قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام أطلق بلال بن رباح صرخته في مكة معلناً تحرره من قيود العبودية..لم يكن بلال أكثر من عبد حبشي ليس له أي قيمة أو شأن في نظر سادة مكة وكبرائها، ولم يكن دوره يزيد عن الائتمار بأمر سيده والانتهاء بنهيه دون أي إرادة أو اختيار منه، لكن الانقلاب الهائل حدث حين اكتشف بلال سر القوة الكامنة في أعماقه وعلم بأنه ليس لأحد من سلطان عليه فمنحه ذلك طاقةً تحرريةً نفضت عنه قيود الذل والخوف وأعطته الشجاعة للوقوف في وجه سيده أمية بن خلف هاتفاً بكلمته الخالدة: أحد أحد..
ولأن الطغاة لا يسلمون بانسحاب البساط من تحت أقدامهم ولا يقبلون بمعادلة جديدة تضعهم على قدم المساواة مع من كانوا يستعبدونهم ويستحقرونهم فقد سلط أمية بن خلف سوط عذابه على جسد بلال ووضع الصخرة على صدره تحت شمس مكة الحارقة ظاناً أنه بهذه الطريقة قادر على قتل روح التحرر المنبعثة فجأةً دون سابق إنذار، لكن أنى لسياط أمية أن تقتل إيماناً راسخاً، وأنى لعذابات الجسد أن تنال من روح محلقة في العلياء، فلم يبال بلال بكل ألوان العذاب وأصنافه بعد أن اكتشف طريق الحرية ولم يزد عن ترداد قوله أحد أحد..
لقد كانت المواجهة بين بلال وأمية هي المواجهة بين السوط والكلمة، هي المواجهة بين أساليب الترهيب المادية، وبين قوة الروح المتجذرة..إنها مواجهة فريدة لكنها مواجهة رائعة لأنها تمايز بين الفريقين ولا تسمح بخلط الأوراق فهي مواجهة يتضح فيها طلاب الحرية وأنصار الاستعباد والاستكبار والاستعلاء..إنها المواجهة بين الحق والباطل..وما دامت الصفوف قد تمايزت فإن النتيجة قد حسمت وهي الغلبة والتمكين للحق المجرد..
إن الكلمة مقدسة وأثرها فعال ومضمون في مواجهة المستكبرين في الأرض، فالكلمة هي إعلان عن التحرر النفسي من الخضوع للطغاة، وتكرارها إعلان عن فشل محاولات هؤلاء الطغاة في قتل الإيمان المتجذر في النفوس..
لقد هزمت كلمة بلال سياط أمية لأن أقصى ما كانت تقدر السياط أن تفعله هو أن تؤذي الجسد أما الروح فلم يعد لها من سلطان عليها بعد أن اكتشفت طريق الحرية..لقد يئس أمية أمام إصرار بلال فلم يجد بداً في نهاية المطاف من إعلان فشل محاولاته في إعادة استعباده، فأعتقه أبوبكر الصديق رضي الله عنه، وبقي بلال حراً يصدح في أرجاء الزمان: الله أكبر الله أكبر..
صار بلال مثلاً لطلاب الحرية عبر التاريخ، وها هم أبناء سوريا التي يضم ثراها جسد بلال يسيرون على ذات الدرب، فكلمة حرية حرية التي تصدع بها حناجر الشعب السوري في مواجهة الطغيان هي ذاتها كلمة أحد أحد..أحد بلال تعني أن سادة قريش وكبراءها ليسوا آلهةً، وأنه ليس لأحد إلا الله من سلطان عليه، وهذا هو مفهوم التحرر العميق أن تتحرر النفوس من هيمنة المستكبرين، وحين يصدع أبطال سوريا بقولهم حرية فإنهم يعلنون بذلك أنه لم يعد للمستكبرين سلطان على نفوسهم وأنهم لم يعودوا يخضعون لهذه الآلهة المزيفة..
وكما كان أمية يواجه كلمة بلال بالسوط والصخرة فإن أحفاد أمية في سوريا يواجهون الكلمة بالرصاصة والدبابة، وهم يظنون بغفلتهم عن سنن التاريخ أن هذه الأدوات القمعية تملك أن تقتل الروح المؤمنة المتحررة..
ما لا يعلمه الطغاة أن الكلمة سلاح فاعل وحاسم في أيدي الشعوب يفوق في فعاليته كل أسلحتهم وعتادهم، فالشعوب حين تنزل هاتفةً بالحرية فإنها تضرب في نقطة الضعف القاتلة لهذه الأنظمة المستبدة، لأن رصيد هذه الأنظمة هو إبقاء حالة الخوف متمكنةً من النفوس، فإذا صدعت الشعوب بكلمة الحرية فإنها بذلك تهزم حالة الخوف وتعلن انتصارها على أنظمة الرعب وأجهزتها..
حين تنزل الشعوب إلى الشارع فإن كل محاولات الطغاة لإرهابهم وإرعابهم هي محاولات محكوم عليها بالفشل مسبقاً إذ ماذا تفيد أجهزة القتل والقمع في مواجهة زحوف مؤمنة تصر على الهتاف للحرية حتى الموت..
إن أقصى ما يملك الطغاة فعله في مواجهة الشعوب هو القتل، فإذا دبت روح الإيمان في الشعوب ولم تعد تخشى القتل فإن أي قوة في الأرض لن تستطيع أن تثنيها عن عزمها وستكون الغلبة لها يقيناً، ومهما عاند المستبدون وكابروا فإنهم لن يستطيعوا أن يصادموا سنة التاريخ إلى الأبد وسيصبح اندحارهم مسألة وقت لا أكثر، وكما يئس أمية في نهاية المطاف من هزيمة إرادة بلال فإن النظام الاستبدادي في سوريا سييئس لا محالة من كسر إرادة الشعب السوري المجاهد بعد أن استنفد كل ما يمتلكه من وسائل للقمع والإرهاب..
يصح أن نصف المواجهة في سوريا بأنها مواجهة بين التوحيد والشرك، ليس بالمعنى الأيديولوجي الضيق، ولكنه توحيد الشعوب التي كفرت بكل الآلهة المزيفة من الطغاة المستبدين، وشرك الطغاة الذين نصبوا أنفسهم آلهة في الأرض من دون الله يجب أن تعبد وألا يعصى أمرها وألا يكون هناك معقب لحكمها..
لقد سبقت سنة الله في الأولين أن كلمة المؤمنين المستضعفين تتغلب على سلاح المستكبرين، ولن يكون طغاة سوريا استثناءً من التاريخ وسيلحق بهم ما لحق بأمية بن خلف وأبي جهل وفرعون والأحزاب..
تستوفي الثورة السورية شروط نموذجيتها بتعمد النظام الاستبدادي توريط الجيش في قمع الشعب مخافة أن ينقلب عليه..لكن لعله خير فقد أصبحت القوة المادية كلها في كفة وكلمة الإيمان المجردة في الكفة الأخرى، فلمن ستكون الغلبة..التاريخ يجيبنا على ذلك. لذا فإن يقيننا يزداد بحتمية انتصار الشعب السوري على النظام الاستبدادي كلما رأينا هذا النظام يوغل في الدماء، وكلما رأينا في المقابل إصراراً وتأكيداً من قبل الشعب السوري العظيم على مواصلة ثورته السلمية حتى النهاية..
إن الذين يظنون أنهم أذكى وأفطن ممن سبقهم هم واهمون أي وهم، فسنة الله لا تتبدل ولا تتحول، وكل ما يظهرونه من تذاكي على الناس سيرتد على نحورهم قريباً quot;ولا يحيق المكر السيء إلا بأهلهquot;، وما على الشعب السوري المجاهد إلا أن يمضي قدماً في ثورته السلمية، فهو في طريقه بعون الله إلى انتزاع نصر عظيم يسجله التاريخ بكل عز وشرف، وكل يوم جديد من عمر هذه الثورة المباركة تزيد من مأزق النظام وتجرده من أوراق قوته، بينما تزيد الشعب السوري العظيم قوةً وتجذراً وتألقاً، وتجعله أكثر جدارةً بالتمكين له في الأرض..
إن المشهد السوري بقدر ما فيه من فظائع وجرائم ضد الإنسانية بقدر ما هو مفخرة للإنسانية وانتصار لحرية الشعوب وكرامتها..
quot;والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمونquot;.

[email protected]