العملان الإجراميان اللذان أصابا الشعب النرويجي المسالم يوم الجمعة الثاني والعشرين من يوليو 2011، أدّيا حتى الآن لمقتل قرابة الثمانين شخصا حسب آخر معلومات الشرطة النرويجية، أغلبهم من الشباب والشابات الذين كانوا في معسكر صيفي لحزب العمال النرويجي الذي منه رئيس الوزراء ينس ستولتنبرج. حجم الخسائر البشرية هذا اقترب من خسائر الشعب النرويجي في الحرب العالمية الثانية إبّان الاحتلال النازي الذي استمر قرابة أربعة أعوام.
كيف تعامل هذا الشعب مع الحزن؟
أنا أسكن في النرويج وأحمل جنسيتها المباركة الطاهرة منذ قرابة عشرين عاما، وعرفت سماحة وإنسانية هذا الشعب الذي يفتخر أنّه شعب وحكومة لم يمارسا الاحتلال طوال التاريخ، بمعنى أنّ دولتهما لم تحتل شعبا ودولة أخرى طوال مراحل التاريخ البشري. ورغم طول إقامتي في هذا البلد المنصور بإذن الله تعالى، فلم أعرف جوانب من إنسانية هذا الشعب إلا من خلال تصرفه بعد الجريمة الإرهابية التي تعرض لها من قبل أحد مواطنية النرويجيين أبا عن جد، وأوقعت هذا العدد من القتلي من الشباب والصبايا في معسكرهم الصيفي وفي مجمع الدوائر الحكومية.
مرتكب الجريمة
لا يختلف عاقلان أو مجنونان على أنّ من قام بذلك العمل هو مجرم وقاتل وإرهابي بامتياز مخجل ومشين. إلا أنني لم أسمع من أي مواطن نرويجي، ولم أقرأ في أية مطبوعة أو وسيلة إعلام نرويجية إطلاق صفة إرهابي أومجرم أو قاتل عليه. فالكل يستعمل عبارة (مرتكب العمل الإجرامي ذلك...). تصوروا التسامح والإنسانية!!
الإثنين الدامع الحزين
يوم الاثنين الخامس والعشرين من يوليو 2011 لن ينساه الشعب النرويجي، فقد كان اليوم الذي عبّر فيه هذا الشعب الطيب المسالم عن إنسانيته، فقد لبّى الشعب نداء رئيس الوزراء للتجمع الساعة السادسة مساء أمام مبنى بلدية أوسلو، ثم الانطلاق في مسيرة حاشدة ترفض الإرهاب وتعبّر عن تمسك الشعب النرويجي بإنسانيته وديمقراطيته. يا إلهي ..يا رب العالمين..مئات الألاف من البشر في أحلى الملابس وأحدثها، يحملون الزهور في أيديهم متوجهين لمبنى البلدية. لا أبالغ لقد بلغ عدد المحتشدين قرابة مائتين ألفا حسب تقديرات الشرطة النرويجية. فماذا حدث أمام المبنى؟
كلمات موجزة لعدد من المسؤولين ورؤساء الأحزاب، كلها ترفض الجريمة وتتعهد بالاستمرار في المسيرة الديمقراطية. ومن أبلغ الكلمات ما قاله رئيس الوزراء ينس ستولتنبرج: (إنّ الشرّ يمكن أن يقتل شخصا لكنه لا يمكن أن يقتل شعبا)، داعيا الشعب لمواصلة العمل من أجل القيم التي تمنع تكرار ما حدث.
ثم يصعد للمنصة شاب يحمل القيثارة ليعزف ألحانا حزينة، تدمع لها عيون غالبية المحتشدين.
ثم تصعد سيدة أخرى لتغني مقطعا يمجد الضحايا ويدعو للتسامح.
ثم يختتم الحشد بالأغنية النرويجية المشهورة (من أجل الشبيبة) التي كانت قد كتبت إبّان الحرب العالمية الثانية، وراجت كنشيد معاد للنازية، كان يردده أفراد المقاومة النرويجية ضد الاحتلال النازي للنرويج. وكان المقرر أن تبدأ مسيرة الحشد في شوارع العاصمة، ولمّا كان الحشد قد ملأ كل شوارع العاصمة أوسلو، أعلن المنظمون إلغاء سير الموكب لأن وجوده في كل شوارع العاصمة، يكون كأنه قد سار في الشوارع كلها. وبدأ الحشد في مغادرة مبنى البلدية بهدوء حضاري لم يشهد أية مشكلة من أي نوع.
Fri Hug
هاتان الكلمتان تعنيان في اللغة النرويجية (عبطة مجانية) أو (احضنّي مجانا). ونحن نسير نحو مبنى البلدية للمشاركة في الحشد المذكور، وسط شارع رئيسي وقف شاب وشابة في منتهى الجمال والأناقة، يحمل كل منهما يافطة عليها الكلمتان المذكورتان. وفي التقليد النرويجي يعني (تقدّم وضمّني لأحضانك لنعبّر معا عن تضامننا في هذا الحدث الجلل). كنت في مواجهة الشابة الجميلة، فانحرفت قليلا لأحضن الشاب ونبكي معا. شعرت الشابة أنّني تعمدت احتضان الشاب ربما كي لا يساء فهم تصرفي كون ملامحي ليست نرويجية شقراء. فماذا وكيف تصرفت تلك الشابة؟ تقدمت نحوي وشدّتني لأحضانها لتبكي على كتفيّ وتقول لي حرفيا: quot; نحن شعب واحد، نبكي معا، ونفرح معا، وعلينا أن نعمل معا من أجل التسامح والمحبة quot;.
يا إلهي..شعب حضاري في أحزانه وأفراحه
نعم..لقد كان يوم الإثنين الخامس والعشرين من يوليو 2011 من الأيام التي لن ينساها وجدان وعقل الشعب النرويجي. هذا الشعب الذي وقفت كافة شعوب العالم معه في محنته هذه. كم كان مؤثرا قول رئيس الوزراء الدانمركي لارس راسموسن: (إنّ مجزرة النرويج هي هجوم على القيم الحقيقية التي قامت عليها بلداننا. إنّه هجوم علينا جميعا). شعب رائع عظيم في فرحه وحزنه. دموع وزهور وشموع وموسيقى وأغاني فقط. لا هتافات ولا صراخ ولا شتائم ولا تكسير وتخريب كما يحدث في أغلب بلداننا العربية. ولا شرطة مسلحة، ولا أفراد جيش ومدرعات وخوذات مخيفة. فقط رجال الشرطة بدون سلاح إذ يمنع القانون النرويجي رجل الشرطة أن يحمل سلاحا من أي نوع. وسيارات الإسعاف والمسعفين الرسميين ومئات المتطوعين من الصليب الأحمر .
لذلك أدعو الله أن يجنّب هذا البلد المبارك الحضاري، المملكة النرويجية، كل شرّ و مكروه، وليت شبابنا العربي والمسلم في هذا البلد يحاول قدر ما يستطيع نقل هذه التعاملات الأخلاقية الحضارية الإنسانية لبلداننا العربية كي نتقدم خطوة نحو الديمقراطية الحقيقية والإنسانية المتسامحة التي لا تفرّق بين مواطن ومواطن، وصولا لأنظمة يسودها العدل والمساواة. ألا نقول في تراثنا (الدين المعاملة). وبالتالي فأنا أؤيد بالمطلق ما قاله الكاتب والروائي علاء الأسواني (الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين بلا أخلاق). لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال في أحد أحاديثه: (إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقال الله تعالى لنبيه الكريم (وإنّك لعلى خلق عظيم). فلنسأل أنفسنا كعرب ومسلمين عن طبيعة تصرفاتنا وأعمالنا وسلوكنا مع بعض ومع الآخر، ومدى تطابقها مع هذه الأقوال العظيمة ذات المغازي الأخلاقية النبيلة.
[email protected]
التعليقات