quot;الأذن تعشق قبل العين أحياناquot;
عشقت لبنان (حتى قبل إكتشاف نانسى عجرم وهيفاء وهبى) بسبب صوت فيروز الملائكى وألحان وكلمات الرحبانى الجريئة والجديدة، هل سمعت من قبل أحدا يغنى قائلا: quot;وليش ما كبرتو إنتو... بنقولن نسيناquot;، ورغم أنى فى البداية لم أفهم العديد من كلمات الأخوين رحبانى إلا أننى إستمتعت بالكلمات والألحان. و كانت بيروت على رأس الأماكن التى كنت أود زيارتها، ولكنى لم أجد الفرصة من ناحية ومن ناحية أخرى كنت خائفا (العمر مش بعزقة) لأننى كتبت مرارا أهاجم الإحتلال السورى للبنان، وكنت أعد أصابع اليدين عقب كل مقال وأذكر ماحدث للصحفى الرائع سليم اللوزى، لذلك وجدت أنه من الأسلم أن أؤجل زيارتى إلى لبنان حتى تجلو القوات السورية عن لبنان. ولكن لم أكد أفرغ من الهجوم على الإحتلال السورى حتى بدأت فى إنتقاد تواجد جيش حزب الله كجيش آخر داخل لبنان مما يعتبر بمثابة قنبلة موقوتة داخل لبنان، كما أننى لم أقتنع بالنصر الإلهى لحزب الله فى صيف 2006، ورغم كل هذا وجدتنى فجأة أشد الرحال على متن طائرة مصر للطيران إلى بيروت إثر دعوة صديق، ورغم أن الزيارة لم تكن كافية (ثلاثة أيام) إلا أننى تعلمت الكثير وإستمتعت بالزيارة أيما إستمتاع.
وصلت مطار بيروت مساء، ومطار أى بلد هو واجهة البلد وهو أول وآخر مايرى الزائر، والحقيقة أن ضابط جوازات اللبنانى كان مهذبا محترما مبتسما وهو شئ أفتقده فى معظم المطارات العربية، وعند خروجى من باب المطار وجدت وجوها جميلة صبوحة لفتيات لبنان (وهو شئ إفتقده أيضا فى معظم المطارات العربية!!)، ثم تقدم منى شخصان:
- تاكسى إستاذ (وكان واضح من منظرى أننى زبون لقطة، وكان واضح من منظرهما أنهما من نصابى المطارات المحترفين)، ورغم كل هذا قررت أن أمشى معهما، وسألت، بلهجة مصرية واضحة لا تقبل اللبس، لعل وعسى أن يشفع لى فقر المصريين فى موضوع السيولة النقدية:
- أنا عاوز أروح شارع الحمرا، بكام؟
- حمد لله على السلامة ياإستاذ، ولا يهمك نحنا بنحاسب بالتسعيرة الرسمية للمطار
- أيوه كام يعنى؟
(وأصر السائق ومساعده على عدم تحديد السعر قبل التأكد من وقوعى فى المصيدة) وحمل عنى الشنطة رغم عدم إقتناعى ووجدت سيارة تويوتا صغيرة عليها صدمات من كل النواحى وليس عليها أى علامة تدل على أنها تاكسى، وقبل أن يضع السائق الشنطة فى شنطة السيارة الخلفية إعترضت وقلت أريد الشنطة بجوارى، وركبت رغم كل الظواهر الغير مشجعة، وقال لى مساعد السائق بعد أن إطمئن إلى أننى أصبحت داخل السيارة والتى بدأت فى التحرك:
- التسعيرة 45 دولار ياإستاذ (وعرفت فيما بعد أن هذا هو ضعف السعر)، المهم أننى وصلت بالسلامة إلى الفندق فى منطقة الحمرا، وإنطباعى الأول عن بيروت لم يكن مبهرا فقد ذكرنى الزحام وأصوات أبواق السيارات وفوضى المرور بأننى لم أغادر القاهرة، وأحسست أننى فى بلدى.
ثم قابلت صديقى وأخذت أتجول معه فى سيارة صغيرة وجلسنا فى مقهى من مقاهى الحمرا ثم ذهبنا إلى سوليدير وساحة الشهداء ومسجد رفيق الحريرى، وفى ساحة النجمة ذهلت من أعداد السياح من الخليج والذين شكلوا 80% من زوار المطاعم، وعرفت من مضيفى بأن فتيات وفتيان الخليج يتقابلون فى تلك المنطقة للتعارف وربما للزواج حيث يفتقدون إلى جو الحرية الموجود فى لبنان، وقلت يابخت لبنان حيث توفق quot;رأسين فى الحلال أحياناquot; (و فى الحرام أحيانا كثيرة)!!
وإعجبت أيما إعجاب بحيوية لبنان هذا البلد العجيب الذى دمرته حربا أهلية طاحنة لمدة 15 عشر عاما تم خلالها إجتياح إسرائيلى ثم إحتلال سورى ثم إحتلال إيرانى للجنوب تحت أعلام المقاومة!! ولكن رغم كل هذا فاللبنانى يعرف كيف يعيش وكيف يستمتع بحياته تحت قصف المدفعية والطيران. واللبنانى هو الشخص الوحيد فى العالم الذى ينجح فى أى بلد، تجده ينجح فى الخليج وأمريكا الشمالية والجنوبية وينجح فى أفريقيا والبرازيل وبلاد الواق الواق وأنتظر من لبنان أن يبدأ فى غزو الصين، ودائما أقول أن لبنان هو المعادل الحضارى لإسرائيل، ولبنان هو البلد العربى الوحيد المؤهل لمنافسة إسرائيل حضاريا وثقافيا وإقتصاديا فى حالة وجود سلام حقيقى. فاللبنانى كما يقول المثل الأمريكى:quot;يستطيع أن يبيع الثلج لسكان الإسكيموquot;!! ولكن هذا موضوع آخر.
وفى اليوم التالى قررت التسكع صباحا فى شارع الحمرا، وهناك شعرت بحيوية هذا الشعب اللبنانى الرائع، وذهبت إلى محل صرافة لتغيير بعض الدولارات وإستمتعت لأول مرة بشعور المليونير حيث أصبح فى جيبى ما يزيد عن مليون ليرة لبنانية (الدولار يباع بحوالى 1500 ليرة لبنانية)، وكل شئ فى لبنان يباع بالدولار أولا ثم بالليرة ثانيا!! ولا حظت فى شارع الحمرا عمالا من أفريقيا يقومون بأعمال النظافة وكذلك كانت هناك فتيات من الهند يقمن بأعمال النظافة فى الفندق وعرفت من أصدقائى اللبنانيين بأن معظم الأعمال اليدوية والحرفية يقوم بها عمال من خارج لبنان (من سوريا أساسا) ومن فلسطين ومصر والسودان، وأكلت مناقيش بالزعتر فى الشارع وكانت لذيذة وطازة، ودخلت مكتبة فى أحد الشوارع الجانبية فى حى الحمرا وسألت عن بعض الكتب وذهلت من موظف المكتبة الذى يعرف (بدون الحاجة إلى كومبيوتر) أماكن كل الكتب المكدسة فى كل مكان (وفهمت ساعتها ماقصدته كاندليسا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بما كانت أطلقت عليه quot;الفوضى الخلاقةquot;)، والحقيقة أن لبنان كبلد فى حد ذاته يستحق لقب quot;الفوضى الخلاقةquot;.
وكنت معزوما على عزومة غذاء وكان أحد ضيوف الشرف الكاتب اللبنانى المرموق سمير عطا الله، وإستمر الغذاء من الساعة الثالثة بعد الظهر وحتى الساعة الثامنة مساء (خمس ساعات بالتمام والكمال)، تناولنا خلالها حميع أنواع الأغذية والمشروبات التى تتخيلها، وكانت صحبة جميلة من الأصدقاء فى مطعم فاخر يطل على البحر مباشرة وإستمتعت بالطعام قدر إستمتاعى بالصحبة.
وفى المساء ذهبنا إلى منطقة جونيه، وهناك شعرت أننى فى بلد آخر وفى نفس الوقت شعرت بأننى مازلت فى لبنان، وذهبنا إلى كازينو لبنان وهناك غازلت فتاة الإستقبال وكانت غاية من الجمال وتشبه الممثلة الأمريكية المشهورة آن هيثواى، وفى صالة كازينو لبنان خسر أصدقائى بضعة دولارات ولم يستمعوا إلى نصيحتى بالتوقف عن اللعب فور حصولهم على بعض المكاسب ولكنه الطمع، وكما يقولون:quot;فإن الكازينو يكسب دائماquot; ثم ذهبنا إلى أحد النوادى الليلية فى جونيه وهناك فوجئت بعدد الفتيات من روسيا وغيرها من جمهوريات الإتحاد السوفيتى السابقة، ولم يكن الجو مناسبا لا هو لبنانيا ولا هو أوروبيا فلم نمكث سوى دقيقة واحدة.
ورجعت الفندق فى الرابعة صباحا مثل الليلة السابقة، وسألنى مضيفى إن كنت أود أن أذهب معه فى اليوم التالى إلى جنوب لبنان على الشريط الحدودى فى ضيافة رجل أعمال من الجنوب فى قرية الخيام قضاء مرجعيون، فقلت له لا ضرر فى هذا مادمنا فى حماية رجل الأعمال الجنوبى اللبنانى، وفوجئت بالمضيف يطلب منى إسمى الثلاثى وإسم أمى!! ولما سألت عن السبب قيل لى أنهم سوف يستخرجون تصريحا لزيارة قرى الشريط الحدودى مع إسرائيل، وطبعا لم أكترث لإعطاء أسمى الثلاثى، ولكنى ترددت كثيرا لإعطاء أسم أمى بدون إذنها (رحمها الله)، وعدد الذين يعرفون إسم أمى فى العالم يمكن أن نعدهم على الأصابع، فكيف أعطى أسم أمى للجيش اللبنانى فى الجنوب، وما الذى يضمن لى بأن أسم أمى لن يتسرب إلى حزب الله أو إلى المارونيين فى مرجعيون أو إلى عملاء وجواسيس الموساد أو إلى قوات (اليونيفيل) فى الجنوب وربما يزج بإسمها فى المحكمة الدولية!، ويصبح أسم أمى على كل لسان ليس فى المنطقة العربية فحسب بل فى العالم أجمع المهم أننى فى النهاية أقنعت بأن زيارة ميدانية للجنوب اللبنانى والشريط الحدودى مع إسرائيل، تستحق المجازفة بإعطاء إسم أمى وسوف أشرح لها إن قابلتها يوم القيامة الأسباب السياسية والتى دفعتنى إلى إتخاذ هذا القرار.
ومنذ أن تركنا بيروت متجهين جنوبا بدأنا بإختراق الضاحية الجنوبية وهناك شعرت بأننى فى بلد آخر بالفعل، فالمتسكع فى شارع الحمرا غير المتسكع فى الضاحية الجنوبية، وهناك شاهدت صورا كبيرة فى كل مكان لحسن نصرالله، نبيه برى، الإمام موسى الصدر، المرجع الشيعى فضل الله، عماد مغنية، والأمام الخومينى وخامنئيى كما شاهدت صورا لبعض شهداء حزب الله، وساءلت نفسى هل لبنان الضاحية الجنوبية هو نفسه لبنان جونيه؟ لست أدرى، ولكن من المؤكد أن الكل لبنانى، وطوال الطريق إلى قضاء مرجعيون كانت صور زعماء الشيعة فى كل مكان. وعرفت أن كلمة مرجعيون هى مكونة من كلمتان quot;مرجquot; و quot;عيونquot; حيث تكثر فى المنطقة المروج والعيون، ووصلنا إلى الشريط الحدود بعد عبور نقطة التفتيش والتى يسيطر عليها الجيش اللبنانى، وبمجرد أن قال مضيفنا الجنوبى للجندى اللبنانى: quot;يعطيك العافية ياوطنquot; وكأنها كلمة السر فتم مرورنا من نقطة التفتيش بدون أى تفتيش، وبدون التأكد من هويتنا أو من إسم أمى!! وقادنا مضيفنا فى سيارته فى طريق تم بناؤه بمحاذاة الحدود الإسرائيلية اللبنانية بمعرفة إيران وشاهدت علم إيران مرفوعا وعلى الجانب الآخر من سور الحدود كان العلم الإسرائيلى، وتعجبت من تداخل وتقارب قرى الجنوب اللبنانى والقرى الإسرائيلية فى شمال إسرائيل، وفهمت سر إنزعاج إسرائيل من تواجد جيش حزب الله بكثافة فى قرى الجنوب، حتى حلت محله قوات (اليونيفيل) بين نهر الليطانى وبين الحدود. وتوقفنا عند نقطة مراقبة لقوات اليونيفيل يوجد بها ثلاث جنود من أندونيسيا ووجدت عاملا لبنانيا يبيعهم شيئا (وكأنه مخدرات) وسألناه عما يبيع لقوات الأمم المتحدة أشار بيده إشارة quot;أبيحةquot; فهمنا منها أنه يبيعهم أفلام جنس (مضروبة)!!
وكانت زيارة جنوب لبنان هى مسك الختام لزيارة لبنان القصيرة، وفوجئت وتعجبت كثيرا من روعة جمال الطبيعة فى جنوب لبنان والذى تشوهت صورته لدينا ولدى معظم العالم بأنه منطقة حروب وإرهاب، ومع إتصالى بالناس البسطاء هناك تيقنت تماما بأن الخيار الوحيد لنا وليس فقط لجنوب لبنان هو خيار التنمية وليس خيار المقاومة!!
[email protected]