مع المفكر الجزائري مالك بن نبي حين زارنا في دمشق، وكنت مترددا في ذهابي لألماني للاختصاص بعد أن نفضت يدي من ديار البعث، وكان ذلك في ظروف انتقالي في تلك الأيام من المدرسة النقلية إلى المدرسة العقلية؟
شجعني الرجل على الذهاب، وذهبت وأنا متفائل أنها أرض لا أثر فيها لـ (اللوبي الصهيوني) كما هو الحال في أمريكا، وكنت جدا مخطئا لأنني وجدت بقايا النازية في رائحة عفنة في كل زاوية وشبر، فأمريكا دمرت النازية عسكريا وليس عقليا..
لقد أهلكت جيلا كاملا منهم؛ فقتل الملايين من النازيين المتعصبين، ولكنها أرض فيها قابلية التفريخ لهتلر وسارازين في كل حين.
الشعب الألماني منظم روتيني يعيد الدوائر بدون ملل إلى حد الهوس واعوجاج العقل والبلادة. (حقاني) في التعامل المالي إذا تعاملت معهم باليورو والمارك، وهو مادفعهم لتسريح سارازين من البنك الألماني لأنه أضر بجيوبهم؟
يتقنون الصنعة ولا يغشون، يحافظون على المواعيد فلا يكذبون مذكرين بإسماعيل أنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا؟
يكرهون المخالف للقانون ويقيمون اعوجاجه بأفضل من أي هيئة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بسبب روح الانتماء الاجتماعي والدفاع عنه بأفظع من النحلات عن الخلية؟
فياحسرة علينا نحن العرب الهربانين الطافشن من بلاد البعث إلى يوم البعث، نبحث عن وطنا بعد ان لم يبق وطن ومواطنة بل مسكينا ويتيما وأسيرا خلف حواجز من الأسمنت في جحور من سجون بدون عناوين.
شديدوا الدقة، يقدسون الفن والجمال والورد والشجر فلا يقطعون غصنا، وإذا ضربت سيارة شجرة فقتلتها غرموا الفاعل عليها مثل أي كائن حي له سلالة وعائلة وهو ماجري معي.
حريصون لحد الجنون على النظافة والترتيب والأناقة، يعشقون التفصيلات ولا يملون من المناقشات، قبل نزول الواقعات، وقبل غرق حواضر المدن من فساد الإدارة بمطر يوم وليلة كما رأينا في غرق جدة والرياض وباكستان ولاهور ورئيس الدولة يشرب القهوة في ضباب لندن الحلو.
دقيقون في تعبيراتهم وانتقاء ألفاظهم، وماذا بكلماتهم يقصدون؟
أحدهم إن تكلم كان أشبه ببرتقالة تعصر فيخرج منها شرابا مختلفا ألوانه فهم هكذا بدقة ينطقون، في انتخاب دقيق للكلمات فلا يتكلمون لغوا وكذبا وتأثيما؟ كما هو في ثرثرة الشرق، ولغو الطليان وطيش الفرنساوية، وضباب الإنجليز؟
إن أراد أحد منهم السلام عليك سبقك به، وإن لم يرد ما أجاب ولو بدأته ـ هكذا تعلمت من زوجتي رحمها الله، كانت تكرر ذلك علي جيدا، وتقول خالص افهم الألمان جيدا، وكان ذلك حين قلت إن الشيف كارل توما الذي نشتغل معه سلمت عليه اليوم صباحا جوتن مورجن (Guten Morgen) فما رد، وكنا ندعو الله كل صباح أن يحفظ حصانه وكلبه وسيارته المرسيدس 600SLCببابين عسى أن يرضى ويعتدل مزاجه؟
كان الرجل إذا شرب البيرة ـ وهم عادة يشربون من أقداح حجمها ليتران ـ فلا يرتوون إلا بدنّ من البيرة المعتقة، فيصفو مزاجهم وتحمر أعناقهم مع ظهر يوم الجمعة، حين يودعون الدوام، ولم نكن نعجب إن رأينا أحدهم باكيا ناحبا، بسبب التحوي الداخلي، فإذا سكروا انطلق اللاوعي يحكي مأساة الفراغ الوجودي؛ فنحمد الله على انشراح صدرنا بالأيمان.
أفمن شرح الله صدره للإيمان فهو على نور من ربه كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟
كل هذه الصفات وأكثر منها يعتمدها سارازين في دفاعه عن وجود الجرمان والقضاء على العثمان قبل أن يغزوها غازي الولادات من الأرانب التركية من الأناضول، بعد أن مات النسر الألماني المقل في الولادات.
نسي زرادشت الجرمان أن شعبه يتشيخ بيده وقدره، اتبع الشهوات وأضاع الصلاة والفريضة، ويداه أوكتا وفوه نفخ؟
والمخرج من الأزمة اثنان اندماج الثقافات، وروح التسامح، وتشجيع الهجرة، والنهوض بالأمة على خير الأخلاق، وعلى مسلمي ألمانيا أن يتحولوا إلى ألمان مسلمين، فيهم خير ماعند الألمان وخير ما عند المسلمين فيخرج نسل أقرب رشدا ورحما..
التعليقات