يروي الجاحظ في كتابه (الحيوان) :(أن أبا أيوب المورياني وزير المنصور بينا هو جالس في أمره ونهيه إذ أتاه رسول أبي جعفر المنصور فامتقع لونه وطارت عصافير رأسه، وذعر ذعراً نقض حبوته واستطار فؤاده فتعجبنا من حاله، وقلنا له: إنك قريب المنزلة فلم ذهب بك الذعر واستفزعك الوجل؟ قال سأضرب لكم مثلاً من أمثال الناس) يمضي بعدها الجاحظ فيروي عنه قصة (البازي والديك) فيتهم الأول الديك أنه قليل الوفاء، فبعد احتضان بيضته وإطعامه من الأكف صار لايدنو منه أحد الا وارتعب وطار يميناً وشمالاً، أما (البازي) فهو يقنص الصيد من الجو فيحضره لسيده. قال الديك: ولكنك هل لاحظت أن من يشوى على السفافيد هم الديكة وليسوا الصقور (إنك لو رأيت من البزاة في سفافيدهم مارأيت من الديوك لكنت أنفر مني) يلتفت الوزير المورياني الى الجاحظ وأصحابه معقباً: (لو علمتم ماأعلم لم تتعجبوا من خوفي مع ماترون من تمكن حالي). كانت نهاية الوزير بحد السيف ولم يكن مصيره استثناءً فقد تتابع مسلسل قتل الوزراء بشكل درامي بئيس في العصر العباسي، فكل من وزراء السفاح والمنصور والمهدي والرشيد والمأمون انتهت حياتهم بحد السيف قتلاً، بدءً من أبو سلمة الخلال وانتهاء بالفضل بن سهل، ويروي (التنوخي) قصة الوزير والقرد والقرَّاد على شكل مضحك، فقد اجتمع الناس في شارع ببغداد والقرَّاد يقول للقرد: هل تريد أن تكون برازاً فيوميء القرد برأسه نعم، فيكرر القراد هل تريد أن تكون عطاراً فيرد برأسه نعم، فمازال يكرر عليه طرفاً من الصنائع وهو يهز برأسه نعم، حتى إذا ذكر الوزير انجفل فقال: لا. ويصيح ويعدو بين يدي القراد فيضحك الناس.
من المفيد للمرء التشبع بالوعي التاريخي وأن يحاول تصور الجو الذي عاش فيه الناس فوضعنا المأساوي الحالي لم يولد من رحم التاريخ من لاشيء.
إن قصة (المورياني) هي عينة من ذلك الجو الذي عاشه الناس في العصر العباسي الذي دشنه (ابراهيم الإمام) بتوجيه تعليماته لأبي مسلم الخراساني على الشكل التالي: (إن استطعت الاتدع بخراسان أحد يتكلم العربية الا قتلته فافعل، وإيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله، وعليك بمضر فإنهم العدو القريب الدار فأبد خضراءهم ولاتدع على الأرض منهم ديارا).
يروي لنا التاريخ أن جو التجسس (الوشاية) وقتل الناس على الشبهة بالزندقة بسبب عداوة شخصية كان أمراً يومياً كما حصل لدماغ فذ خسرناه هو (ابن المقفع).
جو الرعب الذي عاصره الجاحظ وابن المقفع مع تأسيس الدولة العباسية التي جاءت لإقامة العدل ينعكس في بعض الروايات، ويؤكد قاعدة أن من أخذ السيف بالسيف يهلك. وأن الانقلاب العباسي لم يزد الأمور الا بؤساً، وعن طريق المنهاج النبوي الابعداً.
سئل (العتابي) لماذا لاتتقرب بأدبك الى السلطان؟ فيكون جوابه:(لإني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون؟). أن العتابي كان أعقل من عشرة وزراء.
أما (المفضل الضبي) فيدعوه رسول المهدي فيظن أنه الموت، فيتطهر ويلبس ثوبين ويستعد للنطع والسيف، فلايعرف مانوع الوشاية التي وصلت الخليفة. ولكن مفاجأة سعيدة كانت بانتظاره، فالمهدي كان في مزاج جيد، فسأله عن أفضل بيت قالته العرب في الفخر! لم يهدأ روعه تماماً فقد يكون استدراجاً، ولكن تتابع الاسئلة عن الشعر طمأنته أن ليس في الأمر مكيدة، فلما سأله في النهاية إن كان بحاجة لشيء. قال نعم إنه الدين قد ركبني. فيأمر له الخليفة بثلاثين ألف درهم.
إننا أمام مثقفين مفلسين وخلفاء يملكون الرقاب والأموال.
ولم تكن نهاية المثقف (الفضيل بن عمران) سعيدة على هذه الشاكلة فقد وشي به الى المنصور أنه يعبث بغلامه جعفر، وكان الفضيل كاتب ابنه جعفر، والكاتب كان مثقف العصر يومها قد اخذ من كل علم بطرف. أرسل المنصور اثنين من الزبانية وأوصاهما بحرص أن يقتلوه ولو تعلق بالغمام. ويتدخل شخص فيصف الفضيل أنه (رجل عفيف دين) وأنه (أبرأ الناس مما رمي به وقد تعجلت ياأمير المؤمنين) فيرسل المنصور يعزز بثالث قائلاً له: لك عشرة آلاف درهم إن أنقذته فامض بخطابي بحقن دمه. ولكن الرسول يصل وقد سفح دمه ولم يجف دمه بعد. رجع الرسول مكسوفاً الى الخليفة أن السيف سبق العذل. يلتفت المنصور الى مولاه سويد قائلاً: ماتقول لأمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولاجناية؟ قال سويد: هو امير المؤمنين يفعل مايشاء وهو أعلم بما يصنع. يغضب المنصور ويقول أنا أسألك في الخاصة وأنت تجيبني في العامة.. خذوه من رجله فألقوه في نهر دجلة.
إن إعادة النظر في تاريخنا لاكتشافه حقيقته من جديد ضرورياً لاخراجه من خانة القدسية، واعطاءه حقنة تواضع أنه بشري مختلط بمظاهر الضعف والقصور وملطخ أحياناً بالدم، وأننا مازلنا نرضع من نفس الثقافة العباسية بفارق ألف سنة، وجراثيمها الإمراضية تضرب مفاصل ثقافتنا بألم.
وفي الوقت الذي كان المغني (ابراهيم الموصللي) يأخذ من الرشيد 200 ألف دينار مايعادل ميزانية دولة في تلك الأيام، ويترك المنصور في خزائنه 14 مليون دينار و600 مليون درهم يفرقها المهدي بين الناس سوى ماجبي في عصره، كان الشاعر أبو العتاهية يسجل منظراً مختلفاً لحياة الناس الغارقين في البؤس:
من مبلغ عني الإمام نصائح متواليــــــــــة
إني أرى الأسعـــار أسعار الرعية غاليـــة
وأرى المكاسب نزرة وأرى الضرورة فاشية
وأرى غموم الدهر را ئحة تمر وغاديـــــة
وأرى اليتامى والأرامل في البيوت الخاليـــة
يشكون مجهدة بأصوا ت ضعاف عاليــــــة....
في هذا الجو لمع ابن المقفع وترك لنا أفضل كتبه (كليلة ودمنة) التي جمعها من ثقافات شتى وأضاف اليها من عنده، وصبها في قالب بديع من إشراق العبارة وعمق المعنى، وكان يوصف أنه إذا ازدحمت المعاني في صدره توقف عن الكتابة لينتقي أفضل الكلمات فيصبها في رشاقة هندسية كالبناء كل كلمة لبنة تتماسك مع الأخرى.
ابن المقفع اشتهر بكتابه (كليلة ودمنة) ولم يشتهر بكتابه الآخر ( رسالة الصحابة) ويجمعهما هدف واحد هو مسؤولية المثقف في نقد الأوضاع. إن الكتاب الثاني لايقصد به صحابة رسول الله ص بل بطانة الحاكم قدمه الى المنصور بكثير من المدح والحذر يطرح عليه خطة اصلاحية متكاملة أمام الفساد العام، وتدل الرسالة على عبقرية مبكرة، ناقش فيها أخطر أربع مسائل: المؤسسة العسكرية (الجند) وفوضى القضاء وفساد البطانة والاصلاح الزراعي (الخراج)، واقترح لاصلاح الجيش ستة أمور: أن يتم تربيتهم ليس على الطاعة المطلقة بل المشروطة في طاعة الله فإن كانت معصية لله فلاطاعة للحاكم، ولايعقل أن يقول أحد القواد أنه لو أمرنا الخليفة أن نستدبر القبلة في الصلاة لقلنا سمعنا وأطعنا، فهنا لم تعد المؤسسة العسكرية اسلامية بحال. وطرح فكرة فصل الجند عن ادارة الشؤون المالية فسوف تشترى ذممهم، ولإن ( ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة)، وأشار بمراعاة الكفاية في القيادة فتسلم على أساس الكفاءة وليس على أساس القبلية أو الولاء. ورأى تثقيف الجند فلايكون الجندي في يد الخليفة بوقاً أو عصا. ونصح بدفع رواتبهم بدون تأخير. وأوصى بتفقد أحوالهم أكثر من الطاعة وامرهم بقتل الناس.
كان كتاب (رسالة الصحابة) انذاراً للمنصور بوجود أدمغة واعية في المجتمع مقلقة للنوم العام، ولكن الكتاب اللاحق (كليلة ودمنة) كان يتكلم بلغة الطيور وحيوانات الغابة ويحمل رسالة التوعية السياسية بعدما أصيب المجتمع بالعي والخرس، ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير، عندما ظن عم المنصور أنه وصل الى شاطيء السلامة بكتاب الأمان الذي وضع صيغته القانونية ابن المقفع بأدبه الرائع، بأنه إذا أخل بشروط الأمان فقتل عمه تكون زوجاته طوالق وعبيده أحرار وليس له بيعة في أعناق الناس. وظن ابن المقفع ان الحبر الكثيف والورق الجيد والعبارات المنتقاة بعناية ستكون حماية من الغدر فأخطأ ودفع حياته ومن كتب له ثمناً لذلك. في عصر يقوم على الغدر والقتل ومازال يلون سياستنا حتى اليوم. وإذا علمنا أن ابن المقفع قتل وهو دون الأربعين أدركنا عظم الفجيعة في حرمان الأمة من أدمغة ناضجة كان يمكن أن ترسم مصيرا مختلفاً للأمة. يربط الفيلسوف (برتراند راسل) بين قيام النهضة العقلية في أوربا وحفنة من الأدمغة المتميزة، ويقول لو تم اغتيال أصحابها لما كانت نهضة. والمنصور وأمثاله قاموا بهذه المهمة على احسن وجه.
ينقل (حسين مروة) في كتابه (تراثنا كيف نعرفه) محنة المثقف ( عبد الحميد الكاتب) أنه حين فر مع (مروان بن محمد) آخر خلفاء بني أمية أن مروان قال له: (انج بنفسك ياعبد الحميد، فإنهم إن قتلوني خسرني أهلي وحدهم، وإن قتلوك خسرك العرب جميعاً).
كان على مروان أن يقول سوف تخسرك الانسانية، لإن خسارة المثقف كما جاء في الحديث مناحة تبكي فيها حيتان الماء وطيور السماء. وليس غريبا أن تذكر الآية أن الظالمين لاتبكي عليهم السماء ولا الأرض وماكانوا منظرين.
أما مصير الخليفة الأموي (مروان) فكانت بالسيف في قرية بوصير في مصر، وأما المثقف (عبد الحميد) فاختفى لفترة عند (ابن المقفع) ولكن عيون الجواسيس العباسية كانت خلفه ففاجأت الرجلين في بيت ابن المقفع وهتف الجند أيكم عبد الحميد فليتقدم؟ فوجيء الجند أن الاثنين قفزا معاً كل يقول عن نفسه أنه عبد الحميد! أما ابن المقفع فكان يريد أن يفدي ضيفه بنفسه، وأما الكاتب عبد الحميد فخشي أن يفرط في صاحبه ويسارع اليه الزبانية. تقدم عبد الحميد لرجال السلطة فقال: ( ترفقوا بنا فإنا كلاً منا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم ويمضي البعض الآخر ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم ففعلوا وأخذ عبد الحميد).
وفي كتاب (وفيات الأعيان) لـ (ابن خلكان) يذكر نهاية المثقف عبد الحميد أن أبا العباس السفاح الخليفة العباسي دفعه الى صاحب شرطته (فكان يحمي له طستاً بالنار ويضعه على رأسه حتى مات) ويصفه ابن خلكان أنه:(يضرب به المثل في البلاغة حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب أماماً).
أما مصير (ابن المقفع) فتأخر بعض الشيء ولكنه قتل بأشنع من الكاتب عبد الحميد. يقول (ابن خلكان) أنه لما ألقي عليه القبض والي البصرة قال له ( أنشدك الله أيها الأمير في نفسي. فقال أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، وأمر بتنور فسجر، ثم أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه عضواً عضواَ، وهو يلقيها في التنور، وهو ينظر، حتى أتى على جميع جسده، ثم اطبق عليه التنور، وقال ليس علي في المثلة بك حرج لإنك زنديق وقد أفسدت الناس).
يقول بعض الصيادين ان الأفعى عندما تقترب من فريستها تصاب بالرعب فلا تتحرك فتبتلعها لقمة سائغة. وأعرف من غابات ألمانيا أن الغزال يصاب بصدمة الضوء ليلاً فلايبرح وحتى لايعمل السائق الحادث عليه أن يطفيء النور فيفر الغزال. وأمام شحنة رعب من هذا النوع الذي تنقله قصص التاريخ، أو مانراه أحياناً في المنطقة العربية يصلح تفسيراً لحالة الخرس المطبق للمجتمع، فالانسان يتلقى الجرعة القصوى من الرعب أسلمته الى حالة الرهاب المرضية، وقتلت المعارضة اجتثاثا.
راهن (عبد الله بن المقفع) على التغيير العقلي فحاول القيام بمسؤولية المثقف في التوعية، وحاول في (رسالة الصحابة) أن يتناول أهم أربع نقاط في الاصلاح الاجتماعي. كانت الأولى في إصلاح المؤسسة العسكرية، وناقش في الثانية مسألة (القضاء) أن يرجع فيها الى المصلحة العامة والعدل وعدم مراعاة القياس الشكلي فمتى (رؤيت العدالة في غير القياس يجب أن نضحي بالقياس) ويأتي ابن المقفع بمثال على ذلك انك لو سألت أحدهم أتأمرني أن أصدق فلا أكذب كذبة واحدة أبداً لكان جوابهم نعم، ولكن ماذا تقولون لو أن رجلاً هارباً من قبضة ظالم وسألني عن مكانه وأنا أعرف مخبأه هل أدل عليه والتزم الصدق؟ ليصل في النهاية باقتراح مايشبه فكرة الهيئة التشريعية لتقنين القوانين وتعميمها في الدولة ويقرر (أحمد أمين) في كتابه (ضحى الاسلام) أنه (رأي له قيمته ووجاهته وهو يتفق في كثير من نواحيه والآراء الحديثة في التشريع، ولو عمل به المسلمون لكان له أثر كبير في الحالة الاجتماعية) ولم تذهب دعوة ابن المقفع سدى فلعل كتاب (الخراج) الذي وضعه الامام الحنفي (أبو يوسف) لاحقاً لتنظيم أوضاع الأراضي كان من وحي فكرة ابن المقفع، بفارق أن ابن المقفع كان ينطلق من تحليل عقلاني بحت.
وأما الفكرة الثالثة التي عالجها فكانت شريحة (البطانة) وأهمية انتقاء هذه النخبة وهي ماعناها بعنوان الكتاب، فكلمة (الصحابة) قصد بها الحاشية التي تحيط بالحاكم وتدفعه الى اتخاذ القرارات الخطيرة، فيقرر بكل أسف أن (الخليفة يقرب أوغاد الناس وسفلتهم فهرب الخيار من التقرب للولاة) ويروي أن من أتى الى دار الخلافة أيام السفاح أبوا أن يزوروا الخليفة لما يعلمون من بطانته وسوء سيرتهم. وذكر أنه (مارأينا من اعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة ممن لاينتهي الى أدب ذي نباهة، ولاحسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور) ليصل الى نصح الخليفة أن لايقرب اليه الا (رجلاً أتى بمكرمة عظيمة أو رجلا له من الشرف وجودة الرأي والعمل مايؤهله، أو رجلا فقيها مصلحا ينتفع الناس بفقهه) ويقرر في عمل هذه النخبة، أنه (يجب أن يعين لكل منهم اختصاص في عمل لايتعداه) مايسمى بالتكنوقراط في أيامنا.
ويذكرنا هذا الكلام مع ماوصف (عبد الرحمن الكواكبي) في كتابه (طبائع الاستبداد) طبقة الحاشية هذه أن تكون : (النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعاً أعلاهم وظيفة وقرباً). ويصل ابن المقفع في البند الرابع من رسالته الى فكرة الاصلاح الزراعي (الخراج) أن تمسح بشكل جيد مع التدوين الدقيق والضريبة المناسبة، ولكنه اعترف أنها مسألة ليست بالسهلة أمام خيانة مستفحلة.
يبدو ان رسالة الصحابة لابن المقفع لم ترو غليله فاستعان بأدوات الأدب لينتج معجزة أدبية رائعة كانت فكرة في أفلام الكرتون التي نراها عند الأطفال اليوم، فإذا لم ينطق الناس فلتنطق الحيوانات، وإذا أصاب البشر الخرس فلابأس من إرسال الأفكار على لسان القرد والغيلم والببر والجرذ والسنور، وهكذا بدأ كتابة كليلة ودمنة، وذكر في مقدمتها أهدافاً أربعة: أن يسارع الى قراءته أهل الهزل من الشبان، وإظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون انسا لقلوب الملوك، والثالث أن يكثر استنساخه فلايبطل أو يخلق على مرور الأيام، أما الغرض الرابع فقد أخفاه واحتفظ به لنفسه تحت عبارة غامضة (والغرض الرابع وهو الأقصى وذلك مخصوص بالفيلسوف) ويعقب احمد أمين على هذا الغرض الخطير (والظاهر أن هذا الغرض يمكن تلخيصه في أنه النصح للخلفاء حتى لايحيدوا عن طريق الصواب، وتفتيح أعين الرعية حتى يعرفوا الظلم من العدل، فيطالبوا بتحقيق العدل. ولم يوضحه لإن في إيضاحه خطراً عليه من المنصور ولعل هذه النزعة كانت من الأسباب في الايعاز بقتله). يبدو أن كتاب (كليلة ودمنة) قتل صاحبه ولم يشفع لصاحبه نبل اخلاقه ولاسعة علمه ولاأنه من المع الشخصيات في الأدب العربي. شعر الخليفة المنصور أن شخصيات من هذا النوع غير مرحب بها، فهو يريد عبيدا وليس مفكرين احرار. يريد أدوات للاستخدام وليس ارادات لقيادة جماعية. يصف من عاصر ابن المقفع مثل (محمد بن سلام) (سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن احمد ولاأجمع، ولاكان في العجم أذكى من ابن المقفع ولاأجمع) ويصفه الجاحظ:(كان جوادا فارسا جميلا) ويعجب الناس بأدبه فيسألونه من ادبك؟ فيقول( نفسي إذا رأيت من غيري حسنا أتيته وإن رأيت قبيحا أبيته). كتاب كليلة ودمنة كان رسالة من ابن المقفع للمنصور فتسلمها بامانة ورد عليها، فأوعز الى أحد أدواته المدعو (سفيان بن معاوية) وهو يعلم حقده عليه فيلقي عليه القبض قائلاً: (ياابن الزنديقة لادخلنك نار الدنيا قبل الآخرة) وهو يعلم أن تهمة الزندقة ليس فيها استتابة، وهي تهمة لايخرج منها صاحبها الا مع خروج الروح. إن الأمة خسرت الكثير من هذه الكنوز في جو الاستبداد فالمقفع قتل وعمره 36 سنة شأن العباقرة، ولكنه ترك بصمات عمله على كل الأدب العالمي. ونكاد ننسى اليوم أنه قتل من اجل أفكاره ومن قتله. أما ابن المقفع فيلتمع كأشد كوكب دري في السماء إضاءةً. يذكر (مكيافيلي) صاحب كتاب (الأمير) عن الفرق بين الدولة العثمانية والفرنسية، أن الأولى صعب قهرها سهل الاحتفاظ فيها بعد كسرها، أما الدولة الفرنسية فسهل كسرها في البداية صعب الاحتفاظ فيها بعد ذلك. ويكشف السر عن ذلك عن طبيعة الحاكم والأمة والعلاقة بينهما، أن الأمة التركية غنم على رأسه راعي منفرد فإذا قتلت الراعي وضعت يدك على غنم لاتملك حولا ولاطولا، أما الأمة الفرنسية فهي مجموعة رعيان متشاكسون على رأسهم أحد الرعاة، فإذا تغلبت على راعي وقعت في مصيدة الرعيان بايديهم عصي كثيرة.