يسجّل التاريخ العربي العديد من الأيام والشهور الفاصلة المميزة، وسوف يكون شهر يناير من عام 2011 واحدا منها، لأنه شهد بدايات الغضب العربي ابتداءا من تونس إلى مصر واليمن وغيرها مما سيأتي في الأيام القادمة. هذه التطورات المثيرة التي لم تكن متوقعة، أثارت أغلب عواصم العالم لأنها تعودت من المواطن العربي طوال الستين عاما الماضية السكوت والرضوخ، بل التصفيق للطاغية والمستبد عبر ذلك الهتاف المذل (بالروح بالدم نفديك يا....). فما الذي جرى؟ ما الذي طرأ على شباب السكوت والرضوخ ليصبح اسمهم أو توصيفهم بأنهم (شباب الغضب)، نتيجة هذا الفوران والتضحيات بشجاعة لا تعرف الخوف لا من النظام ولا قوات أمنه وجيشه، بل بالعكس فرضت هذه الشجاعة على غالبية قوات الأمن والجيش أن تقف بعيدا عن الصدام مع هؤلاء الشجعان، لأنها تشعر بالظلم والتعسف الواقع عليهم طوال سنوات طويلة.

فلماذا كل هذا الغضب؟

الأسباب واحدة في كافة الأقطار العربية بدون استثناء مع الاختلاف بنسبة ضئيلة تكاد لا تذكر بين قطر وآخر. هذه الأسباب هي:

1. فقدان التعددية الحزبية الحقيقية

هناك أكثر من قطر عربي ممنوع فيه تشكيل الأحزاب السياسية بشكل كامل، ولا توجد فيه مجالس نيابية (برلمانية)، والدول الأخرى التي تعرف التعددية الحزبية، غالبا فيها صفة من صفتين: وجود حزب السلطة الحاكمة كما في مصر (الحزب الوطني الديمقراطي) أو اليمن (المؤتمر الشعبي العام) أو الجزائر (جبهة التحرير الوطني) أو سوريا حاليا والعراق سابقا(حزب البعث) أو ليبيا (ديكور ما يسمى اللجان الشعبية)، فهي أحزاب شمولية تسيطر على السلطة بشكل مطلق، البلاد والعباد أشخاصا وثروة. أما الصفة الثانية فهي عدم إجراء انتخابات نزيهة في غالبية الأقطار ذات التعددية الحزبية، وبالتالي فالفوز الدائم للمرشحين الموالين للسلطات الحكومية وأحزابها، مما يعني عدم وجود برلمانات قادرة على المحاسبة والملاحقة. وضمن نفس السياق يمكن لأحزاب السلطة الحاكمة المتنفذة إلغاء الانتخابات إن لم تتمكن من تزويرها لصالحها كما حدث في الجزائر عام 1991 بعد الفوز الكاسح للإسلاميين في الانتخابات. ويصاحب سيطرة هذه الأحزاب الحاكمة ظهور طبقة جديدة من الأثرياء غالبا من أعضاء الأحزاب والمقربين من السلطة، وهم ذو ثراء فاحش يدلّ على أنّه نتيجة السرقات والفساد، كما في حالة الملياردير المصري أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، وقد استقال يوم التاسع والعشرين من هذا المنصب، نتيجة مظاهرات الغضب الصاخبة. وكذلك ما يطلق عليها (إمبراطورية آل مخلوف) أخوال الرئيس بشار الأسد في سوريا، التي تقدر بعض المصادر السورية أن رصيد هذه الامبراطورية يزيد عن أربعين مليارا من الدولارات. وكذلك الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وأفراد عائلته، وكما بدأ ينشر عن ملايين زين الهاربين بن علي وليلاه الطرابلسية.

2. سطوة وقمع رجال الأمن والمخابرات

وهي أيضا ظاهرة تشترك فيها غالبية الأقطار العربية، بدت بعض مظاهرها الوحشية في المظاهرات الأخيرة التي شهدتها أكثر من عاصمة ومدينة عربية، نتج عنها تغول الشباب الغاضبين وردودهم العنيفة على رجال الأمن، مما اضطرهم لترك مهماتهم الأمنية والفرار من الشوارع كي لا يواجهوا الجماهير الغاضبة كما حدث في المظاهرات المصرية الأخيرة. إن دور أجهزة الأمن هو حماية المواطن وأمنه في كافة نواحي الحياة، ودور المخابرات العامة هو حماية أمن الوطن الداخلي من أية أخطار داخلية أو خارجية، إلا في غالبية الأقطار العربية حيث دور المخابرات العامة هو حماية النظام عبر التدخل في كافة أمور حياة المواطن، مما حوّل هذه الأجهزة إلى وسيلة رعب وخوف لمجرد سماع المواطن اسمها.

3. قمع ومصادرة الحريات

وانطلاقا من أنّ الأولوية لحفظ النظام المستبد الطاغية، يتمّ مصادرة كافة أنواع الحريات خاصة حرية التعبير، ولا أعتقد انّ هناك دولة في العالم تشهد اضطهادا لحرية التعبير كما هو في الأقطار العربية، حيث يتمّ اعتقال السياسيين والكتاب والصحفيين والمدونين، وتتميز هذه الأقطار بما يسمى (سجناء سياسيين) خاصة في سوريا، ولم يتصور عقل أن يتم قطع كافة أنواع الاتصالات الهاتفية وشبكة الانترنت خلال أيام من انتفاضة الشباب المصري الأخيرة.

4. الواسطة وليست الكفاءة

وهذه من أخطر المظاهر التي يشتكي منها غالبية المواطنين العرب في كافة الأقطار العربية بدون استثناء، إذ أنّه من النادر أن لا يحتاج مواطن إلى واسطة لتدبير أمور حياته اليومية، ومنها التعيين في الوظائف، مما نتج عنه بنسبة عالية (الشخص غير المؤهل في المكان غير المناسب)، بمعنى من لا يحمل أية مؤهلات علمية في موقع يحتاج لخبرات أكاديمية عالية، والسبب أنه من طرف فلان أو قريب فلان المتنفذ. ويسري هذا على إمكانية القفز على الروتين لإنهاء معاملات المواطن اليومية، فمجرد هاتف من فلان ينهي معاملة تحتاج لعدة أسابيع وربما شهور. هذا بينما في الدول الأوربية الديمقراطية، يتمّ الإعلان عن الوظائف الشاغرة والمؤهلات المطلوبة لها وآخر موعد لتقديم الطلبات، ويتم دراستها عبر لجان متخصصة ثم يتم استدعاء من انطبقت عليه الشروط ليوقع العقد إن أراد. وكذلك المعاملات اليومية للمواطن، فكلها تتم عبر شفاقية ونظام لا علاقة له بفلان وابن فلان وهاتف من فلان.

5. الفساد وما ينتج عنه من بطالة

إنّ ظاهرة الفساد جعلت أغلب الأقطار العربية بما فيها السلطة الفلسطينية، تحتل أولويات قائمة الدول الفاسدة في العالم، وهو غالبا فساد محمي من النظام الحاكم أو بعض رموزه، مما أنتج عبر عدم العدالة في التوزيع نسبة بطالة في غالبية الأقطار العربية، ومن بين هذه النسبة حملة مؤهلات جامعية عليا في مختلف التخصصات النظرية والعملية. لذلك تبلغ نسبة الفقر في العديد من الأقطار العربية أكثر من أربعين بالمائة، ونسبة الأمية في المتوسط حوالي ستين بالمائة.

6. التفرقة العنصرية

توجد قوانين في كافة الدول الأوربية والأمريكية تنطبق على كافة المواطنين والمقيمين بغضّ النظر عن أصولهم ودياناتهم. أما في دولنا العربية خاصة في الخليج والجزيرة العربية، حيث ندّعي أننا ننتمي لدين الإسلام، دين العدالة والمساواة، فالمواطن الخليجي يتمتع بمميزات في الرواتب والعلاج والسكن والضمان، لا تعطى نسبة ضئيلة منها لأي مقيم عربي رغم أنّ مؤهلاته وخبرته أرقى من المواطن الخليجي بعشرات المرات، أما لو كان هذا المواطن أمريكيا، فله الأفضلية وامتيازات في بعض الأحيان أفضل مما يحصل عليها الخليجي نفسه. وهناك سؤال مهم يتداوله الشباب العربي في كل الأقطار العربية وهو: لماذا يستطيع المواطن الخليجي من دخول كافة الأقطار العربية بدون تأشيرة دخول، بينما كل العرب محتاجين لتأشيرة لدخول دول الخليج والجزيرة العربية، عبر شروط مستحيلة منها شرط الكفيل الخليجي الذي أصبح تجارة ابتزاز وثراء للبعض.

هذه المظاهر الستة تحديدا،

هي التي أنتجت ثورات الغضب في تونس ومصر والبقية ستأتي حتما، و الشباب العرب لا يريدون من الحكام العرب، سوى إزالة هذه الأسباب وممارسة نقيضها، لتخرج الدول العربية من خانة الدول الفاشلة التي بدأت تدخلها بخطوات متصاعدة حثيثة. وإلا فلن تتوقف ثورات الغضب هذه، إذ بلغ السيل الزبى، وما عاد الانتظار والصبر ممكنا. ويظل السؤال المطروح هو: هل يتعظ باقي الطغاة قبل فوات الأوان، أم سيبقوا في مراكز فسادهم وتسلطهم، ينتظرون مصير زين الهاربين بن علي وليلاه الطرابلسية؟.
[email protected]