أعتقد أن جزءأ هاما من التاريخ الإنسانى يمكن تلخيصه بأنه صراع بين الحرية والعدالة، فالحرية هى شئ مؤصل وغريزى لدى الإنسان، فالإنسان يولد حرا بطبيعته، ويبدأ بالتخلى عن تلك الحرية بالتدريج لصالح الأسرة تارة ولصالح المجتمع تارة أخرى ولصالح الحكام فى معظم الأحيان، ويبدأ الطفل الرضيع بالتعبير عن حريته وذلك بالبكاء (وإحيانا بشكل مزعج) ولكننا مررنا جميعا بتلك المرحلة وهى أن البكاء هو الوسيلة الوحيدة للتعبير لدى الطفل الرضيع الذى لم يتكلم بعد، ويعاقب هذا الطفل أحيانا على إستخدام حقه فى حرية التعبير إلى حد يصل إلى الضرب، لأن حرية التعبير لديه آذت آذان أقرب الناس إليه لذا لا بد من عقابه، ولكن وفى معظم الأحيان تستجيب الأم لبكاء رضيعها بطريقة حضارية بأن ترضعه أو تغير له حفاضته أو مجرد أن تحمله على صدرها الحنون وتشعره بالأمان.
وينمو هذا الطفل وتبدا مرحلة الشقاوة والشيطنة ويعتقد بأن أحد مظاهر الحرية هو أن يستولى على لعبة شقيقته أو يشدها من شعرها لمجرد أن لديها شعر بينما هو أقرع quot;زلبطةquot;، وهنا تشتد العقوبات على إساءة إستخدام الحرية، ويستمر هذا الصبى فى النمو ويريد كل شئ لنفسه وتشتد غيرته من شقيقته وشقيقه الطفل الرضيع لأنه يعتقد أنه مركز الكون وحرية التملك تكون قوية بشدة والحرية أحيانا تصل بهذا الصبى إلى حد الأنانية وهنا تصطدم الحرية بشدة مع العدالة، لأن الأبوين يريدان أن يعاملا الأبناء بعدالة ولكن تلك العدالة تصطدم مع رغبة هذا الصبى المشاكس فى الحرية.
وكما ذكرت بأن الحرية هى غريزة إنسانية نجد فى المقابل بأن العدالة كقيمة هى ضد الطبيعة الإنسانية، لأن الطبيعة الإنسانية تميل إلى الأنانية، لكن العدالة ضد الأنانية تماما وتهدف إلى تحقيق المساواة قدر الإمكان بين البشر، وعبر التاريخ حاول الزعماء والملوك والحكام بأن يحدوا من حرية شعوبهم (بحق أحيانا وبدون حق فى معظم الأحيان) وذلك بحجة العدالة. وتوجد أشياء إيجابية كان لابد منها لتحقيق تلك العدالة ولو على حساب الحرية، فأبسط شئ مثلا : الضرائب هو نوع من تقييد حريتك على صرف كل أموالك وإقتطاع جزء منها لصالح المجتمع وذلك بأن يستفيد الغير قادر من الضرائب التى تفرض على أموال القادر، ولا بد من تحقيق توازن حقيقى بين الحرية والعدالة، لأن الحرية الزائدة عن الحد والغير مقننة قد ينتج عنها الفوضى الإجتماعية، والمبالغة فى تحقيق مبدأ العدالة قد يأتى على حساب الحرية الفردية والحافز الفردى وحرية الملكية وكان هذا أحد الأسباب القوية لفشل التجربة الشيوعية رغم جاذبيتها الرومانسية، لأنها ساوت بين مواطنيها فى الفقر ولكنها تجاهلت أهمية الحرية بالنسبة للإنسان، وبالذات حريتى التعبير والتملك.
وأبسط مثال على الصراع بين الحرية والعدالة تجده فى فوضى المرور فى مدينة القاهرة حيث تجد الناس تريد أن تستمتع بحريتها فى مخالفة قوانين المرور وبالتعدى على حرية الآخرين فى تملك جزء من الطريق العام، وعدم إحترام عدالة توزيع إشارات المرور، وكان من نتيجة الإستخدام السئ للحرية هو تلك الفوضى الرهيبة فى المرور فى القاهرة والتى تحولت مع الوقت إلى فوضى فى كل شئ، وأصبح العديد من مواطنى مصر المحروسة يعتبر أن فوضى المرور يمكن تطبيقها على كل نواحى الحياة، وهنا كان ولا بد أن يأخذ القانون أجازة طويلة بدون مرتب.
فالصراع بين الحرية والعدالة لا يمكن تنظيمه سوى بالقانون، فالقانون فى البلاد المحترمة والتى عانت من فوضى الحرية وعانت من الظلم الكبير وصلت أخيرا إلى هدنة مستقرة بين أفراد الوطن الواحد وذلك عن طريق القانون والذى يضمن تحقيق أكبر قدر من الحرية وفى نفس الوقت ضمان أكبر قدر من العدالة وقد يبدو هذا الشعار سهلا وجذابا ولكن تطبيقه بشكل معقول (ولا أقول مثالى) لم يحدث إلا بعد قرون طويلة من الحروب والنزاعات الداخلية والخارجية. وفى تقديرى أن مقياس تقدم الأمم يظهر فى قوانينها وفى سلامة تطبيق تلك القوانين على الجميع بشكل يحقق التوازن بين الحرية والعدالة.
...
وبعد هذه المقدمة الفلسفية (إللى ماللهاش لازمة)!! نأتى للكلام عن العلمانية والليبرالية، والحقيقة أن كلاهما دخيل على اللغة العربية وأيضا كلاهما دخيل على المجتمعات المتخلفة، فالعلمانية فى مفهومها الغربى تعنى الفصل بين الدين والدولة وهو شئ غير موجود فى مجتمعاتنا فالدين يدرس فى كل مدارسنا بدون إستثناء كعقيدة وممارسات ويوجد مسجد فى كل مدرسة أو معهد، بينما الدين فى الدول العلمانية لا يوجد سوى فى دور العبادة أو المدارس الدينية و لايدرس الدين فى المدارس الحكومية إلا كجزء بسيط فى منهج التاريخ، لذلك فنحن نبعد عن العلمانية بملايين السنين الضوئية.
أما الليبرالية فهى كلمة أكثر غربية وهى ليست ترجمة ولكننا نكتبها وننطقها مثل أهل الغرب مثلما ننطق التليفزيون أو الكومبيوتر وهى لا تعنى شئ بالنسبة لنا، لأنه حتى فى دول الغرب لها مدلول مختلف تماما عن المقصود بالكلمة هنا، فالليبرالى الأمريكى يعنى عادة الأشخاص اليساريون أو الجناح اليسارى من الحزب الديموقراطى، والعديد من الجمهوريين فى أمريكا يعتقدون بأن الليبراليين يهدمون التقاليد التى تاسست عليها أمريكا وهى تقاليد الرجل الأبيض المسيحى الأنجلو ساكسونى. والليبرالى الفرنسى له تعريف مخالف لليبرالى الأمريكى.
أما فى عالمنا العربى الجميل فقد أصبحت العلمانية والليبرالية أقرب التهم التى توجه لأى مفكر حر، ويتبعها مباشرة تهمة الكفر والإلحاد ثم يتبعها تهمة العمالة لأمريكا وإذا كنت محظوظا فإن تهمة عميل الموساد جاهزة أيضا لمن يرغب.
لذلك أقول أننى ببساطة أنفى عن نفسى ايا من تهمتى الليبرالية أو العلمانية وأقول بأننى مجرد أنسان حر يريد أن يستمتع بحريته مثل الطير على الشجر والسمك فى الماء وأردد مع كل المرددين الهتاف المشهور:quot;يعيش السمك فى الماء... يسقط المطر شتاءquot;.
وفى دعاء العشر الأواخر من رمضان: أرجو من الله ألا يحشرنى يوم القيامة مع العلمانيين أو الليبرليين وإنما أدعوه بحق هذا الشهر الفضيل أن يحشرنى فى زمرة الأحرار!!
[email protected]