علاقة الشعوب المسلمة بيوم الجمعة لم تكن وليدة الثورات العربية، فيوم الجمعة يحتل مكانةً خاصةً في قلوب المسلمين منذ فجر الإسلام، وفي القرآن الكريم يقسم الله عز وجل بهذا اليوم ويسميه شاهداً quot;وشاهد ومشهودquot;، وقد شهد هذا اليوم المبارك فتوحات وانتصارات عظيمة عبر التاريخ، وكان يوماً فاصلاً في كثير من المحطات التاريخية مثل غزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وعندنا في فلسطين كان يوم الجمعة دائماً موعداً لتجدد الانتفاضة في القدس والأراضي المحتلة، فكان الاحتلال يحسب لهذا اليوم ألف حساب، ويستنفر قواته، وتتضاعف أعباؤه الأمنية فيه.
لكن اندلاع موجة الثورات العربية في عام 2011 زاد من إبراز قيمة هذا اليوم، وصار موعداً نموذجياً للثائرين في البلدان العربية للانطلاق فيه بعد صلاة الجمعة في مسيرات تنادي بالحرية وسقوط الاستبداد، وشهد هذا اليوم سقوط رئيسين عربيين في تونس ومصر وإصابة رئيس ثالث هو رئيس اليمن، وشهد الأحداث الكبرى في الثورات، وصار موعداً أسبوعياً لمضاعفة زخم التظاهرات، يسمى كل أسبوع باسم يميزه، وبذلك تحول يوم الجمعة إلى عامل قلق حقيقي للمستبدين العرب يرتعدون منه فرقاً، ويستبقونه بمحاولات استرضاء الشعوب بإصدار قرارات ومراسيم علها تطفئ من لهيب ذلك اليوم المستعر، أو بمضاعفة الإجراءات الأمنية إلى درجة الاستنزاف.حتى نسبت نكتة إلى القذافي ndash;قبل أن تدهمه الطامة- بأنه يفكر في إلغاء هذا اليوم والاكتفاء بستة أيام في الأسبوع.
هذا الأثر الواضح ليوم الجمعة لم يأت من فراغ، ولم يكن ليكون لولا قيمته الروحية والاجتماعية، فهو خير يوم طلعت عليه الشمس في عقيدة المسلمين، وهو عيدهم الأسبوعي، وقد سمي جمعةً من الاجتماع لأن المسلمين يجتمعون فيه للصلاة وللخطبة التي تتناول شئون حياتهم.. وأفضلية هذا اليوم الدينية هي التي تحفز أرواح المؤمنين فيه للانطلاق والثورة. وهذه العلاقة بين شعيرة من شعائر الدين الإسلامي وبين الواقع الاجتماعي والسياسي للمسلمين تكشف بوضوح مدى حضور العنصر الديني في تركيب الشخصية العربية، ومدى الالتصاق الوثيق بين الدين والحياة في الثقافة العربية..
لقد جاءت الثورات العربية بعد عقود طويلة من عصور التغريب والعلمنة الممارسة بحق الشعوب العربية لفك ارتباطها بدينها الذي هو سر قوتها، وكانت الجمعة في هذه العصور موعداً للإجازة والفسحة وأكل الدجاج وحسب، وكانت خطبتها للطقوس المظهرية ولتخدير العقول بتناول قضايا جامدة مفصولة عن الواقع، لكن انبعاثة الأمة أعادت إلى الواجهة الدور الحقيقي الذي تؤهله مكانة يوم الجمعة الروحية وخصائصها للقيام به.
وحين نرى هذا الأثر القوي ليوم الجمعة وإلهامه الثوري للجماهير فإن هذا يعني أن كل عصور التغريب والعلمنة لم تنجح في إذابة هوية الأمة وسلخها عن دينها وثقافتها، وأن كل ما شهدته البلاد العربية في عصور الضياع من مظاهر فساد وعلمنة لم تكن سوى قشرة رقيقة تخفي وراءها مخزوناً روحياً عميقاً له أثره القوي في اللاشعور الجمعي لهذه الأمة، ومهما بدا للرائي من انحراف الشعوب، فإن الدين متغلغل بقوة في وعي الشعوب العربية ولا بد أن يعبر عن نفسه بقوة مهما طال الزمن.
إن الأثر الذي أظهرته الثورات ليوم الجمعة كان من القوة بحيث لم يستطع أصحاب الاتجاهات غير الإسلامية من علمانيين وليبراليين وقوميين إلا أن يتعايشوا معه ولم يستطيعوا تجاوزه، فلم يعد بوسع هؤلاء أن يعثروا على فرصة لحشد الجماهير أفضل من يوم الجمعة وصلاتها..
درس يوم الجمعة في زمن الثورات يقول لنا بأنه لا يزال لهذه الأمة شخصيتها المستقلة غير القابلة للتذويب، وأن لهذه الأمة ما تتميز به، وأنه ليس قدراً عليها أن تكون تابعةً للحضارة الغربية، فيوم الجمعة ومعه شهر رمضان ودورهما الثوري يثبت بأن الدين هو مكون رئيس، وأن له دوره الفاعل في قيادة المجتمع، وأنه ليس معوقاً للنهضةً أو أفيوناً للشعوب، كما هو الحال في المجتمعات الغربية، بل هو ملهم وهو الأقدر على حشد طاقات الأمة واستخراج قدراتها الكامنة، ولئن كانت المجتمعات الغربية قد مرت بتجربة خاصة بها أفرزت هذا الانفصال بين الدين والحياة، فإن الأمر لا ينطبق بالضرورة على المجتمعات الإسلامية، لأن طبيعة الدين الإسلامي ترفض هذه الثنائية، وهي تنظر للحياة كلها بأنها محراب كبير للعبادة، واختصاص الدين في الإسلام ليس في العلاقة الفردية بين الإنسان وربه، بل إن للدين كلمته في كل شأن من شئون الحياة.
لقد جاء الوقت الذي تدرك فيه الأمة أن لديها ما تتميز وأن لها هويتها المستقلة وأنه ليس قدراً عليها أن تذوب في الثقافات والحضارات الأخرى وتفقد ذاتيتها حتى يكون لها مكان في هذا العصر
إن ما نشهده اليوم يؤسس لتاريخ جديد فهو إعلان انبعاث الأمة من جديد وأخذها لزمام المبادرة ونفضها لغبار القرون وإعادة الانسجام مع ذاتها..

[email protected]