ما يظهر الآن وعلانية من نظام الحكم الإخواني في مصر من استهانة بالوطن والوطنية، عبر ما يتواتر من أحاديث عن تفريط في جسد الوطن المصري، بداية بسيناء شرقاً، تلك التي وهبها quot;مكتب الإرشادquot; فيما يبدو للأهل والعشيرة في منظمة حماس وتنظيم القاعدة، وتثنية بمثلث quot;حلايب وشلاتينquot; جنوباً على الحدود المصرية السودانية، كرامة لعيون البشير المطلوب من قبل العدالة الدولية، والذي لن يمضي وقت طويل حتى يصير السودان على يديه المباركتين شظايا متنافرة متناحرة، ولن نستبعد هكذا أن تتجه الثالثة غرباً حيث الحدود الليبية، وقد سبق للقذافي ادعاء ليبية صحراء مصر الغربية وقبائلها، ووزع على سكانها بطاقات هوية تحمل رمز quot;ص. شquot; أي صحراء شرقية، لا نظن أن هذا التردي لحالة الإحساس بقدسية الوطن وحدوده اختراع يصح نسبته حصرياً لجماعة الإخوان الإخوان المسلمين، وإن كانت تلك الجماعة أهم التجسيدات لوهن أو انعدام استشعار الوطنية في البيئة المصرية، بل وواضح أنه من المنطقي أن نعزو نجاح وسرعة تفشي فكر تلك الجماعة في مصر أنها لم تأت للمصري بما هو مفارق لثقافته وميوله، وإنما بلورت وركزت في دعوتها على ما يجول بالفعل في حنايا الكثيرين، وإن كان قولنا هذا لا ينفي ما أضافته تلك الجماعة من نوازع هي بالتأكيد مفارقة لطبيعة الإنسان المصري، ولعل أبرز تلك النوازع الغريبة هي ميول العنف وسفك الدماء.
- آخر تحديث :
مصر أمة في ورطة
في حين نعرف أن مفهوم الوطنية والدولة القومية مولود عالمي حديث بعد عصر النهضة الأوروبي، إلا أننا في مصر قد دأبنا على نسبة الدولة المصرية بذات حدودها الحالية إلى امتداد خمسة آلاف عام في عمق التاريخ، ولما كانت هذه بالفعل حقيقة تاريخية وجغرافية لا يرقى إليها شك، فمن الطبيعي أن يتصور كثيرون أن الشعور الوطني متأصل في الشعب المصري منذ ذلك التاريخ، وأنه من المحير أن نجد ذلك الشعور مهتزاً أو محل تشكك البعض الآن، والحقيقة أنه ربما افتقد المصريون الشعور بالوطنية منذ غزوة قمبيز في القرن الخامس قبل الميلاد، وترسخت في نفوسهم سيكولوجية الرعية التي لا يعنيها هوية الراعي أو أمر وطن فيما تلا ذلك من عصور، إلى ما بعد مصطفى كامل الذي كان ولاؤه للخلافة العثمانية، ليبدأ بزوغ عصر الوطنية المصرية في أوساط الطبقة الوسطى حصرياً مع سعد زغلول، وما هي إلا بضعة سنوات حتى ظهر حسن البنا ليعود بالمصريين إلى أربعة عشر قرناً خلت عبر الانتماء الديني وتجاهل وتكفير الوطنية، لصالح حلم الخلافة الإسلامية وأستاذية العالم، وجاء عبد الناصر بقوميته العربية، ليتجاوز حدود وطن وجده أصغر من حجم طموحات زعيم ملهم مثله، إلى إمبراطورية عربية تمتد من quot;الخليج الفارسي إلى المحيط الهادرquot; (لبيك عبد الناصر) على حد أناشيد الحقبة الناصرية، لكنه في سعيه لتوسيع إمبراطوريته أفقد مصر سيناء، ليبدأ السادات وخليفته مبارك بعد استعادتهما سيناء في معاودة السير باتجاه مصر الوطن من جديد. . الشعور بالانتماء الوطني إذن حديث وغريب عن ثقافة الطبقات الدنيا من المصريين، ناهيك عن غسيل المخ الذي تعرضت له الطبقة الوسطى على يدي حسن البنا وعبد الناصر وأعوانهما، هذا رغم حديثنا الدائم عن دولة مصرية تضرب في عمق التاريخ الإنساني إلى خمسة آلاف عام.
في ظل هذا الخفوت للشعور الوطني من طبيعي أن أي مشكلة بين مصري مسلم وآخر مسيحي تتحول لفتنة طائفية، مادمنا جميعاً لا نرى أنفسنا بالدرجة الأولى كأعضاء جسد واحد هو الأمة المصرية، ونرى أنفسنا مجرد مؤمنين بهذا الدين أو ذاك، ونجهل أو نتجاهل سائر مناحي الحياة ومختلف مكونات الشخصية الإنسانية السوية. . هي حالة عقم شخصي وثقافي مستعصية.
كان من المتصور أنه بمجرد تولي الإخوان للحكم ستتوقف الاعتداءات الطائفية على الأقباط، باعتبار أن الإخوان بكوادرهم المنتشرة هم القادرين على ضبط الأوضاع حفاظاً على صورة الإخوان وهيبتهم أمام العالم. . الآن يجب الاعتراف أن هذا التفكير هو بمثابة سقطة فكرية، وأنه من قبيل السذاجة أو حسن النية المبالغ فيه فيمن احترفوا القتل وزرعوا الفتنة والتعصب في مصر، ومع ذلك فالأمر أكبر من الإخوان وما يستطيعونه من تدمير لكل من الشخصية والمؤسسات المصرية على حد سواء، نعم سيادة القانون والانضباط عامل ابتدائي هام لوقف مسلسل الاعتداءات الطائفية الدموية بالغة التوحش والهمجية على الأقباط، لكن الأعمق والأبعد مدى هو البحث كيف يمكن ترقية الإنسان المصري إلى مرتبة quot;إنسانquot;، وذلك بتهذيب روحه بالفنون والموسيقى وحب الحياة والجمال، فلا يعود بعد يقدم على القتل والحرق والهدم باسم الجهاد أو تنفيساً لمكبوتاته وكراهيته لنفسه وللحياة.
ليست ما نعتبرها بمفاهيم هذا العصر quot;إنسانيةquot; صفات موروثة في الإنسان، لكي عندما نفتقدها ندعي أنه قد تم تجريفها في هذا العصر أو ذاك، وبواسطة هذه الجماعة أو العصابة، أو ذلك الزعيم الملهم أو الأحمق، فالإنسان الأولي في الحقيقة لا يختلف كثيراً في صفاته عن الحيوان، ولكي يكون quot;إنساناًquot; بالمعنى الاصطلاحي الذي نستخدمه الآن، قطع شوطاً طويلاً من تهذيب نفسه والتوافق والتناغم بين غرائزه وأفكاره وتطلعاته، وكانت النقلة الخطيرة في وعيه ليست اختراع كذا أو كذا من إنجازاته التكنولوجية أو العلمية، بل كانت اكتسابه صفة quot;الإحساس بالجمالquot; فيما يحيط به من مظاهر طبيعية، لتأتي القفزة الإنسانية الثورية التالية، وهي بدء quot;إنتاج الجمالquot; عبر الفنون والآداب. . علينا البحث إذن عن مدى انتشار ملكات الإحساس بالجمال والقدرة على إنتاجه في أفراد أمة، لنستطيع تقدير المسافة التي قطعتها بعداً عن quot;مملكة الحيوانquot;، وبالتالي مفارقة سلوكيات أفرادها وعلاقاتهم quot;لقوانين الغابةquot;.
ربما ليس أمامنا مؤقتا غير أن نتعزى بحقيقة أنه كما أن هناك مناطق بالعالم تعد مناطق كوارث طبيعية، يلقى فيها بعض من سكانها الموت والدمار على دورات، هناك في الشرق الأوسط مناطق كوارث بشرية، حيث تقطن جماعات ممن فقدوا صفاتهم البشرية وتحولوا إلى ذئاب عمياء متعطشة لسفك الدماء، والحل لمن يصيبهم الأذى من سكان تلك المناطق هو إما مغادرتها إلى مناطق آمنة، أو أن يتحملوا نتيجة سكناهم في مناطق موبوءة ضمن حزام مناطق الكوارث البشرية، فعلينا مواجهة الحقيقة مهما كانت مرعبة ومقززة، فالشعب الذي يصوت أكثر من ثلثيه للإخوان والسلفييين والجهاديين، لا ينبغي أن نتعجب أن يصدر منه ما يحدث الآن من قتل وحرق وتدمير بحق أخوة الوطن الأقباط.
نعم يظهر الآن أسوأ ما فينا، تخرج الحشرات التي ترعرعت لسنوات حتى صار الصرصار بحجم الفيل، لكن أيضاً يبزغ الآن الجديد المتلألئ، وسينبثق النور الذي يطرد جحافل الظلمة. . الدلائل المادية على أرض الواقع تشير لدوام هذه الغمة لعدة عقود، لكن الشعب المصري الذي فاجأ نفسه والعالم بثورته، قادر على تكرار المفاجأة وسحق ذئاب الظلام، وهذا تحديداً ما نعتمد عليه.
التعليقات