- مرحبا، سيادة الرئيس، سبق أن التقينا مرارا وأجرينا حوارات متنوعة. فهلا سمحتَ لي هذه المرة بأنْ أطرح على سيادتكم بعض الأسئلة الصريحة؟
bull; أتذكّرُ، كيف كدتَ، أثناء مقابلتي في القصر الجمهوري، أنْ تسلحَ على نفسك، كنتُ أرى ذلك من رجفة شاربيك وارتعاش يديك واهتزاز جسدك، ولولا ملاطفتي لك لحصل ما هو أسوأ. أما الآن وقد التقينا بمحض الصدفة، فلا مانع من وضع النقاط على الحروف. ويمكنك أن تسال مباشرة وبلا أدنى خوف.
- هل ما زلتَ تشعر أنك رئيس جمهورية العراق؟
bull; كما ترى، الرئيس لا يمكنه أن يتجول في أسواق وشوارع العراق بدون حماية، خصوصا أنني حذر إلى أبعد الحدود.
- هل قولكم يعني أنك قد تنازلتَ بمحض إرادتك عن السلطة؟
bull; منْ قال لك إنني تنازلت عنها! هل تريد الحقيقة أم الادعاء، هههههه؟
- طبعا سيادة الرئيس، القارئ يتوخى الحقيقة لا غير.
bull; في واقع الحال، أجبروني على فعل ذلك وحسنا فعلوا لأن هذا البلد لا يمكن بتصوري أن يُساس إلا بالقوة، طبعا، هناك قوة وأخرى أعتى منها، وبالتالي، فمن يأتي عن هذه الطريق لا يمكنه أن يترك السلطة وسطوتها ومتملقيها إلا بأسلوبين: إما بنفس الطريقة التي أتى بها، أو أن يأخذه الموتُ عنوة. والأسلوبان متشابهان كما ترى.
- سيادة الرئيس، أراك تتحدث معي دون إحساس بالذنب وبلطف غير معهود. عفوا، لقد عُرِفَ عنك من صلم الآذان وتقطيع الألسن والتذويب بالتيزاب وقلع الأظافر والاغتصاب والتهجير والنفي، وافتعال الأزمات والصراعات الدموية الداخلية والخارجية، أي quot;الكونات الصغيرةquot; كما أسميتها ذات يوم. يعني، باختصار، تصفية الخصوم مهما كان أصلهم وطبيعتهم، فهل لهذا اللطف من سبب؟
bull; أي لطف، أنا حاليا رجل عادي تماما، مثلي مثلك، الفرق بيننا يكمن في شيئين: أنت تكتب عن الآخرين وأنا يُكتب عنّي، والشيء الآخر، هو أن الحكومة quot;الصفوية- العميلةquot; قد قطعت عني تقاعدي وقبلها هدمتْ تماثيلي واستباحتْ قصور الشعب.
- عفوا، أتقصد قصورك أنت؟
bull; اسمعْ لا تتحذلقْ معي، الآن من هبّ ودبّ يبنون قصورهم داخل العراق وخارجه ويتباهون بها، وأنت تحسدني وتحاسبني على بعض البنايات التي هدمها الاحتلال.
- هل أردت القول، إنك كنتَ تستحقها؟
bull; ألمْ أخدمْ العراق على أحسن وجه وأقلق العالم بأسره؟ ألمْ أمهّدْ لهم الطريق بكل الوسائل كي يأتوا ويتربعوا على الكراسي ويرفعوا صغارهم ويحطوا من شأن كبارهم؟ لقد جعلتهم أصدقاء علنيين لأقوى دولة عظمى في العالم، في الوقت الذي كنتُ أخاف حتى أن أهمس بأنني اشتغلت معهم طويلا رغم مشاكستي لهم، أقصد اليانكيس؟ أرجوك، لا تنشر هذا الكلام لأنه يحط ّ من شأننا جميعا فالكل غاطسون في الوحل. تعرف، الوحل على درجات وكذا الفساد وكذا الكذب وبالتأكيد التعاون مع الآخر أيضا. لا، أرجوك لا تنشر ذلك، في هذا الوقت العصيب على الأقل، حفاظا على ماء وجهك، ألمْ تخدمني سابقا؟
- عذرا على المقاطعة، لكنّ إزاحتك كانت بالقوة حتى تم تصويرك بالجُرذ الذي أخرج من حفرته.
- أنا الذي اختار هذا الوكر بمحض إرادتي، وبعدين، طوال حياتي كنت متخفيا، في حين أجبر خصومي على الاحتماء بالملاجئ، صدقني أنا أشفق عليهم كثيرا. هذا الشرق حقير وغادر، كما تعرف. لا أسمح لك بهذا التعدي الباطل، الزمْ حدودك، يبدو أنك أيها الحرباء قد نسيتَ تقبيلك لحذائي في مناسبة ودون مناسبة، ولم تكتف بممالأتك للزيف السابق، فرحت تغطي على جيف الحاضر. أنتم أيها الخانعون والانتهازيون لديكم رائحة شم قوية، لكنْ لماذا لا تنظرون أبعدَ من أنوفكم؟ أليس العراق بأسره عبارة عن حفرة كبيرة، كيس قمامة كبير، وإلا فما هذه المهازل التي دوّخونا بها. وأين الوعود التي قطعوها على أنفسهم؟
- يبدو أنك تتبع فكرة الهجوم على الخصم بدلا من الدفاع عن نفسك المريضة. أنت مطلوب للعدالة، فكيف تريد منهم تقاعدا؟ لنعدْ، إلى جوهر السؤال الذي لم تجبني عنه، وكأنك ابتغيتَ التملّصَ منه عن قصد!
bull; هذا اللطف الذي تراه، ما هو إلا صورةٌ تعبّرُ عن بعض امتنانِ وعرفان لك ولأمثالك، لأنني بفضلكم ما زلتُ أعيش حرا طليقا، أسير في الأزقة الوسخة، وأتعثر بأسلاك الكهرباء التي تملأ الطرقات وتخيم فوق رؤوس الناس القابعين في بيوتهم، وفي أنابيب المياه الملوثة، والوجوه الكالحة، والصحافة الصفراء، والدوائر الفاسدة، والخطابية الفارغة السائدة في وسائل الإعلام... كل شيء يذكركم بي، من مزابل وبنايات مهدمة وفساد وسرقات وسوء إدارة وهزيمة الحس الوطني وكثرة الذئاب والسفاحين. كانوا يتهمونني بذبح الناس، بربك ماذا تسمي هذه المذابح على الهوية والكراسي والجاه والأصل والفرع، لقد بلغت الأمورُ حدّ التجارة بالضمائر والنهب والسلب على نطاق واسع. اتهموني بتدمير العراق، نعم كل ما تقولونه صحيح، لقد بنينا كثيرا ودمرنا ما شيدناه. كان هناك حاكم واحد والآن كلهم حكام وما هم بحكام. قلْ لي باعتبارك قريبا من مصادر القرار، ماذا فعل من جاءته السلطة على طبق من ذهب؟ مرتْ عشر سنوات على محاولات مسحي من الوجود. ولا يغرنكم quot;بائع الثلجquot; فهذا بسبب غبائه وسوء تقديره للأمور، لن يأتي لا بمكسب يُذكر ولا بجهد عليه يُشكر، لأن من يطمح للتغيير والقيادة عليه أن يمتاز بسعة النظر وبمرونة عالية وعقل عابر لفكرة الطائفة والقومية، وهذا ما يفتقر إليه quot;بائع الثلجquot; ومن يسير وراءه هذه الأيام. الفرق بين من يتستر بالدين اليوم(أقصد السلفيين الجدد من كافة الأطراف) وبين quot;حملتي الإيمانيةquot; شاسع. كانت حملتي عراقية ذات أثر طارئ لأنها محض وسيلة لا غير للبقاء فترة أطول في الحكم، في حين أن الدين المتأثر بالخارج لا الإيمان العميق(أعترف بابتعادي عنه) صار هدفا بحد ذاته لمن جاء بعدي، يسعى لفرض تأويله له بشتى السبل، بحيث أخذ الناس يتذمرون منهم.، عفرين لأبنائنا الأشاوس. كل دول الجوار كانت ترهبنا أما الآن فحدثْ ولا حرج. إذن، ثمة فرق بين أن تأكل كي تعيش وأن تعيش لكي تأكل.
الحقيقة، أنا فخور بكم جدا جدا لأنكم بتصرفاتكم تثبتون أنكم لستم أفضل مني ولا حتى من quot;بائع الثلجquot; المسكين. كانت الأشياء واضحة في زمني، في حين اختلط الحابل بالنابل بعد أن حلت quot;الفوضى الخلاقةquot; بعد إزاحتي، هههههه. سّلّمْ لي على النشامى!
- غريب، أنت ما زلتَ تتبجح وتتبختر في مشيتك حتى بعد كل الذي جرى؟
bull; قلْ لي بربّكَ، ماذا فعلَ من معجزات منْ جاء بعدي؟ فهؤلاء الهواة المزعطة الذين نثرهم الحظ فوق رؤوس العباد لا يحلون ولا يربطون ولم يقدموا شيئا يُذكر، فالحطام على حاله، وسوء المعاملة والمحسوبية والمنسوبية على حاله، بل لقد تفاقمت الأمورُ أكثرَ مما كانت عليه سابقا، وتضاعفت أعدادُ المنفيين والحالمين بالهرب وتعقدت همومهم ومشاكلهم بحيث أصبح منفاهم مضاعفا إنْ لم يكنْ أقسى من ذي قبل.
اسمعْ، سأروي لك هذه الحكاية الطريفة التي أثلجتْ قلبي حقا، يمكنك أن تنشرها. اعترفَ لي أحدُ الكتاب والأكاديميين المعروفين المعارضين لي بشدة آنذاك، قائلا: quot;كنت أمقتك بلا حدود، لأنك حطمتَ حاضر ومستقبل البلاد، ولأنك تبنيت نهجا وفكرا تدميريين ودمويين. لكنْ، والحقيقة تقال، كنتُ أتفهّمُ ملاحقتك لي باعتباري أحد معارضيك وخصوم منهجك في التعامل مع المواطنين وفي إدارة شئون البلاد، أما الآن وقد انقلعتَ عنّا، وأصبحتَ من حصة الماضي المقيت، صرتُ أنا بعد رحيلك- بحكم التغيير الجديد والأمل بوطن أفضل وبدافع ما فعله المنفى بي وبأمثالي من تشريد وتضييع للهوية- صرتُ أشعر بالفجيعة والخديعة الكبرى. فبالرغم من كوني مناهضا سابقا، في البداية، لطريقة الإطاحة بك عن طريق الحرب، إلا أنني، قلت لنفسي: طالما أنه لا مفر منها فليكنْ ما يكون، فلعلها أشبه بالعملية القيصرية السريعة التي ستقود إلى إنهاء معاناة الناس ومن ثم تطبيق حلم الكثيرين بمستقبل أفضل من ذي قبل، ثم أنها مرة واحدة ودفعة واحدة وخلاص. لقد خدعونا بطوباويتهم مرتين: مرة، بشعارات العدالة والمساواة ومشاركة الكل في كل شيء، ولما رأينا الكذب والدجل والبغاء ينهش بلدان دعاة الحرية والعدالة الموعودة، وأن حجم النخر الداخلي وكتابة التقارير ضد المعارضين كان هائلا، أخذنا نستيقظ ونعود لرشدنا، وكما يُقال: متأخرا أفضل من لا شيء. أما المرة الثانية فكانت، بعدما دعمنا الوضع الجديد على كافة الأصعدة، منتشين بالخلاص quot;من السيد الرئيسquot; وزبانيته وحروبه الغبية. لم نكنْ نعرف أننا سنوضع في زاوية ضيقة من الحلبة وأن هناك أكثر من ملاكم يسدد لنا اللكمات. لقد قابلونا باحتقار وجفاء وعدم اعتراف بنا وبحقوقنا وبصراعنا المرير ضدك يا وحش العراق، تخيلْ أنهم يطلبون منا أن نثبت تشردنا ومنفانا وما دبجناه ضدك من كلمات وكلام ونشرناه في كل محفل، تخيّلْ، وصلت الوقاحةُ بهم حدّ إذلالنا ودفعنا للهرب من جديد. هذه هي الطامة الكبرى أيها الأحمق الذي لا يقلّ غباء عن رفيقه quot;بائع الثلجquot; ولا يقلُّ تطرفا وتهورا وانغلاقا عن quot;السلفية العراقية الجديدةquot;.
أتعرف - بعد كل ما حصل- أساس حماقتك وحجم ما كنت تحمله من بذور خراب؟ سأرفع عنك كلفة مواصلة الحديث، خاصة وأنك قد أُصبتَ بالوجوم رغم كبريائك الفارغة، وأذكرك بأنك انتهجت طريقا خاسرة منذ البداية، بأن جعلت الحماقة والغريزة الدموية والأنانية والابتعاد عن النصيحة ومشاورة الآخرين هي البوصلة التي تقودك، كنتَ مستهترا، بحيث لم تترك وراءك مهربا ولا ملجأ ولا صديقا ولا مبررا لكي تُذكرَ بخير، بسببك عانينا وما زلنا نعاني، فطزْ بك يا quot;سيادة الرئيسquot;، يكفيك أن تنظر إلى هذا الطوق البشري الذي يحيط تابعا حقيرا سابقا مثلي. لا تنكّسْ رأسك هكذا، فبسببك لم يبقَ أمامنا سوى التوجه إلى السماء مستغربين: لماذا ولدنا يا ربَّ العالمين في بلد اسمه العراق؟quot;.
- هذه الحكاية عادية، لديّ حكايات أكثر روعا منها سأروي لك بعضها لدى أقرب لقاء بيننا.
bull; ألم أقلْ لك، إنني حيٌّ بفضلكم. أنا أتفهمكم جيدا، وحسبي أنني أعرفكم أكثر مما تعرفونني وتعرفون أنفسكم. كنتم تتنافسون على إرضائي متبعين شتى الأساليب الماكرة والرخيصة التي تعلمتُ بعضها منكم، أعرف ذلك وأتذكره جيدا، غير أنني كنتُ أحتقركم في داخلي، لأنه من غير المعقول أن يكون هذا الكم الهائل من كلمات الإطراء والتبجيل بحقي من دون أدنى تأنيب ضمير، أو دون مجرد التفكير بما ستؤول إليه الأحداث ذات يوم، وبما سيكون عليه مستقبلكم. من جانب آخر، أتفهمكم جيدا وأقدّر مواهبكم وقدراتكم على التلون ومواصلة المسيرة من جديد، فما فعلتموه ليس أكثر من تغيير الموصوف وتبديل الإكسسوار. تخيّلْ، لقد رأيت قبل فترة أحدَ عتاة الشيوعية يتصبب عرقا ويهتز كرشه، كان مشاركا في quot;ركضة طويريجquot;!
سأكشف لك عن وجهكم الحقيقي الذي لا تحبون أن تروه. كنتم تعودون إلى التاريخ من أجل المقارنة، بغية رفع مقام الموصوف - الحاضر في كل مكان آنذاك، أعني السيد القائد. كنتم تلمّحون للماضي كي تبقوا على قيد الحياة، يعني كنتم تعيشون حاضركم بحكم تفاعلكم مع الأحداث. أما الآن، فعودتكم للماضي مطلقة، يعني أنكم موتى بقدر ما أنتم أحياء، وأحياء بقدر ما أنتم تائهون في الماضي. إذن، أنتم من حصة الماضي، في الحقيقة هكذا كنتم دائما.
كل ذلك يدفعني كي أكون لطيفا معك(كم)، ومع كل من يجعل الناس يتذكرونني صباح مساء. تخيلْ، أنا شخصيا، أشعر بالاشمئزاز من نفسي، أنا فعلا قد انتهيتُ، لأنني لم أحقق أيّ شيء إيجابي يستحق بقائي على قيد الحياة، خلاص، كنتُ نسيا منسيا لأنني أصبحت من حصة الماضي. هكذا كنتُ أشعر، لكن مشاعري قد تبدلتْ بفضل ما رأيتُ وسمعتُ. أتعتقد أيها الصحافي الخردة، أن عيوني قد نامت تماما؟ كلّ شيء يصلني أولا بأوّل حتى قبل وصوله إلى مسئوليك الجدد، هم يقومون بعمل أشياء كثيرة نيابة عني، كما كانوا يفعلون من قبل، لذلك أنا حاضر ومن حقي أن أشعر بالزهو. فهل، بعد كل ما حصلَ ويجري، ما زلتَ تسألني لماذا أنا لطيف معك؟
سأقول لك بحزم هذه المرة، لا تطمعْ أكثر- أيها الحرباء- في طرح أسئلة أخرى لأنها ستكون بلا جدوى: أنا حيٌّ وحرٌّ طليق وممتن لكم جميعا، يا من خدمتموني طائعين أو خانعين، وأنتم يا منْ جئتم بعدي. لن أغيب عن الذاكرة طالما بقيتم تتصرفون وتتلونون على هذه الشاكلة.
لن أقول لك وداعا، لأنكم ستروني في كل مكان، سأزوركم حتى في أحلامكم.
في الأول من نيسان/أبريل 2013