يوم الجمعة الموافق التاسع والعشرين من يوليو 2011 ، سيبقى من الأيام التي لا تنسى في أذهان وعقول المؤمنين بكل الديانات. هذه الجمعة صادفت مرور سبعة أيام على الحدثين الإجراميين الإرهابيين اللذين تعرضت لهما العاصمة النرويجية أوسلو وجزيرة أوتاه القريبة منها حيث بلغ الضحايا قرابة الثمانين شخصا، أغلبهم من شباب حزب العمل الذين كانوا في معسكر صيفي شبابي في تلك الجزيرة.
كانت القيادات الإسلامية في النرويج، خاصة في العاصمة أوسلو كما عايشت وشاهدت، قيادات تستحق الإشادة والتقدير، لأنها كانت في مستوى ما تفرضه الأخلاق والقيم الإسلامية في مثل هذا الحدث، حيث التضامن الإنساني الرائع مع النرويج كبلد وشعب ودولة ومع أهل الشباب الضحايا الأبرياء. وهذا الخلق الذي أبدته القيادات الإسلامية ومعها ألآف مؤلفة من المسلمين من مختلف الجنسيات، يذكّر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، فهذا البلد الذي استقبلنا وتعايشنا مع أهله قد أصبحوا فعلا وحقيقة أهلنا، نشاركهم الأفراح ونشاطرهم الأحزان، وهكذا كانت أخلاق الرسول الكريم وصحابته مع من عاش معهم وبينهم أيا كانت دياناتهم.

مسجد الرابطة الإسلامية نموذجا
هذا المسجد الذي يقع في وسط المدينة، وتكسرّ بعض زجاجه من التفجير الإرهابي الذي طال مباني الحكومة النرويجية القريبة منه، كان نموذجا إسلاميا رائعا مدهشا في يوم الجمعة المذكور كما هو في كل الأيام والجمع، من حيث طريقة وأسلوب التضامن الذي ينسجم مع خلق الإسلام وطبيعة تعامله، بعيدا عن سلوك القلة في العديد من الأقطار العربية والإسلامية التي تفهم السلوك الإسلامي فهما خاطئا متزمتا يسيء للإسلام أكثر من أعدائه.

درس الإمام الشاب جمال النابلسي
هذا الشاب الذي يتقن اللغة النرويجية كأهلها، وكعادة المسجد في أغلب أيام الجمع إذ يتمّ تقديم درس باللغة النرويجية للمصلين من جنسيات لا يجيدون اللغة العربية. قدّم هذا الإمام الشاب درسه باللغة النرويجية لمدة خمسة عشر دقيقة، كانت بليغة للغاية، موجزة بسيطة، قدّم فيها أمثلة عديدة من تعليمات الإسلام حول التعامل مع الغير أو الآخر، معزّزا ذلك بأفعال ميدانية للرسول الكريم وصحبه، منهيا درسه الإيماني بقول صريح واضح مفاده علينا كمسلمين أيا كانت جنسياتنا وقومياتنا أن نحترم هذا البلد النرويج، ونسعى جاهدين لتعزيز أمنه وطنا وشعبا، كي نعطي المثل الحضاري الراقي عن الإسلام والمسلمين.

خطبة إمام المسجد الشيخ علي فتيني
هذا الإمام أكثر الله من أمثاله يعطي المصلّين وكل من يستمع إليه نموذجا حضاريا للصورة التي ينبغي أن يكون عليها خطيب الجمعة. خطبة موجزة بإسلوب عربي بسيط في مستوى غالبية المصلين. كانت خطبته هذه الجمعة ككل خطبه رائعة بكل المقاييس لدرجة أنني تمنيت لو تمّ تسجيل فيديو لهذه الخطبة ونشره في العديد من مواقع الإنترنت، كي نتعلم كيف نقدّم صورة حضارية خلاّقة مسالمة للمسلم والإسلام. أورد الشيخ الخطيب العديد من القصص والأحداث التي حصلت في زمن الرسول الكريم، معزّزا ذلك بآيات من القرآن الكريم التي تحثّ على التعامل الطيب واحترام الآخر وسلمه وأمنه. وكم كانت مؤثرة قصة الرسول الكريم مع أهل مكة التي أوردها الإمام في خطبته، حيث انتظر أهل مكة الذين كفروا بالله وأخرجوا رسوله وحاولوا قتله وآذوه وآذوا أصحابه وحاربوهم، انتظروا جميعا بعد فتح مكة أقل شىء منه ، هو أسرهم و أن يقتصّ منهم لقتلاه و لما فعلوه معه ، فلما فتح الله عليه مكة قال لقريش:quot;ما تظنون أنى فاعل بكم؟ quot;قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال: quot;اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لى ولكم quot;. تصوروا (يغفر الله لي) قبل (يغفر الله لكم)، لأنّه رغم أنّه رسول الله فهو يفترض خطأه قبل خطأ الآخرين.

ومسيرة تضامن في شوارع أوسلو
وكي يشعر الشارع النرويجي بحزن وتضامن المسلمين معهم في هذا الحادث الجلل، اتفقت القيادات الإسلامية من خلال (المجلس الإسلامي في النرويج)، وهذا ما تمّ الإعلان عنه في خطبة الجمعة بمسجد الرابطة، وهو أن يتم تجمع وتسيير حشد ومظاهرة تضامن عربية إسلامية من منطقة (جرونلاند) مرورا من أمام مسجد الرابطة، وصولا لكنيسة (دوم) في مركز المدينة، حيث غطّت محيطها خلال الإسبوع التالي للعمليتين الإرهابيتين عشرات ألاف الزهور التي هي أهم رمز من رموز التعبير عن الحزن والتضامن في النرويج. وفعلا فقد تجمع المتضامنون المسلمون بالآلآف في منطقة (جرونلاند) حيث ساروا رافعين الأعلام النرويجية وباقات الزهور وصولا للكنيسة المذكورة، حيث كان أمام الكنيسة مئات من النرويجيين ينتظرون هذه اللحظة الإسلامية الحضارية التضامنية. وضمن نفس السياق قام رئيس الوزراء النرويجي ينس ستولتنبرج بزيارة أحد مساجد المسلمين ليقول للجميع رسالة مفادها: نحن مجتمع واحد ضد الكراهية والعنف والتطرف.

اليمين المتطرف هو نفس اليمين في كل الديانات
الشاب النرويجي (أندرياس بيهرنج) منفذ العمليتين الإرهابيتين في أوسلو وجزيرة أوتاه القريبة منها، لم يخف في أوراقه التي نشرها قبل تنفيذ العمليتين حقده وكراهيته لبني وطنه النرويجيين من حزب العمال، وكذلك أسفر بوضوح عن كراهيته للعرب والمسلمين، وكان من قتلى الجزيرة بعض المسلمين. وهذا مؤشر خطير يجمع صفات مشتركة بين المتطرفين اليمينيين من كافة الديانات:

هذا المتطرف النرويجي (أندرياس بيهرنج) قتل قرابة الثمانين من الشباب النرويجي من بني جنسه ووطنه.
الأمريكي (ثيموتي ماكفاي) قتل عام 1995 قرابة 170 من بني وطنه وجنسه الأمريكان.
أفراد إيتا الإنفصاليين في أسبانيا قتلوا المئات من بني شعبهم ومنهم رئيس الوزراء الأسباني لويس بلامكو عام 1973.
الأردني الزرقاوي قتل مئات من شعبه الأردني في تفجيرات فنادق عمّان عام 2005 ، وألاف من الشعب العراقي على مدار السنوات التي سبقت قتله.
أسامة بن لادن السعودي الأصل قتل ألاف من الأمريكان والأوربيين ومن بني جنسه السعوديين في تفجيرات طالت أكثر من مدينة سعودية.
متطرفون يمينيون مصريون قتلوا مئات من السواح الأجانب ومن بني جنسهم الأقباط المسيحيين.
اليهودي اليميني المتطرف بيغال عمير أقدم في نوفمبر 1995 على اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين وهو من بني جنسه وديانته، وإدّعى في بعض افاداته أنّ بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي كانوا على علم بمخططه.

ماهو المقصود بسرد هذه الوقائع المعروفة؟
المقصود هو أنني أريد التأكيد بوقائع موثقة أنّ الإرهاب لا دين ولا جنسية له، فلأي دين كان يدّعي الإرهابي فهو يقتل بني دينه والغرباء أيضا. وكذلك أودّ تبرئة الأديان جميعها من هذا الإرهاب والعنف الدموي، فلقد تواصل العديد من الكتاب وبعض القراء في تعليقاتهم على مقالاتي السابقة، يوردون آيات من القرآن الكريم الكريم يقولون أنّها تحث على القتل الأعمى لكل من هو غير مسلم. ويردّ عليهم فقهاء وعلماء المسلمين بأنّ هذه الآيات لها سياق معين وظرف وزمان مختلفين عن زماننا اليوم، فلا يصدّقون هذا التفسير ويعتبرونه نوعا من التورية أو التقية.

ولكن في المقابل ماذا عمّا ورد في الإنجيل بعهديه القديم والجديد؟.
في البداية السؤال المهم هو: ما دام كتاب الديانة اليهودية هو (التوراة) وكتاب الديانة المسيحية هو (الإنجيل)، فلماذا ومتى ومن ضمّ الكتابين معا ليعطيهما اسم (الكتاب المقدس. العهد القديم، العهد الجديد)؟. ولماذا يوزع هذا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد في كافة الكنائس الأوربية والعربية والفلسطينية أيضا؟ بينما معتنقو الديانة اليهودية لا يوزعون في أماكن عبادتهم (الكنيس) سوى العهد القديم.

ثم وعودة لموضوع آيات العنف والقتل في القرآن التي يركّز عليها البعض أقول: وماذا عمّا ورد في سفر (يوشع بن نون) حيث لا يمكن تصور هذه المجازر في أفلام الرعب الهوليودية؟. وسأكتفي بمثال واحد من الإصحاح السادس، جملة 26 (وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب). وفي الإصحاح العاشر، جملة 34 ، (ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لخيش إلى عجلون فنزلوا عليها وحاربوها. وأخذوها في ذلك اليوم وضربوها بحد السيف، وحرّم كل نفس بها في ذلك اليوم حسب ما فعل بلخيش. ثم صعد يشوع وجميع إسرائيل معه من عجلون إلى حبرون وحاربوها، واخذوها وضربوها بحد السيف مع ملكها وكل مدنها وكل نفس بها. لم يبق شاردا حسب كل ما فعل بعجلون، فحرّمها وكل نفس بها). وهناك فقرات أخرى في سفري القضاة وصموئيل الثاني تقشعر لها الأبدان و تثير الرعب والخوف في نفسية أي بطل للملاكمة أو المصارعة.

وفي العهد الجديد (الإنجيل) أيضا،
هناك جمل رعب وخوف يرتعد منها الطفل والكبير، فقد ورد في الإصحاح العاشر من إنجيل متّى ، جملة 34 (لا تظنّوا أنّي جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا، فإنّي جئت لأفرّق الإنسان ضدّ أبيه، والإبنّة ضد أمها، والكنّة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته). وفي إنجيل لوقا، جملة 35 (لكن الآن، من له كيس فليأخذه، ومزود كذلك. ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا).

تفسيرات أصحاب كل ديانة
يقول مفسرو الديانة الإسلامية أنّ آيات القتل والعنف وردت ضمن سياقات معينة وفي أزمنة وظروف مختلفة، فلا يصدّقهم الآخرون. ويقول مفسرو الديانة المسيحية أن آيات السيف لها معان رمزية، فلا يصدقهم الآخرون... فما هو الحل؟

الحل هو في بث روح المحبة والتسامح ضمن هذه العولمة التي جاءت بأسلحة فتّاكة لن ينجو منها أحد إن استعملت، وهذا يستدعي أن نركز وننشر آيات التسامح والإنسانية كما ورد في القرآن الكريم: (وادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). وكما ورد في الإنجيل (أغمد سيفك، فكل من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك) و (من ضربك على خدّك الأيسر فادر له الأيمن)... وهكذا.

فلنركّز جميعا من كافة الديانات على ما يسمو بالمحبة وينشر التسامح، وكم كان رائعا ومؤثرا أن يوجه الشاب النرويجي ابن السادسة عشر (ايفار بنيامين استيبي) الذي نجا من مجزرة الجزيرة النرويجية، رسالة لمرتكب تلك الجريمة البشعة يقول له فيها: (العزيز أندرس بيرينغلا بريفيك.. لن نبادلك الشرّ بالشر كما كنت تريد. لكننا سنحارب الشرّ بالخير وسننتصر). أيها الشاب (ايفار) ليتني ألتقيك لأقبّل جبينك ويديك.. فلنعمل معا جميعا خاصة المسلمين من خلال قيادة الرابطة الإسلامية المتنورة الحضارية لإشاعة روح المحبة والأمن في هذا البلد المسالم الذي يستحق كل ذلك... والسلام على من اتبع الهدى والمحبة والتسامح وابتعد عن طريق الشر والعنف.
ahmad.
164@live. com