ما كُنا نظنه خيالًا علميًّا في السابق أصبح اليوم حقيقة علمية. وما كُنا نعتقد أنه جامدٌ قد دبَّت فيه الحياة، وما كُنا نراه عديمَ العقل يُوشِك أن يتفوق على العقول البشرية. على مدار السنوات الأخيرة، تمكَّنت التقنية من التفاعل مع العقل البشري بشكلٍ مباشر؛ لفهم أفكارنا ومشاعرنا، وتقييم صحتنا الحالية، والتنبؤ بالأمراض التي قد تُصيبنا في المستقبل، ومعرفة ما يُسعدنا وما يُزعجنا.

تقدَّمَت التكنولوجيات الرقمية بسرعة تفوق أي ابتكار آخر في تاريخنا؛ حيث بلغت نسبة انتشارها نحو 50 بالمئة بين سكان العالم النامي، في مدة لا تتجاوز عقدين من الزمن. لقد أحدثت هذه التكنولوجيات تحوُّلًا كبيرًا في المجتمعات، من خلال تجميع البيانات والذكاء الاصطناعي؛ مما ساعد على تتبُّع المشكلات وتشخيصها في مجالات؛ مثل: الزراعة والصحة والبيئة، بالإضافة إلى تسهيل المهام اليومية؛ مثل: إدارة حركة المرور أو دفع الفواتير.

وتُفيد الأخبار الجميلة ُ بأن التطور الطبي أصبح يُضيف خمس سنوات جديدة لعمر الإنسان في كل عِقد؛ لذا سيصبح سن التسعين قريبًا مثل الستين. وسنشهد في المستقبل القريب تغييراتٍ جذريةً في أسلوب حياتنا وعملنا. المستقبل الرقمي لم يعُد مجردَ فكرة؛ بل أصبح واقعًا يتشكَّل أمام أعيننا، ويُخبئ في طياته آفاقًا - لا حدود لها - لتحقيق النمو والازدهار.

ما يحدث اليوم، هو التدفق القوي للسيول من الاختراقات التكنولوجية التي تقوم بتعطيل الأنظمةَ القديمةَ في جميع أنحاء العالم. بينما تسهم الابتكارات؛ مثل: تحليل البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، وسلسلة الكتل، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والواقع الافتراضي، في تغيير الطريقة التي تعمل بها المجتمعات والاقتصادات. ومن الواضح أن التحول الذي نواجهه أكبر من أن تتمكن أي دولة أو منظمة من إدارته بمفردها. جميعنا نُشارك في مخاطرةٍ تتعلق بشيء مُشترك: هو (مستقبلنا).

بالمقابل، قد يكون التأثير الناتج عن الثورة الرقمية أكثر دراماتيكية؛ فقد تندلع حروبٌ وثوراتٌ، وتتعرض قيمٌ للخطر؛ مثل: الإنسان والحريات المدنية للخطر، ويمكن أيضًا استخدام هذه التكنولوجيات للدفاع عن حقوق الإنسان وممارستها؛ لكنها قد تُستغل في انتهاك تلك الحقوق، من خلال رصد تحركاتنا ومشترياتنا ومحادثاتنا وسلوكياتنا.

ستتغير الحياة - بشكلٍ جذري - عندما يحصل الإنسان على (الجينوم) الخاص به، مخزنًا على شريحة صغيرة في هاتفه المحمول. ومن خلال هذه التقنية، سيكون بإمكانه إجراء تشخيصٍ شاملٍ لكل العلامات الحيوية لجسده. وعند استيقاظه من النوم، ستصله رسالة على هاتفه تُوضح حالتَه الصحية، وما إذا كان بحاجة لزيارة طبية، وسيجد أن موعده مع الطبيب قد تم تحديده سابقًا. وعندما يذهب إلى السوق المركزي، سيقوم هاتفه بمسح كل منتج يضعه في عربة التسوق، ويُصدر على الفور تنبيهًا للأشياء التي لا تتناسب مع صحته.

إقرأ أيضاً: هيْبةُ الكلمة

ما يُستثمر اليوم على مستوى العالم في الذكاء الاصطناعي يتجاوز بكثيرٍ ما يُستثمر في التنقيب عن النفط. ويُعَدُّ الاستثمار في الذكاء الاصطناعي استثمارًا في المستقبل، كما فعلت شركتا (جوجل) الأمريكية و(بايدو) الصينية؛ حيث استثمرتا بين (30 إلى 40 مليار دولار) فقط في قطاع الذكاء الاصطناعي.

إنهما تُدرِكان أن "نفط المستقبل" هو (البيانات)، لذلك يتوقع أن يُساهم الذكاء الاصطناعي في إضافة أكثر من (15 تريليون دولار) إلى الناتج الإجمالي العالمي بحلول عام (2030)، وهو ما يُعادل أكثر من عشرة أضعاف مبيعات النفط على مستوى العالم.

هذا ما أشار إليه اثنان من الباحثين المستقبليين في شركة (جوجل)؛ حيث قالا: إنه سيكون بالإمكان بحلول عام (2045) تحميل ونقل عقل الإنسان إلى الشبكة المعلوماتية؛ مما يعني أن كل هذه المعلومات والبيانات ستصبح ملكًا لشركات معينة. وبالتالي، ستصبح هذه الشركات أقوى بكثير من الدول بفضل امتلاكها لهذه البيانات.

إقرأ أيضاً: الحرية الرقمية الخادعة

ومع ذلك، هناك من يقول: إن الآلة الرقمية، بعد أن استطاعت استدراجَ الإنسان إلى عالمها، أصبحت تَنفُذ إلى سلوكه البشري لتقيم علاقة مع عمقه النفسي؛ مما يؤدي إلى إعادة تشكيله بطريقة تفاقمت معها سلوكيات، كان من الأفضل تركُها أو الحد منها. فمع هذا التطور الرقمي، تزايدت رغبة الناس في تتبُّع هفوات الآخرين وفَضْحِهم، وتلفيق الأكاذيب ضدهم، والتجسس عليهم، وتوثيق الفضائح والعداوات بشكلٍ رقمي لا يسمح بنسيانها؛ مما يعوق رغبتهم في الصلح واستئناف العلاقات الإنسانية التي تقوم على تجاوُز الإحن والأحقاد.

ومهما كان من أمر، ففي ظل الحضور الفاعل للعالم الرقمي في حياتنا؛ يواجه العقل العربي تحدياتٍ كبيرةً لاستكشاف هذا العالم برؤية مستقبلية، والتفاعل معه بطريقة علمية تسهم في تجاوُز تناقضات البيئة العربية وثقافة القبائل والطوائف، وتُؤسَّس أفكارٌ جديدةٌ لعقولٍ رقمية مبتكرة.

مع الأسف، لا يزال شبحُ المستقبل يُرعبنا، وتُحبطنا منجزاته وعواصفه الرقمية القاسية. وما علينا سوى الإيمان بالحكمة التي تقول: "توقَّع الأفضلَ واستعِدَّ للأسوأ.