إذا كنت لا تصدق عنوان المقال، فها هو شعار قناة الناس كما ترى: quot;ٌقناة الناس الفضائية ... شاشة تأخذك للجنةquot; وبعد أن إكتشفت تلك القناة وعرفت أنها سوف تأخذنى شاشتها إلى الجنة أصبحت أشاهدها ليل نهار.

غير أننى غير متأكد، هل مقاس شاشة التليفزيون ستغير مصير المتفرج من دخول الجنة من عدمه، لأن الشعار يقول quot;ِشاشةquot; تأخذك للجنة، وليست quot;قناةquot; تأخذك للجنة، لذلك فإن مقاس الشاشة أو نوع الشاشة قد تغير مسارك للجنة، فالشاشة البلازما ليست مثل الشاشة الصندوق العادية، والشاشة الأبيض والأسود القديمة فى الدرك الأسفل (على ما أعتقد). وبناء على شعار تلك القناة، فإن كل من يشاهد تلك quot;الشاشةquot; وعليها قناة الناس سوف يذهب للجنة، ولست أدرى من أين جاءت تلك القناة الفضائية بتلك الصلاحية، وهى صلاحية أخذ الناس إلى quot;الجنةquot; ؟؟ هل أخذوا توكيلا من الله سبحانه وتعالى ؟؟
...
وإذا لم تخنى الذاكرة فإن رسول الله محمد (صلعم) كان هو الإنسان الذى يملك صلاحية تبشير الناس بالجنة، وبشر فى حياته بعدد عشرة فقط وأصبح يعرفون بإسم quot;العشرة المبشرون بالجنةquot;.
ولكن يبدو أن قناة الناس قررت أن تتوسع فى quot;تبشيرquot; الناس بالجنة وفى إعتقادى أن مشاهدى تلك القناة بالملايين، وسوف تأخذهم شاشة قناة الناس إلى الجنة ولهم أفضل الجزاء والثواب.
وإذا كان بعض السلفيين يقوم بتكفير وقتل الناس، فبإستخدام نفس المنطق يمكن quot;أخذquot; إلى الجنة
ولقد قررت أن أجرى بعض البحوث لمعرفة هل سبق أن بشر أحد من البشر العاديين quot;الناسquot; بدخول الجنة؟؟
...
قيل أن الخمينى كان يعطى للجنود صغار السن مفاتيح قيل لهم أنها مفاتيح الجنة قبل ذهابهم للقتال فى الحرب العدمية بين إيران والعراق. ولكنى والشهادة لله لم أتمكن من توثيق ذلك الأدعاء، فالشيعة يقولون هذه إشاعة أطلقها صدام حسين لتشويه صورة الخمينى، والسنة يقولون أنها حقيقة بل وينشرون صورا يؤكدون أنها للخمينى يسلم الجنود مفاتيح الجنة، وهكذا تضيع الحقيقة ويضيع التاريخ كما يضيع دائما لأسباب عقائدية أو سياسية أو إجتماعية، وصدق تشرتشل حين قال: :أننى لا أخشى ما سوف يقوله التاريخ عنى.. لأننى سأكتب التاريخ!!quot;

...
و فى القرن السادس عشر بدأت فى أوروبا حركة مضادة ضد سيطرة الكنيسة الكاثوليكية، وقد إستخدمت تلك الحركة ما سمى وقتها quot;بصكوك الغفرانquot; للهجوم على الكنيسة، وقاد تلك الحركة التصحيحية الرائعة الألمانى مارتن لوثر (1483- 1546 )، وكون أتباعه المذهب البروتستانتى لمواجهة سيطرة و أصولية الكنيسة الكاثوليكية.

وأنتشرت وقتها مزاعم بيع كهنة ورهبان كاثوليك لوثائق تؤكد حصول الشخص على الغفران مقابل مبلغ مادي (صكوك الغفران) وكانت من أهم النقاط التي اثيرت ضد الكنيسة الكاثوليكية من قبل مارتن لوثر وغيره من المصلحين البروتستانت.


مارتن لوثر (1483- 1546 )

كان مارتن لوثر مُحباً للرهبنة منذ نعومة أظافره، الأمر الذي دفعه إلى العكوف على الدراسات اللاهوتية الأكاديمية، حتى صار أستاذاً لدراسات الكتاب المُقدس (الإنجيل) بجامعة فتنبيرغ في عام 1512. لم يكن وصول لوثر إلى هذا المنصب مسألةً سهلةً على والده الفلاح الذي طالما حلم بابنه القاضي؛ ذلك الحلم الذي تحطم أمام إصرار لوثر على مواصلة مسلكه في حقل الدين، وليس القانون.

تحول سلوكه الرافض لتلك الصكوك إلى فعل حركي، تبلور في 31 أكتوبر 1517، حينما قام بإعداد قائمة بالاعتراضات على عملية بيع صكوك الغُفران، ضمت حوالي 95 اعتراضاً. ولم يكتف لوثر بذلك، بل قام بعدها بتعليق القائمة على باب كنيسة الحصن الذي كان يُستخدم دوماً لمثل تلك الأغراض.

وقد مثلت تلك القائمة الشرارة التي أدت إلى انفجار حركة الإصلاح الديني الذي شهده الغرب على امتداد قرنينٍ بأكمله. والعجيب في الأمر، أن لوثر لم يكن لديه مشروع عام للإصلاح الديني، بل كان يريد فقط إصلاح الخلل الكامن في صكوك الغُفران، وما شابهه من عقائد غير أصيلة مثل التوسل بالقديسين وتقديس مُخلفاتهم الأثرية، بل كان يبتغي ذلك في سبيل الدفاع عن سمعة البابوية.

لقد نادى لوثر، من خلال حركته الموسعة، إلى المساواة بين طبقة رجال اللاهوت المسيحي (الإكليروس) وبين المسيحيين العاديين، كما دعا إلى حق الفرد في تفسير الإنجيل، الأمر الذي شجع الفلاحين الألمان على قراءة الإنجيل الذي كشف لهم حقيقة وضعهم، وهي: أنه لا مبرر للضنك الذي يكابدونه منذ عشرات السنين. وبدأت ثورات الفلاحين في الاكتساح، حاملةً معها أقصى أنواع التطرف والانتقام، فكان لذلك مردود سلبي واضح على الحركة البروتستانتية. فقد حرق الفلاحون مئات القرى والأديرة، معتبرين ثورتهم quot;انتفاضةً باسم الإنجيلquot;. ولم يكن أمام لوثر إلا الخروج من مخبأه ndash; مُضحياً بحياته ndash; لكي يوقف تطرف أتباعه.
...
الحركة الإصلاحية المسيحية كانت بمثابة ثورة كبرى فى تاريخ أوروبا والمسيحية، وكانت بداية ثورات إجتماعية وسياسية وكانت معظم الهجرات الأولى إلى أمريكا من البروتستانت هروبا من إضهاد الكنيسة الكاثوليكية.
أما فى إنجلترا، فقد كان قساوسة الكنيسة يحتكرون الحقيقة لأنفسهم وكانوا يرفضون ترجمة الإنجيل الذى كان مكتوبا وقتها باللاتينية (اللغة التى كانت إحتكارا على القساوسة) حتى جاءت الملكة إليزابيث الأولى (1558 -1603) وأصرت على أن يتم ترجمة الإنجيل إلى اللغة الإنجليزية حتى يتمكن من قراءتها معظم الناس، وبهذا قضت على إحتكار آخر للكنيسة.

الملكة إليزابيث الأولى (1558- 1603)

وسر نجاح الحركة البروتستانتية أنها جاءت من رجل دين إصلاحى ولم تأت من رجل علمانى، ولم يكن هدف لوثرعمل حركة إصلاحية ولكن هدفه كان محاربة quot;صكوك الغفرانquot;، ولكن عندما بدأ البروتستانت فى النبش فى دفاتر الكنيسة الكاثوليكية وجدوا فسادا وإضهادا ومحاولة إحتكار الحقيقة وظلما كبيرا وبذلك تحولت إلى حركة إجتماعية.

والحركة الإصلاحية للمسيحية لم تنجح بين يوم وليلة ولم يستسلم رجال الكنيسة بسهولة، لدرجة أن فولتير الذى ولد بعد مارتن لوثر بحوالى قرنين من الزمان قاوم أيضا سيطرة الكنيسة الكاثوليكية وكان دائم السخرية من القساوسة وكان قائدا للإصلاح الإجتماعى، ويعتبر فولتير بأعماله المسرحية والشعرية ممن مهدوا للثورة الفرنسية (1798) والتى كانت بالإضافة إلى الثورة الأمريكية (1776) ووثيقة الدستور الأمريكى (1787)، مهدوا الطريق فى العالم الحديث لمدنية وعلمانية الدولة وفصل الدين عن السياسية، مما أدى إلى الثورة الصناعية الكبرى بعد ذلك وماصاحب ذلك من تغييرات إجتماعية رائعة أدت إلى ظهور وصعود الطبقة الوسطى.
وكانت لفولتير مقولته الشهيرة quot;اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيسquot;

(فولتير1694- 1778)



.....
ما أشبه الليلة بالبارحة، يوجد بيننا وبين حركة مارتن لوثر حوالى 500 سنة، وهناك فرق بين الإسلام والمسيحية حوالى 600 سنة، فهل أمامنا 100 سنة أخرى حتى تظهر بيننا حركة إصلاحية مثل حركة مارتن لوثر؟ أم من الممكن أن نشهدها قبل ذلك، ولماذا لم تستكمل الحركات الإصلاحية التى بدأها الأمام محمد عبده ورفاعة الطهطاوى وطه حسين منذ أكثر من قرن من الزمان وكان كلهم من خريجى الأزهر، ولماذا لم يصبح أيا قائدا للتنوير الإسلامى، بل على العكس تم أتهامهم بالزندقة والفرنجة، وهى تهم سبق إتهام مارتن لوثر بها من جانب الكنيسة الكاثوليكية، وفى تقديرى أن أحد أسباب فشل الحركات الإصلاحية فى الإسلام هى إغفالها الجانب الإجتماعى وكانت حركات خاطبت الفئة المثقفة فقط، هى فئة أقل من القليل، ومازال العلمانيون والليبراليون العرب والمسلمون يرتكبون نفس الأخطاء، وهى إغفال البعد الإجتماعى والتركيز على الجانب السياسى، لذلك ينتصر عليهم الأصوليون دائما.

رفاعة الطهطاوى الإمام محمد عبده طه حسين

فهل يجب علينا أن ننتظر مائة أو مائتين سنة أخرى لكى نتعلم الطريق إلى أن الحكم السليم والتقدم الإنسانى يكون بالفصل بين الدين والدولة وأن العنصرية والطائفية والأصولية هى الطريق الأمثل للتخلف والحروب الأهلية والمآسى الإنسانية (كما رأينا فى أفغانستان والسودان والصومال).
فهل نستطيع أن نقرأ التاريخ ونفهمه ولا نكرر أخطاؤه، أم أننا سنستمر فى الوقوع فى نفس الأخطاء؟ أما أنا فالنسبة لى فقد إخترت أقصر الطرق، سوف أجلس متسمرا أمام قناة الناس لكى أضمن دخول الجنة!!
[email protected]