استهلكت مفاهيم الكارثة واليأس في الخطاب العربي، وتم اجترارها اكثر من مرة، على مشارف العام الجديد لم تعد تثير فينا مفردة النكسة او الفشل حتى الشجن، تناسلت الاخفاقات التي اجهضت احلام جيل ما يمكن ان نسميه مرحلة بناء او مخاض، لولادة انظمة تبحث عن شرعية للمرة الاولى في بلدان العرب، بعدما كانت لا تحتاجها لتسود وتحكم، شئنا ام ابينا حتى في اقصى نوبات الامل التي تعيننا على الاستمرار، تعيدنا الظروف هذه الى حقبة اسست لأنظمة اصبحت توصف بالبائدة والمعزولة بآمالها وتطلعاتها، وكأننا نكرر الامس بنكهة اليوم لا اكثر ولا اقل،رغم ان الحسم بدائرية مسار التاريخ ليس امرا نحاول اثباته او نفيه، او ربما نعيد تجربة وفق معطيات تحمل سمة الالفية الثالثة لا اكثر ولا اقل، رغم المفرطين في الامل بخصوص النتيجة ومستوى الخلق والإبداع في نسخ التجربة اليوم.

كادت تساورنا الشكوك حول نبل مفهوم الثورة، امام إصرار البعض على ادراجه كلما حاولنا البحث عن وصف يلم شمل فوضى الحاضر، رغم ان القرائن والوقائع تفصح عن حقائق مؤلمة، جلها يقول بأننا بعيدون كل البعد عن موقع الفاعل، ونكاد نكون مجرد اداة او كومبارس، لرسم ملامح واقع خطط له الاخرون، وأننا نمزق ونصل احداثيات بلدان ننتمي اليها لنرسم لها خرائط كما يشاء الاخرون، متوهمين ان تلك مشيئتنا وأننا نملك اقدارنا بأيدينا، وان قافلة التغيير في هذه الظروف وفي ظل هذه الاكراهات يمكن ان نقودها نحن، متمسكين حد الوهم بإرادة متخيلة نعتقد ان هذه الشعوب تملكها، بها يمكن ان نخلق واقعا بديلا نطمح اليه.
بين صراع التوجهات وسباق التيارات المحموم لكسب المقاعد والمناصب، وانغماس الكل في حسابات تستحضر التحالفات في ابشع صورها الصادمة، وتحترم فقط منطق الامتيازات وتقاسم الغنائم والأرقام، وتهتم ب كل شيء تقريبا لتسقط في المقابل البلدان والمبدأ و الإنسان، قبح الواقع بدون تجميل، وما يسميه البعض بعهر السياسي والثقافي والفكري،انجب كائنات مشوهة نحاول فرزها لعلنا نجد للزعامة والقيادة معنى، او ربما نلمها ونضعها جانبا، لنبحث عن مقعد في حاضرنا لما تبقى من بعض الاماني اهمها الاستقرار، كادت ان تصير من فرط انتظارنا لها دون ان تأتي اوهاما للإدانة ورمزا لسلبياتنا التي تخفي وتغتال عنصر الايجابية بيننا.
قبل قرن من الان ظروف مشابهة من انسداد الافق والتوق الى التحرر، صرخ البعض في لحظة يأس ممزوج برغبة في بعث طائر فينيق من رماد شردته زوابع التاريخ بين كثبان الشرق، لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ لعلها لحظة ادراك للجزء المؤلم من حقيقة غيبها كتاب البلاط وجملها بقصائد المدح شعراء ينشدون عطايا الامراء، بعد قرن وان اختلفت المعطيات وتغيرت الظواهر كثيرا ودخل مفهوم الاستقلال الى معجم العرب،نفس الصرخة رددها مدعوا الثقافة والفكر والسياسة رياءا، تارة لتخدير العقول وتدجين الشعوب، وتارة اخرى للتسلل الى عالم فيه القليل من المصداقية، ويمنح لكل من بلغه شهادة البراءة، التاريخ،من افة النفاق الفكري والسياسي والثقافي الذي اصبح من مقومات شرعية التواجد في الراهن،هل هذه المدة كلها لا تكفي للإجابة عن السؤال؟ ام ان الاجابة معروفة ونتجاهلها لعدم رغبة الكل في فعل ما يلزم للخروج من دائرة التخلف؟
اختلف الكل في البداية عن سبل الرقي وكيفية الوصول لمرتبة الغرب في سلم التحضر، البعض دعا الى نبذ الامس واعتبره عارا يجب التنكر له والتخلص منه و حتى دفنه اذا لزم الامر، ثم الأخذ بكل ما هو وارد مهما بلغت وضاعته وخطورته في الغاء وجودنا وجعلنا مجرد نسخة مشوهة من الاخر الذي بالتأكيد لن يكون نحن مهما غيرنا او تشبها به او حاولنا استنساخ وجوده وتجربته.
امام بريق الممنوع وتوق الكل لمعرفة ما يوجد خلف اسوار العرف والمحرمات والطابوهات، هب البعض لتحطيم الجدران التي تحمينا من الغزو، معتقدين انهم يحطمون اقفال التخلف وأصنام التقديس والتبجيل الذي يفتقر الى اسس مقنعة في نظرهم لقصور إدراكهم،في فهم دور العرف والمقدس وحتى الاسطورة في تشكيل رداء الهوية، حتى لا نمضي الى القادم عراة، في استعراض محطات الامس وكأننا نبحث عن مكامن الخلل، طردنا الغزاة من الارض فاستوطنوا العقل والسلوك وأساليب الحياة، وأصبح الامس مجرد فلكلور يستحضر للذكرى وليس كأساس عليه يقوم الحاضر والمستقبل، لإدانة المستعمر كمعرقل لمسيرة النمو وجعله لنا في مرتبة التابع وليس المرافق على مضمار التحضر، احصينا ثقوب الرصاص على الابواب وعلى الجثث وعلى اجساد الشهداء، ولم نفكر في ثقوب لا سبيل الى علاجها ولا حتى إقحامها في تسويات جبر الضرر،احدثها بريق ثقافته في الذاكرة الجماعية للشعوب وجسد الهوية، احصينا ما استخرجه القادمون الجدد الينا في باطن الارض من خيرات لنطالب بنصيبنا من الغنيمة، وغفلنا عن كل ما استخرجوه طوال مدة اقامتهم في بلداننا من مكتباتنا من عقولنا ودعامات انظمة مهما اوهمونا انها بدائية، إلا انها كانت دليلا على وجودنا كمجتمعات يمكنها مسايرة حركية التاريخ، كما تجاهلنا ما زرعوه بيننا هنا وتركوه لينموا في غفلة عنا، اقنعنا دعاة تجريم الامس وتحميله وزر كارثية تواجدنا في اسفل قوائم الترتيب في البحث العلمي والحقوق والحريات والإنتاجية والتعليم و و.... وتربعنا على راس لوائح التخلف والجهل والإرهاب والجريمة وويلات العصر، ان السبيل الوحيد الى المستقبل هو فك الارتباط مع الامس وفقدان الذاكرة كلما تعلق الامر بأسئلة الهوية وجذورها.
بين المواطنة الكونية وشعارات انسانية الحضارة، وتصنيف الإثنيات والعقائدية والطائفية في لوائح التهم،التي تكون في غالب الاحيان دليل الادانة لإثبات جرم الارهاب، يطالبنا هؤلاء بمحو قرون من الذاكرة لنحظى اخيرا بمقعد على مائدة الامم المتحضرة والمتقدمة، على مضض لبينا الدعوة واكتشفنا ان الروح ما تزال جاهلية، وان الهندام الذي تم اختياره لنا ليس على مقاسنا، اصبحنا عندما جردونا من جهلنا، من تقديسنا لكل ما هو غيبي وأسطوري كاليتامى على مائدة اللئام، ولم نجد هناك احد يشبهنا، اصبحنا مادة دسمة للتنكيت والتندر، وبعد التفجير والتفخيخ وسقوط البرجين أصبحنا ايقونة التخلف والإرهاب وصار لقبنا تهمة،واسترجع البعض ذكرى الايام التي فيها اضعنا ابجدية الشجاعة وقادنا لورانس لنحارب الطائرة بسيوفنا وصراخنا.
العربي سمرة وجهه وقسوة ملامحه ولحيته، رموز بدائية تستدعي الحذر عندما تكون المعايير امنية، تستدعي التحليل عندما يحين وقت الحديث عن الظواهر، ويجوز ان يكون حقل تجارب عندما نتحدث عن السياسة والاقتصاد والفكر، كما يجوز ان يكون مجاله رحما حاضنا لأجنة هجينة،عندما يتعلق الامر بتوظيف تقنيات الوراثة والتطعيم والتفريخ وحتى حمل الانابيب،في ايجاد نماذج لشعوب تجمع الفوضوية والثورة، وتعلق عليها تهم العقم الابداعي والفكري والتبعية والطاعة، من فرط غرابتنا احد استطلاعات الرأي خلصت الى ان الاغلبية من صغار العم سام يتخيلون شعوب شرقنا بدائيون يرتدون الريش ويرقصون حول دوائر النيران.
هكذا تم اغتيال الامس وتركنا قدر تشكيل الحاضر لتجارب نحن فيها مواد اولية، وتناقضاتنا عناصر تفاعل، والآخرون مكلفون بالاستنتاج واستخلاص النظريات وبالتالي تشكيل المستقبل، صار بالإمكان ان يشعل الاخرون نيران الاضطراب والفوضى التي سميت زورا ثورة عن بعد بالضغط على الزر، وكما هو متوقع كنا حقل تجارب مثالي لقياس القدرة التدميرية لهذه النيران الناعمة الموجهة، كل هذا بدعوى جعلنا نلتحق بركب التحضر الذي فاتنا، ولا نملك محاكمة احد على النوايا، وعبرة النتائج التي جاءت عكس التوقعات نتقبلها على مضض، ونحن نبحث عن العزاء في الفاصل الحتمي بين النظرية والتطبيق لتجنب قسوة الحكم والإقرار بالفشل، وعدم اقفال الباب امام ما يسميه البعض اعادة تقييم التجربة وتقويمها، والغاية ترك الباب مفتوحا امام نظريات قادمة تنتظر بدورها حقل تجارب، اكتشفوا بفضلنا ان حتى الفوضى بإمكانها ان تكون خلاقة، وان الربيع يجوز ان يكون خريفا وربما صقيع شتاء، و حتى لا يثور من به غيرة منا على امس يضيع، اقنعونا ان طقوس دفننا لما فات لم تكن كاملة بسبب الحنين المزمن الذي يسكننا.
كل هذه التنازلات ولم نحجز بعد مقعدا لنا في مجمع الامم المتحضرة والمتقدمة، وحتى لو قدمنا الثمن هذا الامس الذي يمكن ان يكون كل ما نملك ولم نقدر قيمته كما ينبغي، لم نحظى بهذا الشرف بعد، سنواجه القادم بعرينا بتفاهتنا وغبائنا واعتقادنا الخاطئ نفسه، وستظل الصرخة نفسها يتردد صداها في غياب تام لجواب يمكن ان يقودنا الى الدليل، ونحن عاجزون عن ادراك ان نفي الازمنة ودفنها لا علاقة له بسباق التقدم في مضمار الامم، وعن ادراك ان المفاهيم التي تخلق اثرا وتمنح للإنتاجية شرعية التواجد في الحاضر، مهما كان الامس موصوفا بالهمجية والرجعية وحدها ترسم السبيل الذي يوصل الى مرتبة يجوز ان توصف بالتقدم والتحضر، بعد كل هذا لا نحن كما كنا نحن ولا استطعنا ان نكون منهم، وسنقدم ربما مستقبلا تنازلات اكثر في مسار البحث عن هوية، تليق بشعوب وأمم تملك امسا كهذا الذي فرطنا فيه في سبيل مقعد ربما كان لنا ولم نكن نعلم.
المغرب