لا يُواجه المرء صعوبة في رؤية حالة المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث تبدو هذه البيئة وكأنها مكانٌ لانتهاك الحريات والخصوصيات، وليست مساحةً للحرية الحقيقية؛ فنرى السبّ والقذف المتواصليْن بين مختلف الأطياف والأحزاب، وحتى بين مشجعي أندية كرة القدم! كما نُلاحظ تزايُدَ ظاهرة سرقة المحتوى وإرجاعه إلى غير مالكه، بالإضافة إلى التجسس على خصوصيات الآخرين ونشرها أو التشهير بهم؛ وبالتالي، فنحن لا نرى مواقع التواصل بيئة مثالية للحرية، رغم أن الفضاء الافتراضي فيها يوفر حرياتٍ أكبر؛ مقارنة بالواقع الذي نعيشه في أوطاننا العربية.
عندما تتجول في شوارع وحارات هذه المواقع الرقمية، ترى كل شيء؛ جرحى وجثث الموتى، ومرضى مهووسين بحب الذات، وساديين يتلذَّذون بعذاب الآخرين. نشهد بشاعة الإنسان كما نشهد بشاعة الحوادث. فالبشر يتغذى بعضهم على لحم بعض، يحدث ذلك بطرقٍ لا تخطر على البال. بينما الإنسانية تحوَّلت إلى الحيوان؛ نرى القط يلعب مع الفأر، والكلب مع الطائر في هذا الزمن العجيب!
المشكلة الحقيقية لا تزال قائمة؛ نحن أمام جيلٍ بمجرد أن يفتح الطفل منهم عينيه على الحياة، يجد نفسه يمتلك هاتفًا محمولًا كرفيقٍ دائم، يعتز به أكثر من أقاربه؛ بل وحتى من والديه وأسرتِه! ومنذ صغره، بدأ يلعب مع الأصدقاء الافتراضيين في ألعاب الفيديو؛ مما جعله يتحول إلى إنسان آلي؛ في تفكيره، وفي علاقاته الاجتماعية.
هناك أيضًا مرحلة الانتقال للعيش في بيئة تنتشر فيها التفاهات والدجل وصراع البطولات (الزائفة) وأمراض العظمة الفردية؛ حيث يجد الفرد نفسه تائهًا عن أسرته ومدرسته وجامعته ومجتمعه؛ فيعيش وكأنه مغترب، مصابًا بصدمة الدهشة، مهووسًا بأحلام اليقظة، وكسولًا في تناوُل المعرفة، ويبقى نائمًا في سرير الخداع والتضليل والأضواء الكاشفة (القاتلة)!
ومن هنا بدأت مشكلة الحرية على الإنترنت، وقياس مساحتها وحدودها القانونية والإنسانية، حيث تُنتهك هذه الحرية في العديد من البلدان. فواحدٌ من كل ثلاثة مستخدمين للإنترنت في العالم لا يتمتع بها بحرية ودون قيود. وهنا أيضًا يبدأ قياس المستخدم، الذي يُعد أحد أهم عناصر التقييم لفهم حقيقة هذه الحرية، فقد شاع في المجتمعات العربية -على وجه التحديد-عدم قدرتها على التعايش مع بيئة حرة كما ينبغي.
تتمثل المشكلة في بحث الضوابط المهنية للإعلام الرقمي؛ حيث لا يمكن تجاهُل معايير التقنية الرقمية، التي أصبح إتقانها جزءًا من المهنية العالمية في العصر الحديث. كما أن هذه المعايير قد تجلَّت في الإعلام الرقمي بصورة مضمونيه، توضح صحة المعلومات وصدقيتها وموثوقيتها، من خلال الروابط والنصوص الفائقة والوسائط المتعددة وغيرها، وخاصة في ظل انتشار الشائعات عبر أدوات الإعلام الجديد.
لا تزال هناك تحديات رئيسة متداخلة، تواجه الدول العربية في تعزيز حرية الصحافة والاتصال في العصر الرقمي؛ يتمثل التحدي الأول في: حماية الإعلاميين؛ حيث لا تزال حالات الاعتداء والقتل ضد الصحفيين مسجلة. كما يوجد تحدٍ ثانٍ يتعلق بالتعددية: إذ لا مستقبل لإعلام حر في غياب تعددية حقيقية، وليس مجرد تعددية شكلية أو سطحية أو نمطية. فالتعددية في الإعلام تعني تعددية تيارات الفكر والرأي، إضافة إلى التعددية اللغوية والثقافية والسياسية التي تعكس الجوهر الحي للديمقراطية.
أما التحدي الثالث، فهو يتعلق بما يُعرف بالسلامة الرقمية، وهي قضية طرحتها منظمة اليونسكو في الآونة الأخيرة بوضوح شديد. يرتبط هذا الموضوع بسرية البيانات الشخصية، ومكافحة القرصنة، وحماية الملكية الفكرية، والحفاظ على الخصوصية، ومناهضة الترويج للعنف والتمييز العنصري.
إقرأ أيضاً: ثقافة التفاخر بالفساد
من هنا، ظهرت مفاهيم جديدة لتنظيم الإعلام، تتجاوز فكرة تنظيمه من قِبَل الدولة، وتقدم بديلًا ثالثًا يتمثل في التنظيم الذاتي ضمن إطارٍ أوسعَ؛ هو حوكمة الإعلام، حيث أصبحت هذه الحوكمة مدخلًا واعدًا لإدارةٍ أو تنظيمٍ مشترك للإعلام، حيث يشارك فيه أفراد من المجتمع لوضع سياسات لمراقبة ومحاسبة وسائل الإعلام المختلفة. كما تُتاح الفرصة للفاعلين المدنيين في المجتمع للمشاركة في عملية صياغة السياسة الإعلامية.
رباط الكلام، إن العناصر الثلاثة: القانون، الحرية، والأخلاق الإعلامية لا تتساوى في الأهمية؛ لكن غياب أحدها يهدد رسالة الإعلام وفاعليته. فمن دون الحرية؛ يصبح محتوى الإعلام مجرد بيانات رسمية، ومن دون قوانين؛ تصبح المهنة مفتوحة وبلا حماية؛ مما يعرضها للتجاذبات. وأما في غياب الأخلاق؛ يصبح الإعلام متهاويًا؛ فتتراجع الضوابط وينهار الدور الأساسي للإعلام كمراقب وناقد للخطر.
إقرأ أيضاً: العلم للجميع
للأسف، أصبحت الحرية الرقمية الزائفة واقعًا لبعض مَن عانَوْا من الكبت والاضطهاد السياسي والاجتماعي، كما تحوَّلت إلى وسيلة للهروب من الواقع المرير، والإحباط في الحياة، وفقدان الأمل في المستقبل. لذا، أصبحت الحرية بمثابة تنفيس للذات المقهورة والمريضة، أو ملاذًا للتفاخر والشهرة؛ مما أدى إلى امتلاء المواقع بالتفاهات والخرافات، وانتشار مشاعر الكراهية والتشهير، والرغبة في الانتقام.
إن الأمر الأصعب -من هذا وذاك-، هو أن يفقد الإنسان شعوره بلذة نجاحه وحكمة عقله، بينما يستخف بآلام الآخرين، دون أن يدرك أنه يعيش في عصر حرية التفاهات الرقمية؟!
التعليقات