كان المجتمع الفلسطيني لسنوات قليلة ماضية سواء في القطاع أم الضفة، تماما كما هو المجتمع الأردني في الماضي والحاضر المعاش، مجتمعات لا تعرف التفريق بين المسلم والمسيحي، يسودها الوئام الحقيقي القائم على أنّ الدين لله والوطن للجميع فعلا وتطبيقا ميدانيا، بدليل أنه لم يعرف المجتمع الفلسطيني والأردني وكذلك السوري أية توترات طائفية على خلقيات دينية. تمرّ أعياد المسلمين ومناسباتهم بهدوء تام وربما فرحة وتهنئة من جيرانهم المسيحيين، وكذلك المناسبات والأعياد المسيحية، حيث تتزين البيوت المسيحية دون أية افتعالات وتوترات من جيرانهم المسلمين. وكم هو جميل وتسامح إيماني أن لا تجد أي شرطي أو رجل أمن على باب كنيسة فلسطينية أو أردنية أو سورية أو لبنانية وغيرها من الأقطار، لأنّ وجود هذا الشرطي لا معنى له سوى الخوف من القتل المتعمد لمخالف لك في العقيدة والديانة. لذلك كانت صدمة مرعبة ما جرى في كنيسة سيدة الرجاء في بغداد وكنيسة القديسين في الأسكندرية.
ماذا حدث في قطاع غزة؟
لقد شهدت بنية وتركيبة المجتمع الفلسطيني الداخلية في قطاع غزة، منذ انقلاب حماس العسكري وسيطرتها على القطاع في يونيو 2006، أي خلال قرابة خمس سنوات، تغييرات جذرية أحيت ثقافة التخلف والتكفير بدلا من التقدم والتفكير، أسهم في ذلك سياسات حماس وبعض ممارساتها الميدانية سواء عن إيمان ديني أم لإحكام سيطرتها الانقسامية الانفصالية على القطاع، رغم ترجيحي إلى أنّها سياسات قناعية من حركة حماس كونها وليدة شرعية للإخوان المسلمين في مصر والأردن تحديدا، فإخوان مصر يمثلون لها دور الأب، وإخوان الأردن دور الأم المرضعة الحنون حتى لو كان هذا الحنان على حساب فلسطينيين أو أردنيين آخرين، بدليل أنّه من الأزمات المتواصلة داخل جماعة إخوان الأردن هو فك الارتباط بحركة حماس أم لا، رغم معرفتهم أنّ كافة قوانين الدول الديمقراطية العريقة لا تسمح لمواطن دولة أن يكون عضوا في حزب دولة أخرى.
أسهمت قوانين وممارسات حماس في القطاع، في تغذية التطرف الرجعي الظلامي الذي فعلا وبدون تحامل على الحركة، يعيد للأذهان والعقول ممارسات طالبان في أفغانستان، مما جعل من القطاع حسب بعض التوصيفات (مشروع إمارة طالبانية). ويكفي التذكير ببعض هذه القوانين والممارسات الحمساوية، ثم نسأل إلى ماذا تقود هذه الممارسات؟ وماذا تغذّي هذه القوانين؟
1. فرض الحجاب والزي الشرعي على المحاميات بما فيهن المسيحيات.
2. فرض زي مدرسي على الطالبات في المدارس والجامعات بما فيه الحجاب ومنع أية طالبة غير محجبة من دخول الجامعة.
3. وضع قوانين وضوابط لمقاهي الانترنت ومحلات بيع ملابس النساء.
4. عدم تحريك قضايا أو ملاحقة لقتلة مجرمين،كما حدث مع قتلة الفتاة يسرى العزامي على شاطىء مدينة غزة في أبريل 2005، رغم اعتراف الحركة أنّ القتلة من كوادرها ولكنهم تصرّفوا بشكل شخصي.
5. عدم ملاحقة قتلة الشاب رامي عياد مدير المكتبة المعمدانية في عام 2007، وظلّ القتلة المجرمون أحرارا بعد قتله ورمي جثته في غابة مجاورة.
6. مهاجمة مدرسة النور المعمدانية في فبراير 2008، وتدمير بعض فصولها وحرق مكتبتها بما فيها من كتب تاريخية أثرية، رغم أنّ غالبية طلاب وطابات المدارس المسيحية في القطاع والدول العربية من المسلمين.
هذه مجرد أمثلة فقط، أما مجموع الاعتداءات المشابهة على مدارس وكنائس ومؤسسات مسيحية فهو أضعاف ذلك، منذ سيطرة حماس باسم الدين وشرعية من الله على القطاع، وهي تمارس كل ما يحلو لها ويضمن استمرار سيطرتها حتى لو كان ذلك عبر تدمير مسجد ابن تيمية في مدينة رفح في أغسطس عام 2009 على رؤوس جماعة الشيخ عبد اللطيف موسى بحجة أنه صاحب جماعة سلفية.
والآن جاء استنكار بعض قرارات محاكم حماس نفسها
كانت محكمة مدنية فلسطينية في القطاع قد حكمت بالإعدام شنقا على المواطن (أسامة زيدان الغول) لقيامه بالقتل العمد من مسدسه لمواطن آخر هو (أكرم العمش) في أغسطس من عام 2009. وهذه قضية جنائية بحتة، اعترف فيها القاتل بجريمته، وحسب القانون السائد في القطاع فقد صدر حكم الإعدام شنقا على هذا القاتل. إلى هنا فالموضوع جنائي قانوني، كان من الممكن مناقشته من خلال سريان الإعدام أم السجن المؤبد مثلا، ولم يكن أحد بما فيهم ربما غالبية سكان القطاع يعرفون أن المواطن القتيل (أكرم العمش) هو مواطن فلسطيني مسيحي الديانة، قبل صدور بيان قتلة إرهابيين بإسم (تنظيم قاعدة الجهاد في أرض الرباط) قبل أيام قليلة، يستنكر حكم المحكمة المدنية في القطاع، لإصدارها حسب بيان هؤلاء المجرمين (الحكم على رجل مسلم بالإعدام وذلك لقيامه بقتل شخص صليبي ينتمي للطائفة النصرانية). من يصدّ ق هذا؟. ويورد البيان العديد من آيات القرآن التي تحضّ على القتل مثل (قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله....)؟ ويوردون في بيانهم حديثا يدّعون أنه للرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر).
ثم تهديد كافة المسيحيين بالقتل أو...
ويخلص هذا البيان الإرهابي الذي تمّ توزيعة بكثافة عبر الانترنت إلى توجيه النداء التالي لكافة المسيحيين في القطاع بقوله: (إننا نوضح بأنّ الحكم الجاري على أهل الكتاب هو القتل أو الدخول في الإسلام أو البقاء في عهد الذمة الذي يخولهم الإقامة في دار الإسلام على وجه الدوام، على أن يحافظوا على العهد والايفاء به).. ورغم ذلك ينتهي البيان الإرهابي بقوله (نوجه رسالتنا في هذا البيان إلى الصليبيين عامة، وإلى هم من في غزة خاصة، بأنهم خرجوا من عقد الذمة مع المسلمين، كما أننا نؤكد على أنّ أي حكم بالقتل سواء صدر في غزة أو في الضفة بحق أي أخ مسلم قصاصا لشخص كافر فهو باطل شرعا وفرعا).
ما المطلوب من حركة حماس؟
إنّ هذا البيان خطير للغاية خاصة أنه يأتي بعد مذبحة كنيسة القديسين في مدينة الإسكندرية المصرية، تلك المذبحة التي أدانتها حركة حماس وحزب الله وجبهة العمل الإسلامي الأردنية والكثير من الأحزاب والتنظيمات والشخصيات الإسلامية، لذلك فإن المطلوب من حماس لمواجهة هذا الصعود للمتطرفين الإرهابيين أيا كان عددهم ومحدودية تأثيرهم، هو العمل السريع الجاد من أجل أمرين:
الأول، هو مواصلة البحث عن هؤلاء القتلة المحرضين ومحاكمتهم، وكذلك الإسراع في تنفيذ قرار المحكمة المدنية الخاص بإعدام القاتل (أسامة الغول) كي لا يكون التأجيل تفسيره الخوف من بيان هذا التنظيم الإرهابي، وكذلك لا بد من إدانة واضحة واستنكار شديد لهذا البيان ومصدريه.
الثاني: هو التجاوب مع مفاوضات انهاء الانقسام الفلسطيني خاصة بعد ثبوت عدم وجود أية فوارق بين برامج حماس وفتح، فكلاهما ينادي علنا بدولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 و يطالب ويناشد ويعمل من أجل التهدئة مع الاحتلال...فعلى ماذا مختلفون إذن سوى المال والسلطة وعوائد الأنفاق؟.
إنه بيان خطير للغاية، يستدعي مواقف سريعة بنفس الأهمية والخطورة، فالكل مسلمون ومسيحيون يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا وذعرا من تداعيات هذا البيان وتأثيراته في عقول ومواقف المتخلفين الذين يحركهم هولاء الإرهابيون بالريمونت كونترول. وكذلك من المهم إدانة هذا البيان الإرهابي من كافة المنظمات والفعاليات في القطاع والضفة والدول العربية.
[email protected]
التعليقات