منذ أن بدأ الشارع المصري بالتحرك في مواجهة نظامي حسني مبارك ومحمد مرسي، كان المتظاهرون الشباب يحملون رمزهم المتمثل برفع صور جمال عبد الناصر!!..

فيلم (ناصر 56) قال لي مؤلفه وكاتب السيناريو الصديق محفوظ عبد الرحمن: أن نسبة الشباب ممن أقبلوا على مشاهدة هذا الفيلم الذي تم انتاجه بعد أربعين سنة من رحيل القائد الخالد، نسبة الشباب الذين شاهدوه تتجاوز الثمانين بالمئة!!.. فما هو السر؟!..
* * *
bull; في مدينة الرياض، وفي منزل الصديق والكاتب والمثقف الدكتور أنور الجبرتي، حضرت حفل عشاء ضم مجموعة من المثقفين والاعلاميين والفنانين، وقد حضرت وبصحبتي ولدي أمجد، وكان من بين الحضور الفنان جمال سليمان، الذي بادرته بالقول: لاشك أن أبيك الذي أطلق عليك اسم جمال كان معجباً في الخمسينيات بالقائد المصري جمال عبد الناصر؟!.. لم يُجب بالنفي ولكنه أخذ ناصية الكلام، وبدأ يتحدث عن سلبيات عبد الناصر، وكيف أنه كان سبباً في كل الهزائم العربية، إلا أنه مات شريفاً!!.. ونحن في وضعنا المتردي ندفع فاتورة أخطاء عبد الناصر!!.. تصدى له البعض بردود متفاوتة ومتقاطعة، وبين الرفض والقبول حول هذا الموضوع استمر الحوار لفترة، الى أن طلب مني ولدي أمجد أن يُسمح له بالكلام ليُدلي بدلوه في هذا الموضوع.. فتحدث الى الفنان جمال سليمان بحديثٍ أثار دهشتي ودهشة بعض الحاضرين، مما احتوت عليه مداخلته من آراءٍ تتعلق بالظروف الموضوعية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في مرحلة قيادة عبد الناصر، رغم أن أمجد لم يعاصر تلك الفترة!!..
bull; ولما اختليت بولدي سألته: لماذا تحب جمال عبد الناصر الى هذا الحد، رغم أنك لم تعش فترة ازدهار رواج الحقبة الناصرية؟!.. أجابني: ليس من السهل أن أجيبك شفاهةً، ولكنني سأكتب إليك ردي على سؤالك.. وبعد فترة وصلتني رسالة وأنا في لندن من أمجد في الكويت يوضح لي فيها لماذا هو يحب جمال عبد الناصر!!..
quot; والدي العزيز:
bull; بصدقٍ أقول: إن هذا أصعب سؤال طُرح عليَّ!!.. فدرجة الحب عندي لهذا الرجل لا توصف، ولا يمكن للكلمات مهما كان وزنها أن تعبر عن مشاعري وأحاسيسي تجاه هذا العملاق!!.. فمنذ صغري مروراً بمرحلة شبابي لم أكن أعرف شيئاً عن الأمور السياسية، وإن كان إعجابي بهذا الزعيم قد ارتبط من خلال ما كنتُ أسمعه منك يا والدي وأنتَ تتحدث عنه بإعجاب ملحوظ.
bull; وفي عام 1985 مررت بتجربة أثناء المراحل الدراسية في أمريكا، عندما قمت برحلة طفت من خلالها بالولايات المتحدة الغربية، فإذا بي أخرج من كاليفورنيا، وأدخل الى أريزونا، ومنها الى يوتا، ومن ثم نيفادا، وغيرها من المدن دون جواز سفر أو الوقوف عند نقاط التفتيش الحدودية!!..
تجربة بسيطة كهذه جعلتني أتساءل: لماذا لا نتمتع بهذه الميزة في وطننا العربي؟!.. وهنا بدأت أولى مراحلي مع مفهوم الوحدة العربية، فعكفت على قراءتها ودراستها، كما قرأت للمفكرين القوميين ممن يستمدون تنظيراتهم من التجربة الناصرية، فوجدت بعد ذلك في جمال عبد الناصر أنه القائد المجسد للطموحات القومية عند الملايين من العرب الذين أحبوه لدرجة العشق، فغدوت واحداً منهم!!..
وكم كان صادقاً شعب مصر ndash; في تشييع جنازة نجله خالد ndash; يوم هتفوا:
(يا خالد بلغ أبوك... كل الناس بيحبوك).
ولا أنسى بهذا الصدد ما قاله الجواهري في رثائيته العظيمة لعبد الناصر:
(أكبرت يومك أن يكون رثاءَ...... الخالدون عهدتهم أحياءَ)!!..
وعبد الناصر كان وسيبقى أنقى ذكرى في نفوس الشرفاء من أبناء هذا الوطن.. لأنه عاش نظيف اليد، وشريف المقاصد والأهداف، فأحبه الشعب العربي، وعشقوا الزعامة في شخصه.. رغم أن الذين جاءوا بعده ساروا على نهجٍ كان يهدف أول ما يهدف الى طمس انجازاته العظيمة!!.. فقاهرة عهده التي كانت عاصمةً لثوار شعوب أفريقيا وآسيا، وشعوب أخرى كانت تناضل من أجل عزتها وكرامتها، قد جعلوا منها عزبة لحفنة ممن لا ضمير لهم!!..
ثم التفتوا الى تسطيح وتهميش انجازاته العظيمة!!..
bull; فالسد العالي: قد زعموا أنه مضر للشعب المصري، حيث كتب علمائهم الجيولوجيون: بأن السد العالي قد تسبب في إعاقة الفلاحة المصرية، مؤكدين أضراره على طمي الشواطئ!!.. ولكن الشواهد العلمية أثبتت عكس ذلك التهريج!!.. فلولا بناء السد الذي شُيد بسواعد المصريين لكان مصير مصر مثل بقية الدول الإفريقية التي أصابها الجفاف!!
bull; وبحيرة ناصر للأسماك قالوا: أنها لا تُنتج أسماكاً بالمستوى المطلوب، وثبت بطلان ذلك الادعاء، حيث لاتزال بحيرة ناصر مصدراً مهماً من مصادر الثروة السمكية في مصر!!
bull; ثم تمت على أيديهم جريمة كبرى يوم أجهزوا على الحالة الاقتصادية التي تمت في عهد جمال عبد الناصر، فخصخصوا القطاع العام بحجج الانفتاح الاقتصادي، فكان ذلك الأمر بمثابة أُم الكوارث التي جعلتهم يسرقون شرعاً ما كان يمكن أن يضع مصر على خارطة الدول المتقدمة صناعياً واقتصادياً!!.. واقتسموا جهود الغالبية العظمى من مقدرات الانسان المصري.. حيث قصروها على حفنة من المليارديرات اللصوص تحت حماية كبار المسؤلين في الدولة لتتخم خزائنهم بالمليارات، بينما غالبية أبناء الشعب تعيش على الكفاف، وتسكن في المقابر!!..
وكانت النتيجة المنطقية أنهم يقبعون الآن وراء القضبان، بعد أن طفح كيل الإنسان المصري، فقام بكسر حواجز الرعب التي بثوها، لتُعاد الأمور الى نصابها على الأسس والقيم التي رضعها أبناء مصر على امتداد تاريخهم!!..
bull; ثم ثاروا على المسرحية الفاشلة التي أرادها الاخوان المسلمون أن تُمثل على مسرح الحياة المصرية، لكن الذين رفعوا صور عبد الناصر رمزاً لتحركهم أقفلوا الستار، وطردوا الممثلين لأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً رغم الثمانين سنة من تاريخهم القائم على تمثيل الكذب والزيف والدجل باسم الدين!!..
bull; وهناك من حاول أن يُظهر عيوباً في مجانية التعليم، ويزعمون: أن ذلك القرار قد أفسد الحياة الأكاديمية في مصر، إذ إنه أتاح فرصاً للعوام من السوقة والدهماء في حمل الشهادات العليا، ولهذا فإنهم قد فتحوا المجال على مصراعيه للجامعات الأجنبية أن تفتح لها فروعاً في مصر من أجل عودة نخبوية التعليم، وقصره على أولاد الذوات ممن عبّوا جيوبهم من سرقة أموال الشعب المصري، باعتبارهم متميزين عن سواهم ممن اسموهم بالسوقة والدهماء..
وكم كان أحمد زويل رائعاً عندما أعلن أنه لم يصل إلى ما وصل إليه، لولا مجانية التعليم!!..
bull; وشعار عبد الناصر الذي رفعه: (إن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة)، فتولى بنفسه إعادة بناء القوات المسلحة بعد أن تم تطهيرها واستئصال جميع عوامل الضعف منها، حيث كرَّس لها كل جهده في سنوات ما بعد النكسة.. انتظاراً الى قطف ثمار يوم النصر العظيم، والذي كان واثقاً من حدوثه لا محالة.. ولم يمهله القدر لمشاهدة تنفيذ مشروعه الذي أوصله الى مرحلة كبيرة من النضج، بحيث تم تنفيذه بعد سنتين من رحيله على أيدي أبناء مصر الأبطال، وكان نصراً عظيماً شهده العالم كله عندما قام الجندي المصري بإنزال العلم الصهيوني من على الحدود المصرية!!..
bull; ولكن ndash; ويال المفارقة ndash; فقد جعلوا من هذا النصر العظيم الذي قطفوا ثماره وقدموه هدية لأشد أعداء العروبة!!.. وإذا بالعلم الاسرائيلي الذي اقتُلع من الحدود المصرية، عاد مرة أخرى ليرتفع فوق سماء عاصمة العرب - القاهرة - تحت ذرائع ومسوغات ما أنزل الله بها من سلطان.. لعب فيها عراب الصهيونية هنري كسنجر دوراً كبيراً، فتم تكبيل مصر العزيزة بمعاهدات.. وقد تم كل ذلك بإجتهادات كارثية اجتهدها من جاءوا بعد رحيل القائد عبد الناصر.
bull; ولكن حتمية التاريخ لا تقف طويلاً أمام هذا الاجتهاد والسذاجة الكارثية السياسية بحجة استتباب السلام في المنطقة، وعودة سيناء، فقضيتنا مع الصهيونية العالمية، ومواجهتنا للاستكبار الامبريالي هي ليست عودة شكلية لأراضي سيناء، إنما هي فلسطين برمتها!!..
أمام هذا كله نجد أن شباب مصر قد قاموا بثورتهم المجيدة وهي تتمة للانجازات التي حققها العهد الناصري.. ومن الآن فصاعداً فإن الشباب لا يرتضون لمصر:
bull; أن يحكمها لص زائف يحيط نفسه بلصوص يقبعون الآن في مكانهم الطبيعي!!.. فمصر لا يحكمها مستقبلاً إلا من كان شريفاً.. وإلا فإن التاريخ ndash; كما نراه الآن - لهم بالمرصاد!!... كما كان قبل ذلك بالمرصاد لكل من سولت له نفسه أن يتاجر بالثوابت المصرية، ولا أستثني من هذا أحداً حتى من قُتلوا في المنصة!!..
bull; أما الذين رفعوا راية الاسلام.. وهي كلمة حق يراد بها باطل!!.. فقد كشفهم شباب مصر!!.. وهم بدورهم كشفوا الأقنعة عن وجوههم، إذ أنهم لازالوا مستمرين في تدمير هذا البلد العظيم!!.. وثبت بما لا يُعطي مجالاً للشك أنهم على اتصال دائم منذ نشأتهم عام (1927) في الاسماعيلية بأجهزة الاستخبارات البريطانية، وما دفاع البيت الأبيض عنهم ndash; حالياً- وإيقافه امداد مصر بالمساعدات، إلا دليلاً على عمالتهم للأمريكان، وقد كشفت الدلائل المؤكدة هذا من خلال تعاملهم مع سفيرة أمريكا في مصر أثناء تلك الحقبة السوداء التي استمرت لسنة واحدة فقط، حطمت مصر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً!!.. فهؤلاء يُذكرونني في التاريخ الاسلامي الأول بعبد الله بن أبي سلول، بل إنهم أشد نفاقاً منه!!..
والدي العزيز:
حديثي عن هذا القائد الفذ يجعلني في حالة من الارتباك في اختياراتي لما أريد أن أبثك إياه عنه، فتزاحم الأفكار وتدفقها تحيل بيني وبين ما يعتلج في صدري من خواطر تشتمل على الكثير من الأحداث التي مرت علينا منذ رحيل هذا البطل الشريف.. فهناك من لا يدرك، ولا يريد أن يدرك أن التجربة الناصرية، هي ليست تجربة شخص اسمه جمال عبد الناصر، وإنما هي تجربة أمة آمنت بقيادة رجل جاء حاملاً مشروعاً عنوانه وحدة العرب، وعزتهم، وكرامتهم، واجتهد في تجسيد ذلك المشروع عملياً، لكن قوى الشر في الداخل والخارج وقفت في مواجهته، مستخدمةً كل أنواع الخسة، والنذالة، والحقارة، لإفشال مشروع وحدة العرب!!.. لنصل في النهاية الى وضع هو أسوأ وأحط الأوضاع فوق هذا الكوكب!!..
bull; وهناك نفرٌ ممن يفتقدون إلى أبسط أبجديات العمل الثوري والسياسي، يخوضون جهلاً في تجارب عبد الناصر القومية في العديد من البلدان العربية، وتحديداً أثناء ثورة اليمن، ليستخلصوا في النهاية نتيجةً مفادها: أن عبد الناصر قد ارتكب خطأً عندما تدخل في اليمن!!..
فلو أن هؤلاء يدركون الأهداف الرامية الى تحررهم من ربقة الذل والعبودية، لما ظلوا مكبلين بها حتى الآن..
bull; وهناك جانب آخر في هذا الموضوع، فلو أن أولئك النفر ممن ينتقدون عبد الناصر قد بحثوا ونقّبوا عن الأسباب الحقيقية التي أدّت الى فشل التحرك العروبي الوحدوي الذي كان يقوده عبد الناصر، لتبين لهم أن وراءه عدة جهات وقوى اقليمية وعالمية هدفها عدم تحقيق وحدة العرب، ليظلوا أذلاء ضعفاء لا ينعمون بالحرية ولا الكرامة وهذا ما تحقق لهم!!!..
bull; والدي العزيز:
لعلي أجبتك بالقليل القليل مما أحمله من حب لهذا القائد الشريف.. ولديَّ دراسة سوف أنشرها ndash; أتناول فيها من هم المتسببين الحقيقيين في نكسة حزيران 1967، وفيها تأكيد واثبات أن الذين جعلوا من اليمن وسيلة لاضعاف مصر، وجعلوا من الحرب تستمر لسنوات بعد أن كان مقرراً لها أشهراً، لتمكين الضباط الأحرار الذين ثاروا على الامام أحمد المتخلف، ثم يستتب الأمن في اليمن!!.. فمن هو الذي جرَّ مصر لجعل الحرب تستمر الى سنوات، وجعل أرض اليمن مقبرة لآلاف الجنود المصريين؟!.. ثم بعد ذلك تستغل القوى التي تناوىء الفكر القومي لجعل اسرائيل تضرب ضربتها في 1967؟!.. ثم وبعد ذلك يتحمل عبد الناصر وحده أسباب هذه الجريمة التي ارتكبها سواه!!.. الدراسة ستكون على شكل كتاب، أتمنى أن يصدر قريباً بعد أن أحصل على بعض الوثائق التي سيُفرج عنها بعد مرور سنوات من حجزها في الدوائر الغربية والأمريكية!!..
وتقبل يا والدي كل تقديري واحترامي
ولدك أمجد.
* * *
bull; إذاً عليك يا أمجد أن تتحمل عبء ما سوف تتلقاه من تعليقات قد أصبحت (stereo type) - أي النمطية - التي يأتون عليها كلما جاءت سيرة عبد الناصر، مثلما فعل الفنان جمال سليمان من أنَّ ناصر سبباً لكل هزائم العرب!!.. أو نحن ندفع فاتورة أخطائه!!.. الخ.. من هذه الاسطوانة المشروخة.. فالبعض من هؤلاء ينظرون الى الزجاجة الملآ بعيونٍ تجعلهم يتخيلونها وكأنها خالية تماماً من أي شيء!!..