هل نريدها دولةً مدنيةً أم علمانيةً أم دينيةً أم خلافةً إسلامية ؟؟..
فكرت إن كان علي أن أكون جزءً من هذا الجدل الدائر وأنه يتحتم اعتناق رأي محدد من هذه الآراء، أم أن النقاش من أساسه مبني على باطل وأنه لا يزيد عن كونه تلاعباً بالكلمات والألفاظ دون أن يكون هناك رصيد عملي على أرض الواقع
يقول أبو حامد الغزالي إن من طلب المعاني في الألفاظ ضل وكان كمن يطلب الشرق وهو مستدبره، والصواب هو أن يقرر الإنسان المعنى ثم يضع ما يناسبه من ألفاظ للتعبير عنه
حين يتركز النقاش حول الألفاظ والمصطلحات تضيع الحقائق ونظل في دائرة الجدل النظري دون أي أثر على أرض الواقع..
ومصطلحات من قبيل المطروحة آنفاً (دينية-علمانية-مدنية) ما هي إلا تعبير عن تجارب عايشتها المجتمعات التي نشأت فيها فإذا صدرناها إلى مجتمعات أخرى لا تشتمل على نفس الظروف التي أنبتت شجرتها في بيئتها الأولى وانتزعناها من سياقها الاجتماعي والتاريخي والثقافي فقدت أي قيمة لها، كمثل اقتلاع نبتة من بيئتها وزرعها في بيئة أخرى لا تشتمل على الظروف الملائمة لنموها فتذوي وتموت..
لقد كانت العلمانية إفرازاً لتجربة تاريخية مرّ بها العالم الغربي حين اصطدمت الكنيسة بالعلم فكان لا بد للمجتمع الغربي أن يخوض تجربته للتحرر من هيمنة الكنيسة وسلطة رجال الدين ليكون قادراً على شق طريقه نحو الحضارة والتقدم فتوصل إلى صيغة بإنشاء دولة علمانية تلغي هيمنة رجال الدين وتحصر سلطاتهم داخل جدران الكنائس..
إذاً فقد كانت صيغة الدولة العلمانية إفرازاً لبيئتها التي ولدت فيها، فإذا جاء قوم مبهورون بالحضارة الغربية وأرادوا أن يستنسخوا هذه التجربة بحرفيتها في مجتمعاتنا الشرقية دون أي اعتبار للفروق الثقافية والاجتماعية البارزة بين الحالتين كانوا كمن يعطي الدواء لإنسان صحيح من غير علة بحجة أن هذا الدواء قد تعافى به مريض آخر..هنا لم توجد المشكلة أصلاً، والنظريات البشرية ما هي إلا محاولات لوضع حلول لمشكلات يحس بها المجتمع فإذا لم يحس المجتمع بهذه المشكلة أصلاً لم يكن هناك داع لهذه النظرية..
المجتمعات الإسلامية لا تعاني من هذه الثنائية التي عانى منها الغرب وهي إما دين وإما علم وحضارة. فالعلم في الإسلام من الدين والعلم طريق الإيمان، كما أن طبيعة الإسلام ذاته لا تعترف بوجود فوارق بين الدين والسياسة فالإسلام يضم في تعاليمه منهجاً لإصلاح شئون الحياة كافةً..هذا لا يعني تحكماً من قبل رجال الدين بشئون الحياة كافة، فالإسلام لا يعترف أساساً بوجود طبقة اسمها رجال دين، أي أن الإسلام بطبعه مدني، وتأثيره في كافة شئون الناس ينبع من قدرته على تشكيل هويتهم وبناء شخصياتهم فيظهر أثره في حياتهم الروحانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتشريعية والحضارية، أي أنه روح تسري في كافة مفاصل الحياة..
تأثير الدين في السياسة لا يعني أن يستغل أحد الدين لأغراض سياسية أو يزعم أحد أنه ناطق حصري باسم الدين، ولكن تأثير الدين يأتي كونه أحد أبرز المكونات الثقافية والنفسية للإنسان في المجتمع الشرقي فأثر الدين في حياتنا هو أثر لا شعوري حتى وإن لم يعلن صراحةً عن ذلك، ويمكننا الاستشهاد على ذلك بما نراه من أثر يوم الجمعة في الثورات العربية، فقدرة هذا اليوم بما يمثله من قيمة روحية ودينية على حشد الناس وبث روح الثورة في نفوسهم هو دليل على قوة رسوخ الدين في اللا شعور الجمعي لهذه الأمة، وعلى سقوط أي رهان على انتزاع المجتمعات العربية من هويتها الدينية..
من هنا فإن الدعوة إلى دولة علمانية في بلادنا العربية فيه تناقض مع الذات وتنكر لهوية الشعوب ومحاولة استنبات تجارب الآخرين في غير منابتها، مع تقديرنا لظروف الآخرين التي أوجدت هذه التجربة عندهم..
لكن هل يعني رفضنا لمصطلح الدولة العلمانية في بلادنا أن البديل عن ذلك هو ما يسمى بالدولة الدينية، وهل هي ثنائية حدية إما دولة علمانية وإما دولة دينية؟
هنا يقع نفس الخلل الذي أشرنا إليه وهو انتزاع المصطلحات من بيئتها ومحاولة استنساخها في بيئتنا بشكل مبتور مجتزأ، فالدولة الدينية هو اختراع غربي لم يعرفه المسلمون عبر تاريخهم الطويل، لأن حالة الانسجام بين الدين والدنيا عند المسلمين لم تشعرهم بالحاجة لمثل هذه التصنيفات، ومسارعة البعض إلى ترديد مصطلح الدولة الدينية سواءً من منطلق تبنيه أو حتى من منطلق رفضه فيه إغفال لتميز الحالة الشرقية عن الحالة الغربية، فنحن لا يوجد عندنا أصلاً شيء اسمه دولة دينية، بالمفهوم الغربي، لا يوجد عندنا متحدثون باسم الله، وحتى العلماء عندنا هم بشر يخطئون ويصيبون وليس لأحدهم حق في الوصاية على الناس وفي منح صكوك الغفران لهم وفي التحكم في شئون حياتهم..
إننا نقع في خلل خطير حين نستورد القوالب الجاهزة ونحاول إسقاطها على مجتمعاتنا بحرفيتها فإذا قلنا بأننا نريد دولةً دينيةً فإن الخارطة الذهنية الغربية تتصور ذلك النمط من الدولة الثيوقراطية التي يحكم فيها أشخاص باسم الإله، وإذا قلنا إننا نريد دولةً مدنيةً وإن كان ضرر هذا الجواب أقل في رأيي إلا أنه يعني أيضاً أننا لا نزال أسارى للقوالب الغربية الجاهزة، وصارت مصطلحات الغرب وكأنها مطلقة يجب اعتناقها من جميع البشر دون اعتبار لأي اختلافات وخصوصيات..
إننا بحاجة إلى أن نكون منسجمين مع أنفسنا وذاتنا الثقافية والاجتماعية والتاريخية وأن نوجد الصيغة المناسبة للدولة التي تحكمنا فتحقق هويتنا، وتأخذ بعين الاعتبار أوجه القصور في الصيغ التاريخية الماضية، وتستفيد من تجارب الآخرين لا أن تستوردها في قوالب جاهزة بل تكون عندنا نظرة نقدية وقدرة على ملاحظة الفروق بين المجتمعات والثقافات والحضارات، وألا نجتزئ المصطلحات من جذورها ونحاول تقليدها في بيئتنا بطريقة مبتسرة لأنه لن يكتب لها النجاح حينها..
في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم نجد أنه بعد هجرته إلى المدينة كتب صحيفةً مع أهل المدينة من اليهود وغير المسلمين تقوم على أساس المواطنة وتتضمن مواد دستوريةً مدنيةً لم تكن تحتوي على آيات قرآنية صريحة بل كانت تحتوي على صيغ تطبيقية مثل المساواة والدفاع المشترك والوفاق الاجتماعي وعدم موالاة أعداء الدولة الوليدة..ويمكن أن نستفيد من هذه الحادثة في واقعنا المعاصر بإيجاد دستور مدني يقوم على أساس المواطنة ويشتمل صيغاً تطبيقيةً لا تحتوي مباشرةً على آيات وأحاديث، ولكن المرجعية الإسلامية ستكون حاضرةً في هذا النموذج بقوة بفعل التكوين الديني والثقافي للمجتمع..
والله أعلم
*********
التعليقات