(SURGEON BETWEEN COMPLAIN AND COMPLICATION?!)

قالت لي زوجتي لا أدري هل العزاء عندنا أم عندهم؟ قالت هذا في معرض موت مريض لي في ألمانيا هو السيد (ميلتسارسكي) فقد مات من مضاعفات ما بعد العملية، وبقي أياما يترنح في سكرات الموت قبل أن يقضى الأجل؟؟
وما زلت أتذكر الرجل واحزن عليه، لأنه سأل لمن يسلم نفسه في العملية؟ قالوا له الدكتور يالابي؟ هكذا هو اسمي باللغة الألمانية؟ لأن حرف الجيم يلفظ ياء؟
كان الرجل سمينا جدا؟ فوق المائة كيلو؟
قلت له لابد من التنحيف إن أردنا السلامة!!
وفعلا ضغطنا وزنه، ومن خلال حمية صارمة لمدة شهر، فلم يكن يأخذ إلا الماء وشيء من طعام قليل؟ فأصبح ثمانين كيلو، وتمتع بالرشاقة ولكنه كان في طريقه إلى دار القرار..
بعد العملية جاءت زوجته وكان في صوتها رنة حزن ولكنها كانت متماسكة، قالت: يادكتور يالابي لقد بذلت جهدك، وهو في فترته الأخيرة لم يكن له عمل سوى شرب الخمر والتفرج إلى التلفزيون؟ وودعت بكل وقار فتأثرت أنا أكثر..
وما زال حتى اليوم اسم الرجل وصورته لاتفارقني، وأنا أكتب هذه المقالة بعد مرور 28 عاما، ويصعب على المرء أن يعترف هكذا، ويحب المرء لحظات الانتصار ويتجنب فواجع الفشل، وفي يوم سألتني مجلة المعرفة السعودية عن محطات الفشل في حياتي فذكرت ستا ولم أخجل؟
وقد أصبح هذا المريض في عالم الغيب، ولحقته زوجتي أيضا فهما في عالم الفناء صنوان..
وسبحان الباقي الذي كتب علينا الموت فليس منه مفر..
وفي الواقع فليس أشد ألما على الجراح من فقدان مريضه. وفي قناعتي ليس من طبيب إلا ويحرص على أخذ مريضه إلى شاطيء السلامة، فمنهم من ينجو، ومنهم من تأخذه لجة الموت..
وخلال مهنتي التي بدأت في عالم الجراحة أذكر سلعلا وأياما عصيبات على امتداد 35 عاما وليالي حرجة..
وكما يقول المثل العربي ولولا المزعجات من الليالي لما عرف القطا طيب المنام..
وأحيانا اقول ليتني لم أدخل كل الجراحة، فضلا عن جراحة الأوعية الدموية الخطيرة، وأقول ربما كان اختصاص الجلدية، أو المخبر، أو فحص عينات الأنسجة من وراء مجهر، بدون مسئوليات ومناوبات ليلية طاحنة أعقل؟
ولكن سبق القول منه سبحانه، ليدخلن هذا جراحة، وذاك قلبية، وثالث مخبرا، فالمرض طيف واسع يحتاج كل الاختصاصات..
وأصعب خسارة هي الخسارة في قاعة العمليات، وأذكر الكثير ممن لم يفارقوا طاولة العمليات، أو الإسعاف إلا إلى التراب..
فما استطاعوا توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
ويحزن الطبيب ويأسف أحيانا من لحظات مجنونة، يودع المريض الحياة بسرعة، والطبيب ومن حوله ينظرون ولا يصدقون؟
ويتساءلون هل الحياة هشة رقيقة إلى هذا الحد؟؟
كنت يوما في النماص حيث جمال الطبيعة، في مشفى ظريف، عند قوم كرماء، لطيفي التعامل، دمثي المعشر، جميلة أبدانهم، حسنة صورهم، وفي يوم أمسكت ببغاء صغيرا نقر يدي، فلم أنتبه ووضعت يدي على منقاره، ولم أكن أدري أن يدي فوق فتحات تنفسه، وفي ثواني كانت الحياة قد انطفأت، مثل شمعة هبت عليها ريح صرصر، فلم أصدق كم الحياة هشة؟ وكيف تبدع يد باريء النسم باعث الحياة من الموات الهامد..
وهكذا فمهنتنا خطيرة، محفوفة بالتحديات، والأيام حبالى، ومع كل صباح لايعرف المرء ماذا ينتظره هل يموت هو؟ أم يموت مريضه؟ فليقل رب أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا..
وليس مريضا مثل مريض، ولا مرضا مثل غيره، والموت يطوقنا في أجل لاريب فيه.
الاختلاط (COMPLICATION) هو تلك المضاعفات التي تحدث أثناء أو بعد العمل الجراحي، وهذا البحث يناقش هذه المشكلة العويصة التي تقض مضجع الجراح بوجه خاص.
وفي الوقت الذي يدفع المريض الثمن من صحته وحياته، يدفعها الجراح بعملة من نوع مختلف في سمعته والرض النفسي (PSYCHOLGICAL TRAUMA).
ويستولي على الجراح أحياناً شعور رهيب بين اقتحام العملية والهيبة من خوض غمارها، فهو في متحارجة صعبة لايحسد عليها، يعاني من انضغاط ساحق بين اختلاطات العملية الجراحية وشكوى المريض وأهله، التي هي اختلاط الاختلاط؛ فكما يقود نجاح العملية الى تهليل الجراح وغبطته الفائقة؛ و(حسد بعض زملاءه) مع نجاة المريض وعودته الى شاطيء السلامة، مظللةً بثناء الأهل على بطولة الجراح؟!
وتبدأ مؤشرات (بورصة) إدارة المستشفى في الارتفاع، في أسواق التعاملات في المقاهي والمطاعم والمجالس العامة.
كذلك يفعل الاختلاط الجراحي في كآبة الجراح، ومعاناة المريض، وذم الأهل، وشماتة (بعض) زملاء العمل، وانخفاض مؤشر بورصة إدارة المستشفى في أسواق التعامل الشعبي.
هذه المشكلة العويصة التي هي في أحد أطرافها حق المريض، وواجب الطبيب في الطرف المقابل، ويمكن تصور ذلك بشكل واضح عندما ينزل الطبيب من عرشه الأبيض، ليتحول الى نكرة في فراش مريض يئن من الألم، لتنتهي الى إعاقة دائمة، أو وفاة ليطوي قيده من ديوان الأحياء، كما جاء في فيلم (الدكتور) الذي حوَّل تلاميذه في أول درسٍ سريري، الى مرضى لمدة 72 ساعة يخوضون غَمَرات المرض، ويتجرَّعون غصص وحسرات المريض من قاع الحياة فيقدرون نعمة الصحة، وألم المريض وخوفه، وكذلك أمله، حينما يضع في أيدينا نحن الأطباء أعز مايملك: حياته. ولكن قدر الاختلاط في العمل الجراحي، يبقى هاجساً لايمكن تجاهله أو الفرار منه، بل إنه يأتينا على غير موعد، في عمليات نسميها تافهة وسخيفة وصغيرة، كما حصل في حادثة وفاة مريض قوي البنية صغير العمر، دخل ليجري منظار للركبة فلم يزر بعدها سوى التراب.
كان من الضروري قبل هذه العملية (السخيفة؟!) أن يقرأ المرء قواعد جراحية ذهبية، يمكن أن نفهم فلسفتها في صورة القواعد التالية:

1 ـ القاعدة الأولى:
لاتجرى الجراحة إن أمكن حل كلها أو معظمها بغير جراحة، فالجراحة كالكي هي آخر الدواء، وليس كل الدواء وأول الدواء.

2 ـ القاعدة الثانية:
وهي قاعدة الجراح الياباني ناكاياما لاتؤذي مكان التدخل الجراحي أكثر ما هو موجود في الإنسجة المصابة، ومن المفروض في الجراحة أن لاتفسد أكثر مما قد فسد. إن كان ولا بد فاخرج على قاعدة البدوي؛ الظفر من الغنمية بالإياب، كما لو رأيت ورما منتشرا في الكبد يكاد يتفزر منه؟ انتبه جيدا حتى في حال أخذ الخزعة، فقد رأيت في ألمانيا من مات على الطاولة بعد إدخال إبرة إلى الكبد لأخذ عينة من مكان المرض.

3 ـ القاعدة الثالثة:
التحدي الجراحي في كثير من الأحيان هو في التشخيص أكثر منه في المعالجة، لأن العمل اليدوي لايرتبط بالذكاء بقدر تمرين اليدين، والتشخيص مرتبط بالتحليل العقلي وهو العمل الانساني بالدرجة الأولى.

4 ـ القاعدة الرابعة:
لاتسمى العملية (صغيرة) حتى يتم إنجازها والخروج منها، فقد تكون عملية زائدة دودية تتطلب عشرين دقيقة من الوقت، فتتحول الى استئصال نصف الكولونات في عملية خطيرة تتطلب خمس ساعات.

5 ـ القاعدة الخامسة:
وعلى الجراح أن يستبعد دوماً عنصرين مفسدين لروح العمل الجراحي وذوقه المتميز: كثرة العمل وسرعته؛ على حساب الدقة والسلامة، فيجب أن يترك ساعته خارج قاعة العمليات، وعليه أن لايكثر من النظر الى ساعة صالة العمليات في محاولةٍ لقرع الطبول وضرب الصنج لبطولاته، فحياة المريض أهم من انتفاخه، والتحدث باسمه طويلاً، أنه جراح لايشق غبار فرسه و(طرطشات) دم المريض من حوله.
العبرة إن هي في حسن العمل لاكثرته (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً).

6 ـ القاعدة السادسة:
الجراحة مثل لوحة الفنان، ومبضع الجراح هي ريشته، وبالتالي فالجراحة تتأرجح بين أن تكون (خربشة)، وبين أن تتحول الى عمل أنيق ولوحة فنية رائعة، ذات مسحة جمالية خلابة، بدءً من غسل المريض وتغطيته، وانتهاءً بندبة الجلد، فالندبة الجراحية هي بصمة الجراح الأخيرة الخالدة، التي تحفر في جلد المريض، وأحياناً الأماكن الحساسة منها طبعة صانعها، التي لاتغادر بدن المريض حتى حفرة قبره.

7ـ القاعدة السابعة:
لاتلعب ولاتعبث في مكان الدخول... اعمل اللازم واخرج فالزايد أخو الناقص، مثل استئصال زايدة دودية متقيحة فكل لعب في المنطقة يقود لانتشار الالتهاب في البريتوان والأسوء حالة السرطان فيمكن زرعه في كل مكان. في الحالة الأولى قد يترتب عليه انسداد معوي. وفي الحالة الثانية مع زميلنا الكشميري في ورم الجسم السباتي كاد أن يموت المريض.

8 ـ القاعدة الثامنة:
اعتماد المنطقية في مواجهة الحالات، وارجع إلى الواقع أكثر من النصوص: بطن حاد إلى الجراحة ولو كانت فحوصات الدم طبيعية؟ رصاصة دخلت الفخذ ولم تخرج: صور شعاعية من مفرق الرأس إلى أخمص القدم حتى نعثر عليها وهو ما حصل معنا فعثرنا عليها في البطن بعد ان اخترقت قناة هنتر الفخذية مرورا للبطن؟؟

9 ـ القاعدة التاسعة:
القرار الصعب ليس أن تجري الجراحة بل أن تقول لا جراحة والويل لك إن أخطأت فسمعة الطبيب على المحك؟

10ـ القاعدة العاشرة:
لاتقاس عظمة الجراحة في عملية كبيرة معقدة، بل الكشف عن الاختلاط في الوقت المناسب والسيطرة عليه. مثال: الرشيدي وانسداد شريان البطن. الدورة المعيبة لليمني بعد عملية مفاغرة الأمعاء المعدة، وفتح المريض مرة ثانية. لاتخجل من مواجهة ما يحدث لأن النتائج ستكون بالتغاضي أمر وأدهى حيث لاينفع تداخل وعمل؟

11ـ القاعدة حادي عشر
السماع من الأصغر وممن يعرف البيئة والمحيطة وامراضها؟ مثال: مريض تعرض لانسداد معوي بسبب كتلة ديدان اسكاريس، وهو مرض الدول المتخلفة فلم نر حالة يتيمة في ألمانيا؟ ـ كان رأي الجراح فتح المكان ونظيفها من كتلة الديدان!! ولو فعل لكانت الكارثة فسيبقى من الديدان ولو واحدة تقضم الخياطة وتقع واقعة التهاب البريتوان باندلاق محتوى الأمعاء للبطن.. كانت نصيحة المساعد (احلبها) باليد طردا من الأمعاء حتى الكولونات ثم اسق المريض دواء طاردا للديدان فتنغسل الأمعاء وينظف مجراها ومرساها..

12 ـ القاعدة اثنا عشر:
الأمانة للجراح ألصق من ظله فعلى الجراح مخاطبة من حوله كما في وصية لقمان يابني: إياك والغش والتدليس والكذب والتلاعب وإخفاء الحقائق فهي مهمة ولو كانت موجعة؟

13 ـ القاعدة ثلاث عشر:
المراجعة الدؤوبة في كل عمل، فهناك ماقبل وما بعد وبينهما، وعلى الطبيب مراجعة ومتابعة العلاج لأنها قد تنتهي حمدا أو كارثة فانتبه؟

13 ـ القاعدة أربع عشرة:
اتبع المثل الروسي قيس تسع مرات قبل أن تقص مرة واحدة، ينطبق هذا على الشرايين الصناعية وقطع الأمعاء والكولونات وما شابه.. أو براغي العظم وخياطة الأوتار وترقيع الشريان والوريد..

ثلاث صفات تسم فن الجراحة: الجرأة والجذرية والوضوح: إن الجراحة هي ذلك الفن الجذري والجريء والواضح في معالجة الأمراض في الغالب؛ فهو فن جذري لأن مصطلحاته تدل عليه من أمثال: استئصال الورم، وبتر الطرف، وشق الخراج.
وهو جريء لأنه سباحة بين القيح والدم، واللحم والعظم.
أسلحته بتارة قاطعة من أمثال: المشرط والمثقب والمنشار والابرة.
وهو واضح يقيني لأن كل من يشارك في العملية الجراحية، يشاهد انثقاب الزائدة الدودية، وانتفاخ المرارة، وانسداد الشريان، وانتشار الورم؛ فإذا الزائدة استُؤصلت، والخثرة من باطن الشريان انتزعت، مثل الثعبان الأسود، وإذا حصاة الحالب اخُرجت، فعاد البول يصب بأجمل من خرير مياه شلالات نياجارا. علمت نفس ما أحضرت ومرضت فاستخرجت.
إن الأطباء قديماً كانوا يعرفون مرض السكر بتذوق البول شخصياً، والجراح اليوم يسر للغاية من رياح البطن عندما تنطلق، فيطرب لحركة الأمعاء وخروج الغازات ولون البراز الظريف؛ فالبياض كارثة بانسداد طرق المرارة، والسواد كارثة بنزف داخلي.

علم الجمال وتنوع المهن في فن الجراحة:
الجراحة فن جميل لأنها تتصل بنسب مع كل فنون الحياة اليدوية، فالجراح يستعير المشرط من الجزَّار، والمنشار من النجار، والمثقب من الحداد، والابرة من الخياط، والقثطرة من السباك مستعيرا تقنية مسلكي الأنابيب (المسطومة)، بل وريشة الفنان مع عمليات التصنيع والتجميل.
إن الجراح يدخل دوماً حفلة تنكرية، قد غطى رأسه بقبعةٍ، وحجب وجهه بقناع، فهو يبدل ثيابه بين جميع المهن، فجراح التجميل يبدو بثياب الحلاق، وأخصائي البولية بمسلكي حنفيات المياه، واستشاري العظام بمنظر الحدَّاد وهو يلوح بالازميل والمطرقة، أو في ثياب نجار ماهر يثقب العظم ويركب البراغي وينشر الأطراف، يمسك بالمبرد فيحف النهايات الحادة ويبردغ الحواف، ويأتي جراح الأوعية فيُسَلِّك المجاري (المسطومة) أو يستعير أبرة الخياط و (الرتا) فيرقع ويخيط.
إن جراح الأوعية يجب أن يحسن الخياطة بأصابع لاتعرف الاهتزاز والاضطراب، بأفضل من أنامل امرأة ماهرة في الخياطة.

ولكن ليست ليالي الجراحة كلها عزفاً على العود!!
مع كل هذه اللوحة المضيئة لفن الجراحة فليست كل فصولها بهذا الأشراق، ولا كل لياليها بهذه المتعة والزهوة، فهو بقدر مايخفف ألم المريض ومعاناته، مليء بالغدر والخطر والمفاجآت، فالجراح يمشي في غابةٍ؛ تتعثر فيها خطواته للغاية، في خريطة تتغير فيها أماكن الاشجار باستمرار، إلى درجة انقلاب الغابة على رأسها أحياناً، عندما نكتشف قلباً على اليمين، وزائدة على الشمال، وانثقابا قرحة يلتئم بدون خياطة، وساقاٍ قُرر بترها سبع مرات، فنجت متحدية كل خرافات الأطباء..
فالأطباء أيضاً لهم خرافاتهم الخاصة.
ومأساة العمل الطبي الجراحي ارتباطه بالاختلاطات أكثر من بقية فروع الطب، على جدية وصرامة تدخله تماماً.
والمضاعفات درجات تتراوح بين التهاب الجرح، وانفلات عقدة الخيط ليتدفق الشريان بالنزف الصاخب، أو عدم التحام مفاغرة الأمعاء ليتدفق محتوى الأمعاء بالكارثة، أو انطلاق صمامة (جلطة) شحمية خبيثة، بعد كسر عظم، لتسد شريان الحياة في الرئة فالموت الصاعق.

كارثة الاختلاط الجراحي:
إن حدوث الاختلاط أمر معترف به في فن الجراحة بنسبة معروفة، وكل دواء له تأثير جانبي؛ فليس في الطب معجزات العصر القديم، بل هو ظل النسبية في كل حركة فحساسية الدواء التي لانعرف متى تستيقظ؛ تفتك وتدمر في انفجار صاعق متراوح الشدة مثل مقياس الزلازل لريختر.
وإن دل هذا على شيء فهو من أكبر العبر في استيلاء النقص على جملة البشر.

مناظر من الاختلاطات والمضاعفات الجراحية:
إن الخرس أو الشلل وارد في الجراحة العصبية، كما أن النزف وانسداد الشريان بالخثرة، اختلاط متكرر في جراحة الأوعية الدموية، فضلاً عن تكون الخراجات والنواسير في جراحة البطن، أو الالتهاب المخرب للعظام في جراحات الاورثوبيديا.
إن الآلام والنزوف والتقيحات والتشوهات والعرج وندبات الجلد، كلها بكل أسف مناظر شائعة للاختلاطات الطبية، التي تحدث بين الحين والآخر على غير موعد.
إنه من أجل إنقاذ الأعداد التي لاتحصى من المرضى والمتألمين، الذين تُسمع أناتهم في ممرات الأقسام الجراحية، أو ممن يهددهم النزف بالموت، والسرطان بالفناء، يحدث في هذه العاصفة ما لابد من حدوثه من سقوط بعض الضحايا، الذي هو بكل أسف الضريبة التي لامفر منها، مع كل إعصارٍ وزوبعة تعصف بمكان ما.
إن الجراح لايحب ولايريد أن يتعرض مريضه للنزف، أو تتدهور حالته بانتشار التقيح، أو تسرب الورم، أو حدوث النواسير المزمنة، أو انشقاق الأرض وابتلاع الضحية ضيفاً على الابدية.
إن كل مايحدث أن هناك مركب متعدد العوامل في حدوث كارثة الاختلاطات يمتزج فيها المجهول مع المعلوم، العلم مع الضعف البشري، العقل مع الهوى، الدقة مع العجلة، في مركب واحد محير، لايحيط الأطباء بكل تفاصيله. كله يتفاعل في قدر واحد لينتج هذه النتيجة المرة الطعم المسماة بالمضاعفات (COMPLICATIONS).
هذه العلاقة مابين المجهول والمعلوم هي الأساس الفلسفي لفهم أحداث كثيرة، وهناك تحول مستمر، وانتقال لايتوقف بين عالمي المجهول والمعلوم، فالكون في حالة دينامية متحركة وليس استاتيكية جامدة.
إن ماكان في عالم الغيب في يوم من الأيام تحول الى عالم الشهادة، فرؤية العظام من خلال الأشعة السينية أو الأجسام المعدنية الثقيلة المخبأة في حقائب السفر في المطارات، انتقلت الى عالم الشهادة التي نراها بأعيننا، ورؤية المعدة بالمناظير نقلتنا الى عالم واضح نميز فيه بين النزف والقرحة والورم رأي العين. ومعرفة ضغط القلب الداخلي بالقياس، والجنين ذكراً أم أنثى داخل الرحم، وتدفق الدم داخل الأوعية أو انسدادها بالجلطات القاتلة، وحصيات المرارة والحالب، بل تطور الطب الى درجة تفتيت الحصيات بالصوت الذي لايُسمع ولايُحَس ولايُشَم ولايبقى له أثر، بفعل فيزيائي بحت.
وعلينا أن نفرق في هذا البحث بين أمرين حساسين هما: الاختلاط المتعارف عليه والاهمال.

الفرق كبير بين الاختلاط والاهمال:
قبل ذلك نشير إلى الجريمة أيضا في الطب فهناك من اختص بذلك كما في نموذجين الأول عن الجريمة في فيلم كولومبو مع الجراح الذي استخدم خيطان الكاتكت في جراحة القلب هي تذوب في أيام بدل البرولين التي تبقى حتى القبر فلا تذوب؟ ويبقى فيلما أما الحقيقة فهو ما سمعناه عن الأطباء المجرمين في تدمر حيث كانت تقوم المقابر والمقاتل والمشانق الجماعية فيأتي الطبيب (المجرم) بوضع السماعة والتأكيد للمجرمين أنه صالح للدفن مع خلانه في مقبرة جماعية!!
أما الاهمال يقود الى الاختلاط حتماً، ولكن الاختلاط ليس نتيجة للاهمال، فكل اهمال هو اختلاط، وليس كل اختلاط اهمال.
لشرح ذلك نقول: الاهمال صفة تخلف، وعدم ملاحقة الحالة، ومتابعة تطور الوضع، والتكيف بما يمكن السيطرة عليه، والتدخل لتعديل المسار، فنزف مريض بعد العملية الجراحية أمر وارد، ولكن النوم عليها والاستخفاف بتبعاتها تعني اللعب بحياة المريض.
وتبقى دقة المراقبة ومتابعة الحالة الوصفة التي يمكن من خلالها التدخل وإنقاذ المريض، وهذه هو لب الجراحة وعمودها الفقري.
ليس القدرة على إنجاز العمل الجراحي هي محك الجراح، بل تصحيح الخطأ والسيطرة عليه عند حدوثه، فهي علامة التمكن وشهادة النضج والحنكة.
أما الاختلاط (المضاعفات) فهو ذلك المركب المتعدد الجوانب الذي يؤدي في النهاية الى أمر لايحبه الجراح، ولايحرص عليه، ويخرج عن سيطرته، وإن كان يدخل في جدلية الممكن والمستحيل، فالشيء المستحيل يتحول الى ممكن أحياناً، كما في كل الجراحة الحديثة مع تطوير الصادات الحيوية والتخدير، فهما العكازتان اللتان مشت عليهما الجراحة.
وأحياناً يخيل إلينا لا أكثر، أن الأمر مستحيل فنكتشف لاحقاً انه كان في حيز الممكن.

نحو تكريس حقيقة أساسية في العمل الطبي:
مع هذا يجب أن نكرس حقيقة أساسية في العمل الطبي، وهو أن أي اختلاط سبببه خطأ فني، جهله من جهله، وعلمه من علمه، وبذلك حررناه من العقل الأسطوري واللامعقول وغير الخاضع لسنة الله في خلقه، أو لنقل عدم وعي سنة و (قانون) عمل الأشياء، فنزف المريض وانفكاك الخياطة هو قصور فني ويقود الى الاختلاط، ولكن النوم عليه هو الاهمال، أما وضع خيطان قابلة للذوبان، في مكان يجب أن لاتذوب، مع المعرفة الكاملة بذلك، فهي الجريمة لا أقل ولا أكثر، كما ذكرنا ذلك عن فيلم (كولومبو والجراح) عندما أظهر الفيلم جرَّاح القلب، الذي خيَّط صمامات القلب بخيطان (الكاتكت) التي تذوب في عدة أيام، ويجب أن تكون من نوع البرولين أو الجورتكس التي تبقى في الجسم الى يوم يبعثون.

سلسلة العمل الاجتماعي:
ونظراً لأن العمل الانساني هو سلسلة هائلة من اجتماع حلقات صغيرة كثيرة، فيكفي أن تنكسر السلسلة في إحدى حلقاتها الضعيفة، كي تنفجر الكارثة. مثل نقص التعقيم في الأدوات، تآكل الخيطان، توقف متابعة صيانة الأجهزة، الاستخفاف بنزف بسيط لايؤبه له، فكلها حلقات تتكسر، فَتُدْخل الرعب الى الدارة بأكملها، ومن هنا فإن تطوير العمل الطبي بإيجاد لجنة الوفيات والمضاعفات المعروفة في اللغة الانكليزية بـ
(MORBIDITY amp; MORTALITYamp; COMMITTEE) أعْتَبِرُه عملاً ريادياً، بسبب تأسيس منهج النقد الذاتي والمراجعة في العمل الطبي، وإن كان سلاحاً خطيراً، قد ينقلب في بعض الأحيان عند سقوطه في بعض الأيادي، الى فرصة لاستعراض العضلات، والتمتع بأحراج الآخرين، والتظاهر بالعلم الغزير، بعد قراءة متعلقات الحالة بشكل مكثف في كل المصادر العلمية، في الليلة السابقة والاستعداد لها بما يشبه امتحان الثانوية العامة، بأسئلة الحواف والشواذ منها.
وهذه مشكلة حضارية فلايكفي شراء جهاز معقد، أو نقل نظام إداري متقدم، أو حتى استخدام مصطلحات جديدة حتى ندخل حقل الحضارة، لأن كل هذه الأشياء مرتبطة بالوسط الحضاري الذي انتزعت منه، ويجب نقله بالتالي مع شروطه الخاصة به، وإلا كان مصيره مثل نقل الدم بدون شروط الزمرة، فيتحول الدم من إنقاذ نفس، الى كارثة حساسية قاتلة للمريض، مع كل حاجة البدن للدم المنقول.
وهكذا فالحضارة ليست أشياء تشترى وتقتنى، بل هي أفكار وعقلية تبني وتمتلك سر التطوير. وإذا أردنا اختصار تعريف الحضارة فيمكن ترميزها بثلاث كلمات: إيجاد (الأفكار والأنظمة الأشياء) ـ صيانتها ـ وتطويرها. في علاقة جدلية نامية.
ولايخرج العمل الطبي عن هذه القواعد، واندفاع المريض بالشكوى ـ وهو مبرر ـ مع حدوث الاختلاط الجراحي، هو من طرف ظاهرة صحية، على أساس أنها ظاهرة نقد ذاتي، تقود الى الصحة والعافية، وفرملة من تكرر الأخطاء، وبث التوازن في علاقة الطبيب ـ المريض.
لكنها من طرف آخر، إثارة وتحريض مسلسل لايخلو من نتائج سيئة، أحياناً على نفس المريض، في ثلاث مستويات: (إنتاجية العمل) و(تطويره) و(تدريب) الكوادر الطبية الجديدة؛ مالم تُحْكَم هذه العلاقة، المتصلة بمعادلة الثقة بين الطبيب والمريض، بجهاز توازن وتيرمومتر حساس للغاية، في إيجاد التوازن المشدود والعادل للأطراف الاجتماعية.
إن قوة النظام الاجتماعي في الغرب وتفوقه، هو نتيجة طبيعية لنمو تاريخي ناضج، مشبع بالتجارب والمعاناة، فعندما اكتشفتْ الجراحةُ مصيبةَ الاختلاطات (المضاعفات) عمدت فوراً للانطلاق بأمرين، تعويض المريض، والمحافظة على المهارة الطبية، بمزيد من ظاهرة النقد الذاتي وعملية الحذف والإضاف.
وبوضع علم الانذار (PROGNOSIS) والاختلاطات المتوقعة ونسبتها على وجه التقريب من خلال دراسة إحصائية علمية، ومن الناحية القانونية نشأت مؤسسات كثيرة ليس آخرها مؤسسات التأمين الطبي، كعقد ومراكز تتحسس المشاكل قبل وقوعها في غالب الأحيان، ومع وقوع المشاكل دوماً، فالفرق بين الأعمى والبصير أن البصير يرى الجدار فيتجنب الاصطدام به، أما الأعمى فينطح الجدار!! فأوجدت حلولاً للمريض والطبيب سواء بسواء، من أجل تحقيق العدل، الذي قامت عليه السموات والأرض، فهي لاتريد للمريض أن يتعرض للخطر أو الأهمال، كما لاتريد للطبيب أن يشعر بالخوف في عمله، والمسح على رأسه ورقبته، وتفقد جلده مع كل مصيبة قادمة، بحيث يقفز عقله في اتجاه اعتبار الحادثة مصيبة للمريض وله على حد سواء، وأنها تحمل قنبلة موقوتة من المشاكل، لتنمو ظاهرة زحلقة الحالات، كي يتفرق دم المريض بين القبائل؟!.
إن الانطلاق الحضاري هو من معادلة مشدودة الطرفين بإحكام، بين الحق والواجب، فحق المريض هو واجب الطبيب، والعكس صحيح، مثل الرافعة تماماً، فيجب توفير الأمان لكل العاملين في الساحة الاجتماعية مريضاً وطبيباً.
إن التطوير هو بكلمة أخرى اختراق المجهول، ولذا فإنه يحمل في تضاعيفه بشكل آلي كل المخاطر الممكنة.
إن التطوير لايعني القيام بتجارب على الحيوانات، بل تطبيق طرائق رائدة في المعالجة، وضمن خطة مدروسة، وعندما سُئل جراح القلب الأمريكي المشهور (كولي) عن عمله في بعض التطويرات الجديدة أجاب:
حتى خرجنا من عنق الزجاجة، كان علينا أن ندفع ضريبة بعض المضاعفات في الخمسين مريض الأوائل.
بل لقد نمت في الغرب مجموعة من الأخلاقيات الجيدة في وجود المتطوعين لتقديم أجسامهم من أجل تجريب لقاح أو علاج جديد، وفي هذا الطريق دفع بعض أشهر الأطباء ومعاونيهم حياتهم ثمنا للتقدم العلمي.
فإذا انتقلنا الى التدريب كان الكأس دهاقاً، لأنه لايمكن تدريب الأطباء الجدد، واستمرار عملية نقل خبرة الأجيال بدون هذه المخاطرة أيضاً.
وهي عملية لابد منها، فالجراح سيشيخ في يوم من الأيام، فتهتز أصابعه فلايحسن مسك المشرط، والصبر المضني على طاولة العمليات حتى انبلاج ضوء الصباح؛ فعمر الجراحين قصيرة من فرط التوتر، وعذاب الليالي، وطول السهر، والاستيقاظ والنوم المتكرر بأشد من عادة القطط السوداء في الليل البهيم. بين مريض قد مات، وولادة قد تعسرت، وحادث سيارة لانسان مهشم، وطفل مكسور الجمجمة، وقيح ينز، ودم يتدفق؛ فهذه هي سيمفونية الجراحين التقليدية.
وتمر على بعض الجراحين لحظات لايحسدون عليها بين مطرقة الشكوى وسنديان الاختلاط، إن قدَّم رجلاً اعتصرته ماكينة التحقيق، وإن أخَّر رجلاً خسر مهارته الجراحية.
ولكن أعظم عمل يقوم به الجراح، حين يعجز كل الناس، هو فن التعامل مع الحياة بالدفع للوجود، والمحافظة عليها، وصيانتها، وإنقاذها من غمرات الموت الرهيبة، بين أم حرمت الأطفال كل عمرها فحملت، وقهر مرض عضال عانى منه المريض سنوات، والتخلص من الألم الممض الذي حرم من متعة الحياة، وشاب تمزق عنده الوريد الأجوف السفلي ويخسر سبعة ليترات من الدم في عملية عاصفة، فتنتشله من قاع الحادثة ثمانية أيدي صادقة من الجراحين الصابرين.
ولعلك يا أبا الخيل الآن تذكر تلك اللحظات الخالدات فتقول سأكون لكم شفيعها يوم يقوم الناس لرب العالمين فليس أعظم من حفظ حياة وإنقاذ حياة وعدم التضحية بالحياة..
عكس سيمفونية العالم الحالية بإزهاق النفس ووأد الروح وخنق الحريات..