تتفق معظم الادبيات السياسية على ان الانتخابات لها وظائف عدة لكن من بين اهم هذه الوظائف انها طريق الى الاستقرار السياسي لأنها تؤدي الى عملية التداول السلمي للسلطة، وتساعد على اضفاء الشرعية على النظام السياسي، فالسلطة الحاكمة تستطيع عن طريق الانتخابات ان تبرر وجودها من منطق الارادة الجماعية، كما انها تحقق المشاركة السياسية التي تتيح للأفراد والجماعات آليات التعبير عن توجهاتهم واتجاهاتهم فيما يتعلق باختيار المشاريع السياسية والنواب والممثلين عنهم في المجالس النيابية والمحلية، وكلما زادت المشاركة السياسية كلما زاد الاستقرار الداخلي واعطى شريعة للسلطة السياسية.

بيد ان هذه الافتراض الوظيفي يبدو غربيا وبعيدا عن التوصيف الواقعي للحالة العراقية، فالانتخابات في العراق كانت احدى العوامل المتسببة في زيادة الانقسام المجتمعي والسياسي، ولم تخلق اي إنموذج من نماذج الاستقرار السياسي. وهو يطرح جدلية سبق وان تناولها الاستاذ روبرت كابلان في مقالة له في نهاية التسعينيات من القرن الماضي بعنوان quot;هل الديمقراطية مجرد لحظة؟quot;، يقول فيها انه بعد ان درس نماذج عدة من التطبيقات الديمقراطية في دول العالم النامي وجد ان معظم هذه التجارب لم تؤد الى الاستقرار السياسي، بل انها ادت في النتيجة النهائية الى تمزيق المجتمعات واضافة مواضيع جديدة للصراع الداخلي، لان الناخب في هذه الدول حينما يذهب الى الصندوق الانتخابي فانه يذهب بعقلية التعصب القبلي او الديني او المذهبي او الاثني او اية عصبيات اخرى من دون ان يلق بالا للمشاريع السياسية.
لكن في الانموذج العراقي تبدو الامور اكثر تركيبا وتعقيدا مما ذهب اليه الاستاذ كابلان، فالمسالة لا تتعلق بسلوك الناخب فحسب، وانما تتعدى الى ابعد من ذلك.

وقد يكون صحيحا ان السلوك التصويتي للناخب العراقي، تحكمه العصبيات المتعددة quot; الطائفية والاثنية والجهوية الخ quot;، إلا ان الصحيح ايضا ان ثمة اشكالات اخرى لعل من بينها البناء السياسي الذي تم بعد عام 2003، وتحديدا منذ تجربة مجلس الحكم الذي قسم السلطة على اساس عامودي، بمعنى النظر الى المجتمع العراقي على انه مجموعة من المكونات، التي رسخت فيما بعد في السلوك السياسي لسيادة مفهوم حق المكون على حساب مفهوم حق المواطنة. وان التمثيل السياسي لابد وان يعكس من خلال تمثيل هذه المكونات دون النظر الى ابسط مدخلات البناء الصحيح للدولة الحديثة، التي تعتمد على التقسيم الافقي بما يسمح لولادة قوى واحزاب سياسية عابرة للجماعات الاولية، فضلا عن ان تفاعل الانماط السياسية اضحى يرتبط بقاعدة اللعبة الصفرية بين الاطراف السياسية، بما سمح للطبقة السياسية ان تهيمن على هذا المشهد السياسي والتمثيل النيابي والمحلي من خلال اثارة النزاع الطائفي والعرقي ليكون هو العامل الاساس في عملية الاستقطاب السياسي، مثلما شكل مدخلا ومطلبا للعنف الاجتماعي وغطاءا فاعلا لمؤسسة الفساد التي اضحت مرادفة لمصطلح الدولة العميقة في العراق.

من جهة اخرى استطاعت الطبقة السياسية بناء شبكة مصالح ومنافع محكم وفقا لنظام تبادل دقيق يتسلل عبر الشروخ العميقة في هيكلية ادارة الدولة ويندس في التخلخل البنيوي بين دولة المواطنة ودولة المكونات.
ان سوء الطبقة السياسية كان عاملا مهما في تردي الوضع العراقي، وما لايدركه هؤلاء ان مهمة رجل السياسة خطيرة، فاذا كان الطبيب السئ يقتل افرادا، فان السياسي السيْ هو بمثابة وباء يفتك بالامم فيهدمها من اساسها.

وحين نصل الى النتيجة النهائية فنحن امام بلد يتحرك على حافة الهاوية والعملية السياسية تتحرك على حافة الهاوية، ولاشئ في العراق يختصر الهاوية، وهذه النتيجة تبدو منطقية لان الديمقراطية العراقية اقتصرت على الشكل والفهم السطحي دون الجوهر والمضمون الحداثي ولذلك آلت هذه الديمقراطية الى فوضة عارمة.

[email protected]