على مدى الشهرين الماضيين، شهدت كل من طهران واسطنبول والقاهرة على تفاوت بينهن أحداث لا تعد عن كونها تاريخية. إذ انتفضت كل من تلكم العواصم الثلاث ndash; لا سيما الطبقة المتوسطة والقوى الليبرالية نسبيا فيها ndash; ضد حكم التيارات المحافظة أو الإسلامية. ويندرج ضمن ذلك الإطار كل من (1) خسارة التيار المحافظ في إيران الممثل في محمد باقر غاليباف وسعيد جليلي الانتخابات الرئاسية التي اكتسحها المرشح المعتدل (نسيبا) حسن روحاني بأغلبية فاقت ال50% في الدور الأول، (2) وموجة الاحتجاجات التي نشبت في العاصمة التركية اسطنبول ضد حكم حزب العدالة والتنمية وعلى رأسه رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان، (3) وأخيرا الاحتجاجات المليونية الهائلة في شتى ميادين القاهرة المنددة بحكم الإخوان المسلمين والتي مكنت القوات المسلحة من عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي من منصبه.

بشكل عام اعتمدت القوى المحافظة في تلك الحالات الثلاث ndash; أي التيار المحافظ وحزب العدالة والتنمية والإخوان المسلمين ndash; على أصوات الكتل الانتخابية الضخمة التي تقطن الأرياف والضواحي بدل المدن الكبيرة للفوز في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية للوصول إلى سدة الحكم. إذ من الملاحظ حجم شعبية التيارات المحافظة في الأرياف التي عادة ما ترتفع فيها نسبة الفقر والأمية والميل للمحافظة على القيم الاجتماعية التقليدية بخلاف ما يلاحظ بين سكان المدن الكبرى. كما تنشط عادة هذه القوى والأحزاب لوجستيا في هذه المناطق عبر توفير أشكال من الدعم المادي والمؤن خاصة في حالة الإخوان المسلمين في مصر.
بيد أن عند وصولها إلى سدة الحكم، يتعين على هذه الأحزاب مزاولة النشاط السياسي والعمل الحكومي في المدينة، وهو المكان الذي تواجههم فيه قوى مجتمع مدني وقاعدة شعبية تميل نحو الخط الليبرالي أو العلماني، وبذلك يحصل الصدام. وقد يتخذ الصدام ونتائجه أشكالا مختلفة بحسب حنكة الحزب الحاكم وموقف القوات المسلحة والوضع الإقتصادي بطبيعة الحال.

فلو نظرنا في الخارطة الديمغرافية السياسية الإيرانية، التي يسودها الكثير من التعقيد بسبب وجود إثنيات و أعراق متعددة ذات انتمائات لغوية و هوياتية مختلفة، نجد بأن لطالما أبلى التيار الإصلاحي ممثلا في مهدي كروبي وأكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي وحسن روحاني و غيرهم بلاءا حسنا في محافظة طهران. حتى في الانتخابات الرئاسية لسنة 2009 التي اتهمت المعارضة و التيار الإصلاحي النظام بتزويرها، تفيد الأرقام الرسمية بحسب موقع quot;إيران تراكرquot; التابع لمركز quot;أيه إي آيquot; الأمريكي بأن المرشح الإصلاحي مير حسين موسفي فاز بما يقارب ال 52% من الأصوات في مدينة طهران المتحررة نسبيا و حوالي ال 46% من الأصوات في محافظة طهران (التي تشمل مدنا عدة بالإضافة لمدينة طهران) فضلا عن بعض المحافظات الساحلية كسيستان و بلوشيستان و أيضا كردستان. وكما هو معلوم، فقد رفضت قوى المعارضة هذه النتائج ودعت إلى مظاهرات حاشدة عمت العاصمة طهران وقوبلت بقمع شديد من قبل النظام.

أما في انتخابات 2013، فقد أذعن النظام وعلى رأسه المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي لرغبة الشعب الإيراني حيث عكست نتائج الانتخابات فوز المرشح الإصلاحي حسن روحاني الذي هو أيضا حقق نسبة عالية في المحافظات الساحلية عينها و في مدينة طهران التي انتفضت من أجل إيصاله إلى كرسي الرئاسة بنسبة 50.71% من الأصوات بنسبة مشاركة بلغت ال 72%، بينما لم يحصد مرشح التيار المحافظ الذي تبوء المركز الثاني إلا 16.56% من إجمالي الأصوات...و يرجئ محللون عدم محاولة النظام الالتفاف حول فوز الإصلاحيين هذه المرة إلى الخوف من إعادة سيناريو 2009 و قيام ثورة جديدة تجتاح العاصمة طهران خاصة في المناخ الإقليمي الثوري حاليا في خضم ما يسمى بالربيع العربي.

أما بالنسبة للحالة التركية، فإن الباحث في معهد واشنطن سونر كاغابتاي يحلل في ورقة له بعنوان quot;المشهد السياسي التركي الجديد: تداعيات انتخابات 2011quot; (ترجمتي من الإنجليزية، معهد واشنطن، عدد 15، أكتوبر 2011) مواطن القوى والقواعد الشعبية لكل من الأحزاب السياسية النافذة في تركيا، وبالتحديد حزب العدالة والتنمية الحاكم المحافظ ذو الطابع الإسلامي وحزب الشعب الجمهوري المعارض ذو الطابع اليساري العلماني من بين أحزاب أخرى هامشية بالمقارنة. مع الحذر من الإفراط في تبسيط الخارطة السياسية التركية، فإنه يمكن القول بأن حزب العدالة والتنمية الذي حصد أغلبية بنسبة 49.9% من إجمالي الأصوات في 2011 يعتمد في المقام الأول على قاعدته الشعبية في الأرياف لا سيما في إقليم الأناضول المحافظ والفقير نسبيا ثم في منطقة وادي نهر الفرات المحافظة أيضا. بالمقابل، ينشط حزب الشعب الجمهوري ذو ال25.9% من الأصوات الذي يلقى رواجا كبيرا بين الطبقة الغنية وسكان المدن الكبرى والمناطق الساحلية المزدهرة، التي عادة ما تكون أكثر انفتاحا من الإرياف المنغلقة على ذاتها.

وعلى خلفية هذه المفارقة، يعلل كاغبتاي في مقال له بصحيفة quot;النيويورك تايمزquot; الأمريكية (5 يونيو 2013) المظاهرات الكبيرة التي اجتاحت أجزاء كبيرة من اسطنبول كاحتجاج ضد هدم حديقة جيزي واستبدالها بمجمع تجاري سرعان ما تطور إلى احتجاج واسع ضم أبناء الطبقة الوسطى والغنية ndash; التى من سخرية القدر يعود الفضل في نجاحها الاقتصادي إلى سياسات حزب العدالة ذاته طوال العقد المنصرم ndash; فضلا عن بعض الأقليات كعلويي تركيا على أنها ردة فعل ضد سياسات اردوغان المتزمتة والمحافظة الرامية إلى حسر الحريات الصحفية وتقنين تداول الخمور وغيرها. أي بأن نجاح تركيا الاقتصادي قد ساعد على خلق وتقوية طبقة وسطى نافذة في المدن الكبرى وخاصة العاصمة اسطنبول بدأت تظهر ردة فعل قوية ضد سياسات وتوجهات الحزب الحاكم المحافظ الذي يقوى وينشط بشكل أخص في الأرياف النائية والفقيرة.

أخيرا ننتقل إلى المشهد المصري، حيث الكاتب المصري مهند صبري في مقالة له بعنوان quot;الضواحي الفقيرة تمرر دستور مصرquot; (ترجمتي من الإنجليزية، موقع آل-مونيتر، 25 ديسمبر 2012) يسلط الضوء على الدور الأساسي الذي لعبته الكتل الانتخابية الكبيرة في ضواحي مصر الفقيرة في مساندة الرئيس المخلوع محمد مرسي والإخوان المسلمين من أجل تمرير الدستور الجديد الذي أثار زوبعة سياسية كبيرة في مصر. فعلى سبيل المثال، نجد أن محافظة منيا التي صوتت بنسبة 83.2% لصالح الدستور قد وصلت نسبة الأمية فيها إلى 38.2% والفقر إلى 15.3%، ومحافظة بني سويف التي صوتت بنسبة 85% لصالح الدستور قد بلغت نسبة الأمية فيها إلى 35% والفقر إلى 20.7%، ومحافظة أسيوط التي صوتت بنسبة 76.5% لصالح الدستور قد وصلت نسبة الأمية إلى 32.7% والفقر إلى 17.3%، وهلم جرا.

كما يتوضح أن تلك المحافظات الفقيرة ذاتها هي التي صوتت بأغلبية لمحمد مرسي في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لسنة 2012 كالفيوم (47.02% من الأصوات، 34.6% نسبة الأمية) ومنيا (42.23% من الأصوات، 34.6% نسبة الأمية، 15.3% نسبة الفقر) وبني سويف (41.76% من الأصوات، 35% نسبة الأمية، 20.7% نسبة الفقر) إضافة إلى شمال سيناء وأسيوط وصوهاج وغيرها. بالمقابل، نجد أن المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية كشبيهاتها في إيران وتركيا صوتت غالبا في الدور اللأول لحمدين صباحي بنسبة 27.75% و31.61% الذي لا ينتمي للتيار الديني أوالمحافظ.

وإذا أخذنا هذه الصورة بعين الاعتبار، سهل علينا فهم السياق الديموغرافي- السياسي الذي نشبت فيه الاحتجاجات المليونية التي اجتاحت القاهرة للتنديد بسياسات الرئيس المخلوع محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين والدستور. وضمت الاحتجاجات طيفا واسعا من القوى والتيارات السياسية، كشباب حركة تمرد والليبراليين من أمثال محمد البرادعي ومؤيدي نظام حسني مبارك السابق من التجار وأعداد تنتمي بشكل كبير إلى الطبقة الوسطى والغنية...كلها توحدت في قلب العاصمة القاهرة أمام قصر الاتحادية وفي ميدان التحرير للإطاحة بحكم الإخوان...

وبذلك، فقد خرجت عن بكرة أبيها الجماهير القابعة في عواصم ومدن إيران وتركيا ومصر الكبرى التي تنتمي بشكل كبير إلى الطبقة المتوسطة والنخب من الطبقة الغنية لمساندة التيارات العلمانية أو الليبرالية أو الإصلاحية ضد الجماعات الإسلامية أو المحافظة. واستطاعت الإطاحة بها سلميا في حالة إيران عبر صندوق الاقتراع، وبالاستعانة بالجيش في حالة مصر الذي هو مؤسسة مستقلة، بينما أخفقت في تركيا التي استعانت الحكومة فيها بقوات الشرطة لتفريق المتظاهرين. ولعل هذه الظاهرة تكون هي الفصل الثاني في هذا المسلسل الذي بات يعرف بالربيع العربي، وهو الانتفاضة ضد التيارات الإسلامية و المحافظة التي تهيّئ للكثيرين كونها الرابح الأكبر من التحولات التاريخية التي تشهدها المنطقة.