وقعت لي خاطرة حين مرت بي آية من سورة الحجر تتحدث عن قصة ضيف إبراهيم عليه السلام وهي قوله تعالى quot;ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلونquot;.. لماذا جاء جواب إبراهيم عليه السلام على هذا النحو من الخوف والحذر، مع أن نفس المشهد في سورة الذاريات يرد فيه إبراهيم عليه السلام على ضيوفه بكرم وحفاوة quot;قالوا سلاماً قال سلام quot;، وسلام بالضم هي أقوى في المعنى اللغوي منها بالفتح فدلت على رد إبراهيم التحية بأحسن منها مبالغةً في الترحيب بضيوفه..ولماذا وصف القرآن ضيف إبراهيم في سورة الذاريات بالمكرمين، بينما لم يصفهم بهذا الوصف في سورة الحجر؟

وحين يتحدث القرآن عن نفس المشهد بكلمات مختلفة من سورة لأخرى، فإن جميع هذه الكلمات دقيقة، ولكن القرآن يبرز في كل سورة جانباً من المشهد غير الجانب الذي يبرزه في السورة الأخرى بما يتناسب مع السياق، وإذا أردنا رؤية الصورة الكاملة فإن علينا أن نجمع الأجزاء المتناثرة في القرآن

فإبراهيم عليه السلام قال بالفعل quot;سلامquot;، وقال أيضاً quot;إنا منكم وجلونquot;، ولكن القرآن يذكر في كل مرة جزءً من الجواب يتناسب مع أجواء السورة..

وجه الروعة في تدبر الفروق بين السورتين هو أن الجو النفسي لسورة الحجر هو جو مشحون بالخوف والحذر والترقب والعذاب المفاجئ المباغت، فجاء رد إبراهيم متناسباً مع هذا الجو العام، بينما في سورة الذاريات نلمس أجواء السعة والرزق والكرم فجاء رد إبراهيم متناسباً مع هذا الجو أيضاً..

يقول الله تعالى في أول سورة الحجر quot;ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمونquot; وهذا يعني أن العذاب سيأتي فجأةً وهم لاهون، فهي آية تملأ قلوب المؤمنين خوفاً وحذراً من مباغتة العذاب.

وحين تتناول السورة ما لحق بالأمم السابقة من عذاب فإنها تبرز بشكل واضح جانب المباغتة في العذاب، ففي قصة إهلاك قوم لوط quot;وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحينquot;..ووقت الصبح تحديداً هو وقت ميلاد الحياة quot;وإذا الصبح تنفسquot; حيث يكون الناس مقبلين على الحياة بخلاف وقت الليل الذي تمتلئ فيه النفوس بخواطر الموت والخوف، فمجيء العذاب الاستئصالي الذي يقطع دابر القوم في هذا الوقت الذي يتجدد فيه أمل الناس بالحياة فيه إمعان بالمفاجأة والمباغتة، ونفس المعنى يتعزز في قوله تعالى واصفاً لحظة وقوع العذاب على قوم لوط quot;فأخذتهم الصيحة مشرقينquot;، أي وقت شروق الشمس حيث كانوا يستعدون لاستقبال يوم جديد بنفوس مشحونة بالأمل واللهو.

بعد ذلك تتناول السورة قصة أصحاب الحجر، حيث سميت السورة باسم الحجر وهو المكان الذي كانت تسكن فيه ثمود، وتصور لنا الآيات كيف وقع عليهم العذاب وهم ساهون لاهون quot;وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحينquot;..والحديث عن نحتهم البيوت المحصنة القوية في الجبال وهم آمنين تبرز إلى أي مدى كان العذاب مفاجئاً مباغتاً، وتعزز أجواء الحذر والترقب التي تظلل السورة، ومرةً أخرى يبرز القرآن وقت نزول العذاب quot;مصبحينquot; حيث تتضاعف دواعي الحذر والترقب..

بانتقالنا إلى سورة الذاريات نجد أنه في مقابل أجواء الحذر والترقب والخوف التي تسود سورة الحجر، فإن الأجواء التي تسودها هي أجواء الرزق والسعة والكرم، وتتبين خصائصها النفسية منذ آياتها الأولى التي يقسم فيها الحق تبارك وتعالى بأمور لها علاقة بالرزق فالذاريات ذرواً هي الرياح، والحاملات وقراً هي السحاب، والجاريات يسراً هي السفن، والمقسمات أمراً هي الملائكة، وبعد ذلك يطمئن الله عباده على أرزاقهم حتى لا يجزعوا ويقسم على ذلك قسماً عظيماً quot;وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقونquot;، وفي قصة إبراهيم يفصل في وصف مظاهر إكرام إبراهيم لضيفه مما يتناسب مع جو الكرم الإلهي المشبعة به السورة، وهي تفاصيل خلت منها سورة الحجر تماماً، فيصف ضيوفه في سورة الذاريات بالمكرمين، ويحدثنا عن حفاوته في الترحيب بهم quot;سلامquot;، وعن حرصه على إكرامهم quot;فراغ إلى أهلهquot;، حتى لا يشعروا بنيته فيمنعوه من ذلك، quot;فجاء بعجل سمينquot; إمعاناً في الكرم، quot;فقربه إليهمquot; إمعان آخر في الكرم، quot;قال ألا تأكلونquot;..

ولأن الجو العام في السورة جو كرم ورزق وسعة يأتي قوله تعالى quot;والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعونquot;، في مقابل قوله تعالى في سورة الحجر quot;وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلومquot;..والظلال التي يتركها قوله تعالى quot;وما ننزله إلا بقدر معلوم تختلف عن الظلال التي يتركها قوله تعالى quot;وإنا لموسعونquot; حيث الأولى تلقي في النفس إيحاءً بالمحدودية، بينما الثانية تترك إيحاءً بالسعة والطلاقة..

ويأتي ختام سورة الذاريات متناسقاً مع جوها العام بدعوة الناس إلى العبادة وعدم القلق حول الرزق quot;ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتينquot;..

حتى في حديث سورة الذاريات عن هلاك قوم ثمود وهم أصحاب الحجر نلمس أجواءً تختلف عن أجواء سورة الحجر، ففي سورة الذاريات: quot;وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حينquot; فرزق الله وكرمه نال حتى القوم الظالمين نصيب منه، بينما تركز سورة الحجر على وقوع العذاب عليهم مباغتةً..

اسم السورة أيضاً نجده متناسباً مع الجو النفسي لها فسورة الحجر سميت بهذا الاسم نسبةً إلى المكان الذي كان يسكن فيه قوم ثمود، وكلمة الحجر بحسب معانيها اللغوية تدل على القوة والإحكام والمنع، وهي مرادفات تدل على درجة الأمن التي كان يعيش بها قوم ثمود حين أخذتهم الصيحة..أما الذاريات وهي الرياح فعلاقتها واضحة بتسيير السحب والأمطار وتلقيح النبات..

في ضوء هذه المقارنة تتبين لنا مدى الدقة القرآنية في كل كلمة وعبارة، فلا يوجد حرف واحد في القرآن يمكن استبداله، فرد إبراهيم في سورة الحجر quot;إنا منكم وجلونquot; يأتي متناغماًً مع أجواء الحذر والترقب التي ترسمها السورة، بينما رده في سورة الذاريات quot;سلامquot; يأتي متناغماً مع أجواء الرزق والكرم التي تميز السورة..

هذه المقارنة ليست سوى مثال واحد تنبهنا إلى ضرورة اتباع منهج في تدبر القرآن يتناول السورة كوحدة موضوعية ونفسية واحدة ويربط بين أجزائها المتناثرة، بل ويربط بين اسمها والمعاني الواردة فيها، كما يربط بين السورة والسورة التي قبلها والتي بعدها، فترتيب السور وقفي من عند الله فلا بد أن يكون من ورائه حكمة، وهو منهج سار عليه عدد من العلماء والمفسرين المعاصرين من أمثال سيد قطب ومحمد باقر الصدر، وفاضل السامرائي، ولا يزال بحاجة إلى مزيد من البحث والإثراء لاستكشاف كنوزه، وهو منهج سيكون أكثر دقةً وجمالاً بالتأكيد من الطريقة التقليدية التي تعامل بها المفسرون الأوائل مع القرآن الكريم باجتزاء القرآن آيةً آيةً وكلمةً كلمةً دون ربط أول السورة بآخرها ومناسبة ألفاظها للأجواء النفسية التي تظللها..

وإلى وقفة أخرى في تدبر كتاب الله إن شاء الله..

quot;أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراًquot;
[email protected]