قال لى صديقى الساكن فى مدينة نصر أنه كان يمر أمام الشارع الرئيسى بالحى العاشر، حيث تعود بعض عمال البناء على الإنتظار بهذا الشارع على أمل أن يجئ لطلبهم أى مقاول أو مهندس يقوم بأعمال بناء، ولقد فوجئ صديقى هذا الأسبوع بالأعداد الهائلة تتضاعف من العمال الواقفة تنتظر العمل الذى لا يجئ، حيث توقفت العديد من المشاريع بسبب الثورة، وكذلك توقف المستثمرون المصريون والأجانب عن الإستثمار إنتظارا لما يمكن أن يحدث.
ثم شاهدت فى المساء الأعداد الهائلة للعمال المصريين المنتظرين على الحدود الليبية التونيسية، ولأول مرة فى تاريخ مصر أرى لا جئين مصريين تحاول مصر إعادتهم لبلادهم، وكذلك آلالاف آخرين عبروا إلى مصر من معبر السلوم، وقلت لنفسى ربنا يستر، لأن هناك مليون ونصف مصرى يعملون فى ليبيا، ومصر لا تحتمل فقد تحويلاتهم المالية فضلا عن إمكانية إستيعابهم فى سوق العمل لو عادوا إلى مصر فى تلك الظروف الصعبة.
وحادثت صديقا لى يملك حصة فى فندق بشرم الشيخ، وقلت له إيه الأخبار، فقال لى إن فندقهم توجد به خمس غرف مشغولة فقط وكلهم من المصريين، وتم إلغاء كل الحجوزات الأجنبية، وسألته ماذا يفعل مع العمال والموظفين فقال لى: أن إدارة الفندق قررت إعطاء أجازة مفتوحة بدون مرتب لكل العمال المؤقتين، أما العمال والموظفين الدائمين فقاموا بإعطاء معظمهم أجازة براتب كامل لشهر فبراير، وثلثى راتب لشهر مارس، وهو قلق جدا على العمال والموظفين ولايعرف ما هو مصيرهم ولا مصيرالفندق. ومن المعروف أن قطاع السياحة فى مصر أصبح المصدر الرئيسى للعملة الأجنبية فى مصر، ويعتمد ملايين المصريين على هذا القطاع فى أرزاقهم، واصبح أمل مصر فى النهضة الإقتصادية، وهذا القطاع بالأساس يعتمد على الإستقرار الأمنى والسياسى والإجتماعى وهو شئ تفتقده مصر هذه الأيام مع الثورة.
إن quot;موقعة الجملquot; المؤسفة ماكانت لتحدث بمجرد أن أعطى بعض المستفيدون من نظام مبارك بعض الأموال لأشخاص من نزلة السمان للنزول بالخيل والجمال إلى ميدان التحرير، ولكن فى تقديرى أنه تم إقتاعهم (لغرض شرير) بأن هؤلاء الشباب المتواجدون هم المسئولون عن إنقطاع السياحة الأمر الذى أدى إلى قطع أرزاقهم بإختفاء السياح من منطقة الهرم.
ولست أدرى كيف تعمل القطاعات الأخرى فى الإقتصاد المصرى وبأى كفاءة، ولكن ما أريد أن أنبه إليه أنه ينزل إلى سوق العمل سنويا فى مصر ما لايقل عن ربع مليون طالب عمل وهو رقم مخيف بكل المقاييس، إن إيجاد فرص عمل لربع مليون مواطن هو مطلب عسير حتى لأكبر الدول المتقدمة إقتصاديا وخاصة فى ظروف الكساد العالمى التى نمر بها، لذلك فإننى أعتقد بأن مصر مقبلة على فترة صعبة للغاية تتطلب من كل الناس تغليب مصلحة مصر وعمال مصر على أى شئ آخر.
هذا عن الإقتصاد، أما عن الأمن فحدث ولا حرج، فمازال العديد من رجال الشرطة لم ينزلوا الشارع، وكما سمعت قدم العديد منهم طلبات إستقالة، وبالطبع كلنا نعرف أن الشرطة فى مصر كانت مفترية ولم تكن أبدا فى خدمة الشعب، ولكنها كانت تتعامل مع الشعب كأنه هو فى خدمتها، والشرطة مثلها مثل الجيش هى جزء من هذا الشعب، ولا معنى أن نحب الجيش ونكره الشرطة وكأن الشرطة هى قوى إحتلال أجنبى (أنا أعرف أن العديد من أفراد الشرطة كانوا يتصرفون وكأنهم قوة إحتلال أجنبية يتعاملون من الشعب بفوقية وبدون أى إحترام)، والنكتة التى طلعت بعد إختفاء الشرطة من مصر، أن شعار الشرطة قد تغير من :quot;الشرطة فى خدمة الشعبquot; إلى :quot;الشرطة فى عرض الشعبquot;!! وكل ما نريده هو الإحترام المتبادل، لأن الشرطة هي من أهم الأجهزة فى مصر، ومصر رغم الفقر تتمتع إلى حد كبير بأمن لا يتناسب مع فقرها، لسببين رئيسين: أولهما هو طيبة المصريين وعدم جنوحهم إلى العنف أو الجريمة، وثانيهما بفضل الإنتشار الكبير للشرطة المصرية.
والأمن فى تقديرى هو من أهم عناصر الحياة بالنسبة للإنسان، وأنا شخصيا أفضل الحياة فى ظل نظام دكتاتورى يحقق الأمن للمواطن فى بيته وأسرته وشارعه وعمله عن نظام تتحول فيه الحرية إلى فوضى ويختفى الأمن كما حدث فى ليلتى الرعب فى 28 amp; 29 يناير 2011 فى مصر كلها، ولولا أن شباب مصر حمى بلده بعد إختفاء الشرطة لحدثت مجازر ومآسى ولكفر الناس بتلك الثورة. وأنا أعرف أن كل نظام دكتاتورى يقول لشعبه quot;أنتم تتمتعون بالأمن، فإحمدوا ربكم، مش معقولة كمان تبقوا عاوزين أمن وحرية فى نفس الوقت، ده إنتو تبقوا مفترين قوىquot;، وكأن إجتماع الأمن والحرية هو معجزة، والشرطة هى الطرف الأصيل فى تحقيق الأمن وحماية الناس من المجرمين، وإذا كان بعض أفراد الشرطة المصرية قد اخطأوا قبل الثورة، فلا بد أن نبدأ صفحة جديدة بشرط عدم نسيان أو معاقبة من قتلوا وعذبوا من المصريين، تعالوا نحاسب من أخطأ ونقدمهم للمحاكمة او الجزاء الإدارى (كل حسب خطأه) ولكن بعد ذلك يجب توقيع عقد جديد بين الشرطة وبين الشعب، وأنا شخصيا لو كنت ضابط شرطة فى تلك الأيام لما نزلت إلى الشارع قبل التأكد بأن هناك إتفاق جديد بين الشرطة وبين الشعب، إن شباب الثورة فى ميدان التحرير لن يستطيعوا حفظ النظام والأمن فى مصر كلها، لأن هذه وظيفة الشرطة شئنا أم أبينا، لذا فإن الإستمرار فى مهاجمة الشرطة إبتداء من وزير الداخلية وأنت نازل، لن يخدم متطلبات الأمن بأى حال من الأحوال، وبدون أمن لن يأتى إلى مصر سياح أو مستثمرين.
فماذا سوف يحدث فى ظل تلك الفوضى، سيقفز أكثر ناس منظمين لأخذ السلطة من شباب الثورة، ولدينا عنصرين أحلاهم مر، الحزب الوطنى والأخوان، والأخوان فى إعتقادى ستأتى السلطة إليهم على طبق من فضة إذا إستمر الحال على هذا المنوال الفوضوى.
وقضية أخرى تكلمت عنها من قبل وتتمثل فى شهوة الإنتقام التى تلى معظم الثورات وهى غالبا ما تنحرف بالثورة عن أهدافها الرئيسية، أنا أؤيد محاكمات عادلة من رجال النظام السابق لمن أجرم أو إختلس أو إرتشى أو أثرى عن طريق غير مشروع ومن لم يجرم لا يحق حرمانه من حقوقه السياسية أو أى حقوق اخرى يكفلها القانون للمواطنين.
لم تقم الثورة للإنتقام من رموز حكم مبارك، ولكنها لتوفير الحرية والعدالة والكرامة، والحرية يجب أن تتوفر للجميع، لايصح أن نطلق على من ينتقد الثورة بأنه عدوا للثورة أو من الثورة المضادة وكل الألفاظ التى كانت منتشرة أيام العهد الناصرى لترهيب من يجرؤ على إنتقاد أو الإعتراض على الثورة، يجب أن نقبل أن معظم مصر وليس كل مصر فرحت بالثورة وهذا وضع طبيعى، وأن من حق من لم يؤمن بأهمية تلك الثورة أن نسمع لرأيه بدون أن نتهمه بأنه عدو الثورة، لأنه إذا مسك الأخوان الحكم، فسوف نسمع ألفاظا أشد مثل quot;عدو اللهquot; وفتاوى تكفير وإحلال دم المعارضين، يجب أن نقبل أن رئيس مصر المقبل ربما لن ينجح بأكثر من %60 (وهذا شئ جيد) ولكن على ال%40 الباقية أن تحترم أنه رئيسا لمصر كلها وليس فقط رئيسا على %60 من مصر، ويجب على ال %60 ألا يتهموا ال %40 فى وطنيتهم، مصر مقبلة على أشياء كلها جديدة يجب أن نتقبل كيف نعيش مع شخص مخالف لنا بدون أن نحاول إسكاته أو تجريمه أو قتله (فى بعض الأحيان).
...
قد يتهمنى البعض أننى من الثورة المضادة أو من أعداء الثورة، ولكنى أحذر شباب الثورة من عواجيز الفرح، حتى لا يندم معظمنا على أيام حكم حسنى مبارك، كما يندم معظم المصريون على أيام حكم الملكية فى مصر!!
[email protected]