من مفكرة سفير عربي في اليابان

اعتقد البعض بعد ما سمي بثورات quot;الربيع العربيquot;، بأن الثورات وتغير الحكومات ستحل جميع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والروحية التي تعاني منها مجتمعانا العربية. ولم يتصور هؤلاء بأن معالجة تحديات التنمية المعقدة في مجتمع العولمة الجديد يحتاج لتغير مجتمعي ذهني أخلاقي روحي مع تطوير العقل العربي بأكمله. وقد لا تكون الديمقراطية التي يحلم بها البعض، فقط، انتخابات وبرلمانات، بل تحتاج لتطوير ذكاء الإنسان العربي ليستوعب التحديات الاقتصادية والاجتماعية والروحية فيتعامل مع معضلاتها بنجاح. وهنا نحن في حاجة لانتخاب قيادات واعية حكيمة ناجحة، وعلى أسس قيم موضوعية، لا طمعا في إرضاء انفعالات خطباء المنابر، لضمان صك الغفران وبناء قصور في الجنة والتمتع بحورها العين وولدانها المخلدين. وقد تكون من أحد التحديات الاخلاقية المعادية للتالف البشري، ومعرقلة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية هي معضلة انعدام التناغم المجتمعي الاخروي الروحي والدنيوي العلمي. فبعد أن بداء الخالق، جل شأنه، خلق البشر من ادم وحوى أنزل عليهم ألاف الرسل لتنمية سلوكهم الإنساني وذكائهم الاخلاقي والروحي، وذلك لخلق مجتمع بشري يجمع بين العقل المستنير، ليعمل صاحبه لدنياه، وكأنه سيعيش للأبد، باستخدام ما وهبه الخالق، جلت عظمته، من موهبة ذكاء ذهني جسمي اجتماعي عاطفي، وليعمل لآخرته، بذكائه الاخلاقي الروحي، وكأنه سيموت غدا، لتتالف البشر ويتناغم العمل، فينعم الجميع بحياة رغيدة هنيئة مزدهرة.
وقد أكد خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز ال سعود، ملك المملكة العربية السعودية، في الإسبوع الماضي أهمية التناغم البشري في الحوار لتعزيز وترسيخ الوحدة الوطنية، وتحقيق التوافق والإتلاف بين أبناء المجتمع الواحد، داعيا جلالته لللإبتعاد عن التصنيفات المذهبية والفكرية والمناطقية، وتجنب استخدام لغة التصنيف والإقصاء. وقد كرر جلالته أهمية الحوار والتناغم الديني في عدة مناسبات، كما كان قرار جلالته السامي بمنع خطباء المنابر التعرض للأديان والمذاهب المختلفة في شهر رمضان الكريم قرارا مهما، لعلمه بأن الأفضل عند الله هو الاتقى في لسانه وخلقه وسلوكه وروحانيته وحكمته. كما لفت نظري أيضا تكرار قيادات الكنيسة البريطانية أهمية التناغم الروحي العلمي أي التناغم بين العلوم الاخروية الروحية والعلوم الدنيوية العلمية، وتمثل ذلك بترحيبها إعلان بروفيسور جامعة كمبردج ستيفن هوكينغ فرضية ربط الجاذبية بنشأة الكون. فقد عبر تعليق الكنيسة المتزن عن ما حققته قيادات الكنيسة، خلال القرون الثلاثة الماضية، من ثقة بالنفس وإيجابية التعامل مع النظريات العلمية. فقد تقبل رجال الدين بكل ثقة حوارات هوكينغ، وطالبوا: quot;بتجنب اتهام فرضيات نشأة الكون بأنها تهدد العقائد الدينية. بل اعتبروها فرضيات، قد تكون صحيحة أو خاطئة ولكنها تلهم حوارات صحية لمعرفة حقيقة وجودنا وهدفنا في هذا الكون.quot;
وقد حاول البروفيسور هوكينغ في كتابه، التصميم العظيم، الإجابة على السؤال الحتمي لكيفية نشأة الكون من خلال أبحاثه الفيزيائية للعقود الأربعة الماضية ليؤكد بأن: quot;مع وجود الجاذبية استطاع الكون أن ينشأ من العدم. فنشأة الكون السبب لوجود الشيء بدل عدم وجوده، ولماذا نحن موجودين، ولماذا الكون موجود.quot; فيحاول البروفيسور هوكينغ الفصل بين قوانين العلوم الفيزيائية، التي وضعها الخالق، جل شأنه، والإرادة الإلهية. فمثلا، يؤكد قانون الجاذبية بأن انفصال التفاحة عن غصن الشجرة يؤدي لسقوطها على الأرض بسبب قانون فيزيائي مرتبط بالجاذبية الأرضية، وحينما تكون التفاحة في الفضاء الخارجي تبقى معلقة لعدم وجود الجاذبية. فيتصور البروفيسور بأن الخالق، جل شأنه، لا يحاول التدخل في قانون الجاذبية حسب توسل البشر، فلا يمكن بوجود الجاذبية الأرضية أن تسقط التفاحة على الأرض في يوم السبت، وتطير في السماء في يوم الجمعة. كما يرفض البروفيسور هوكينغ شخصنة الإله وربطه بصفات البشر، كما رفض العالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين من قبل شخصنة الإله كما قال مقولته المشهورة: quot;العلم بدون الدين كسيح، والدين بدون العلم ضرير.quot; فمع أن البروفيسور ستيفن هوكينغ ربط نشأة الكون بالجاذبية، ولكن، يبقى السؤال الذي لم يجب عليه: كيف نشأت هذه الجاذبية؟ وهل هناك خالق وراء وجودها؟
وباختصار علمي مبسط، تفترض علوم الفيزياء بأن نشأة الكون بدأت نتيجة انفجار كتلة غازية ملتهبة، وبدرجة حرارة هائلة، تصل لمليارات الدرجات المئوية، وقبل حوالي 13.7 مليار عام. وقد تبعثرت جزيئات هذه الكتلة في مختلف أرجاء الكون، واصطدمت بمضاد المادة الغير مرئية، والمعروفة بالمادة الداكنة الإلهية، ليؤدي ذلك لتشكل سحابة غبار فضائية. وقد أدت الجاذبية لتجمع غبار السحابة الفضائية على شكل جزيئات الكوارك والبوزون، لتتشكل البروتونات والالكترونات، فتكون عناصر المادة، ببدء تجاذب بروتونة واحدة مع ألكترونة واحدة لتتشكل ذرات غاز الهيدروجين. وقد أدت الجاذبية، والحرارة الهائلة، لتجمع ذرات الهيدروجين، لتكوين عناصر الكون الأخرى كالأكسيجين والحديد والسليكا. وقد تجمعت هذه العناصر بفعل الجاذبية، لتكون مليارات المجرات الكونية المكونة من مليارات المجموعات النجمية، ومن أشهرها المجموعة الشمسية التي تعتبر الأرض أحد كواكبها. كما أن تجاذب ستة ذرات من الهيدروجين أدى لتشكل ذرة الكربون، التي تعتبر سر تكوين الكائنات الحية. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن هذه النظريات هي فرضيات علمية، قد تدعمها بعض الحقائق الرياضية والقوانين الفيزيائية، وهي معرضة للمساءلة والخطأ والتغير، حسب تطور العلوم الفيزيائية، كما أنها السبب وراء جميع التطورات التكنولوجية التي نعيشها اليوم من الرحالات الفضائية وحتى التزلج على صفحات الإنترنت.
وقد انتقد القس هاورد فلنت فرضية هوكينغ بقوله: quot;لقد أخفق البروفيسور في معرفة ضرورة التفريق بين كيف؟ ولماذا؟ خلق الكون في نظريته.quot; ويعتقد القس فلنت بأن العلم قد يستطيع ملئ فراغات عدم فهمنا لنشأة الكون، ولكن لا يستطيع أن يبين لماذا وجدنا؟ وما هو الهدف من وجودنا؟ وعلق بالقول: quot;لم أندهش من كتاب البروفيسور هوكينغ، بل شجعني لنكمل الحوار حول وجودنا.quot; وفي الطرف الآخر من الحوار أكد عالم الطبيعة الغربي المشهور، رتشارد داوكين، بأن الحوار حول العلم والمعتقدات الدينية مستمر منذ زمن طويل وعلق يقول: quot;مرحبا بأفكار هوكينغ لإثراء هذا الحوار، فالبنسبة لي، العلم والعقيدة يجاوبان سؤالين مختلفين، فيتساءل العلم: ماذا حدث؟ بينما تتساءل العقيدة الدينية لماذا نحن موجودين؟ ولا أعتقد بأن هناك تنافس بين السؤالين، بل هما سؤالان مختلفان. فبينما يشرح البروفيسور هوكينغ نظرته حول نظرية الانفجار الكبير، ولكني كمسيحي، أرغب معرفة لماذا نحن هنا؟ ولو سئلنا علماء الفيزياء عن سبب وجودنا، فلن نجد الجواب، لأن هذا السؤال ليس مهم بالنسبة لاختصاصهم. ويريد البشر جواب لهدف وجودنا، ولن يجدوا الجواب لذلك بدون وجود الخالق، ولذلك أسأل البروفيسور هوكينغ: أين سيذهب البشر لمعرفة هدف وجودنا، إن لم يذهبوا لخالق الكون؟
وقد علق القس مارك برون، الذي درس العلوم الكيماوية الفيزيائية قبل دراسته للدين، بقوله: quot;أنا مسرور لنقاش هوكينغ عن الكون، ولكن سيبقى السؤال لماذا؟ وللإجابة على هذا السؤال نحتاج للانتقال لمرحلة رفيعة للتعرف على فلسفة نشأة الكون. ولا أعتقد بأن أفكار هوكينغ خطيرة على عقائدنا الدينية لأنها تلهم الحوار، فمن المنطق أن يفترض العلم بسطحية بأن لا حاجة لنا للرب، ولكن أعتقد بان علينا أن نفكر لماذا، حينما نسأل كيف نشأ الكون. وفي مرحلة متقدمة وعميقة من الحوار سيعزز شراكة تناغم العلم والعقيدة الدينية أحدهما الآخر، وأنا لا أعتقد بأن العلم سيجاوب على سبب وجودنا بل نحتاج لمرحلة سامية لنجاوب على معنى الحياة وسبب الوجود.quot;
والجدير بالذكر بأن البروفيسور هوكينغ مصاب بشلل شبه كامل، وقد طورت جامعة كمبردج طريقة تكنولوجية خاصة لكي يتواصل مع عالمه الخارجي بالمحادثة والكتابة. وهو أستاذ للعلوم الفيزيائية منذ أربعة عقود، وقد أستلم كرسي الأستاذية للعالم البريطاني إسحاق نيوتون، مكتشف الجاذبية الأرضية. وقد ربط البوفيسور نيوتون قدرة وجود الجاذبية بقدرة الخالق جلت قدرته، وقد عبر عن ذلك بقوله: quot;الكون محكوم بقوانين علمية فيزيائية، وقد تكون هذه القوانين إرادة إلهية ولكن لا يتدخل الخالق جل عظمته لتغيرها كل لحظة حسب رغبات خلقه. فهناك مفارقة أساسية بين الدين والعلم، فالدين مرتبط بالمرجعية والثقة، بينما يعتمد العلم على الملاحظة وعلوم المنطق، ومعرض للمساءلة والتغير.quot;
تلاحظ عزيزي القارئ بأن المتحدثين في هذه الحوارات لم يكفر أحدهم الآخر، ولم يتكلموا باسم الدين، بل تحدث كل منهم عن عقائده الدينية، والتي تختلف بين نظرة إنسان وآخر، لتتطور الحوارات الدينية في الغرب خلال القرون الثلاثة الماضية. ولنتذكر كيف تعامل رجال الدين مع العالم الإيطالي، جاليليو في القرن السابع عشر حينما أكد من جديد، بأن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية، وبأن الأرض ليست مركز الكون. ويبقى السؤال: هل ستستفيد مجتمعاتنا العربية من هذه النقاشات لتطوير حوارات متزنة تخلق تناغم بين العلم والعقائد الدينية، لتطور عقول متفتحة، غير متعصبة أو متطرفة، فتغني الثقافة المجتمعية الروحية العلمية، وتثري الدين والعلم؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان