نبعت التيارات الإسلامية السياسية، التكفيريون منهم والسلفيون ومعهم المتشددون من الشيعة الخمينية، ذات خلفيات غارقة في الضبابية والتلاعبات السياسية، لهم مرجعيتين، حاضرة، الطغاة والسلطات الشمولية في العالم الإسلامي وهم الذين عبثوا بهم، وتمكنوا من خلق كل الموبقات في الشرقين، أمتدت إلى أطراف و جغرافيات مترامية في الأرض، شوهوا بهم روحانية الإسلام، وتاريخية، تعود تكوينها إلى بدايات التكوين الإسلام السياسي، البعض يعيدها إلى بدايات ظهور الصراع على الخلافة الأولى، منذ معاهدة سقيفة بني ساعدة، ومنهم يؤخرونها، قرونناً، إلى ظهور الخلافة العباسية، والمتعمقون في التحليل، يوضوحونها مع سقوط القدس، والقضاء على سيطرة فرسان المعبد في الشرق الإسلامي.

التبعية البعيدة في التاريخ، أغرقت في متاهات التأويلات والمجازيات حول القرأن والاحاديث، سخر كل تيار شروحاته لذاته وغاياته التي غرقت معظمها في الفساد، وطغى عليهم المصالح الفكرية ndash; السياسية والإقتصادية. وما يقومون به اليوم من الصراعات الميدانية، أو الفكرية مع القوى القومية أو الإسلامية الروحانية، تهدف إلى نفس الغاية، مآلها إفساد الفكر الديني المتسامح، وهدم بنية العلاقات الإنسانية التي تنادي بها كل الأديان نظرياً، والتي من أجلها أظهرت وأرسلت إلى البشر، لكن في الواقع العملي هؤلاء ينشرون ثقافة ومفهوم معاكس لمفاهيم روحانيات الأديان السماوية جميعها، ليس فقط في الإسلام، بل وفي الأديان الأخرى التي كانت غارقة فيها على مدى قرون من الزمن.

تنقيبنا هنا، يحوم حول حاضر أفعال التكفيريين، خاصة تلك الأسماء التي لمعت في الثورة السورية، والتي تعود في جذورها، إلى ماض ليس ببعيد، إلى حيث بدايات الثورة العربية الكبرى، ومن بعدها، والتلاعبات التي حدثت في الشرق الأوسط، حيث كان مرتعاً للحركة الماسونية، والتي أستهدفت خلال القرن الماضي وحتى اليوم غايتين اساسيتين، تقوية السلطات المركزية في المنطقة، و خلق الفكر القومي المتطرف، وبدأتها بأتاتورك تركيا، ومن ثم بآل السعود، وتتالت بعدهم الحركات القومية، أمثال عبدالناصر، وغيره، ومن بعدهم رسخت السلطات الشمولية في الشرق، رغم أن الحركة ذاتها كانت تخلق إلى جانبها معارضة مخالفة كلياً، متمثلة بالحركات الشمولية في الفكر والإيدولوجية، كالشيوعية، والحركات الإشتراكية المرافقة، و في الطرف الآخر تيارت الإسلام السياسي والتي تمثلت بالإخوان المسلمين، اللتان يلغيان الوجود القومي في كيانهم السياسي، والإيديولوجيتان خلقتا المجموعات المتشددة والإرهابية، كالحركات المسلحة التي أنتشرت في معظم بقاع العالم، والوهابيون الذين نبع من صلبهم السلفيين ثم تبعهم التكفيريين المتعددي المشارب، ولم يقفوا عند هذا بل كان لهم عمق في إظهار الشيعة المتشددة، التي أبرزت الخميني من عدمه الفرنسي، والغاية في كل هذا، السيطرتين، الإقتصادية والسياسية على المنطقة.

بقدر ما كانت الثورة السورية متجهة لتقويض النظام الشمولي في المنطقة، كانت تستهدف لإزالة التيارات الشاذة والأحزاب الإنتهازية الإسلامية والعنصرية أيضاً، تلاقت مصير هذين الطرفين، تحركتا للحد من الثورة، فاستعملتا كل أنواع الصراع ضدها، واجهتها السلطة بالعنف، وساندت بعض التيارات التكفيرية، بكل أنواعها، للتغلغل إلى جسم الثورة، وتغيير مسارها، بعدما شوهتها إعلامياً، فكرياً ومفهوماً وغاية. الأحزاب الإنتهازية كالإخوان المسلميين والقوميين، تمكنوا وعلى مدى أكثر من سنة من بداية عمر الثورة من تشويهها في الأروقة السياسية العالمية، وبينوا عن الوجه المغاير للثورة أمام العالم، وعندما تمكنت السلطة الشمولية من تحوير مسارها السلمي إلى صراع مسلح، وبمساعدة غير مباشرة من الإخوان المسلمين والتيارات التكفيرية، وذلك برفعهم شعار الثورة المسلحة نفاقاً، والوقوف في وجه التدخل الخارجي، لفتح المجال أمام السلطة للعبث بالوطن حسب أهوائها، وبالمقابل تغلغلت الأحزاب الإنتهازية ومجموعات من المارقين في المعارضة الداخلية والخارجية واصبحت تتحدث بإسم الثورة لتكتم صوتها الحقيقي، تمكنوا معاً من تحوير الثورة عن مسارها، بل وفي بعضه من تقزيمها إلى حين.

لا شك أن الجدلية التاريخية تثبت على أن الثورات يمكن أن تهدأ أو تتراجع، أو تتقوقع في ذاتها حيناً من الزمن، لكنها لن تموت وستظهر أكثر زخماً وأعلى صوتاً، وحينها سيكون الصراع مع الإنتهازيين والمنافقين الذين سرقوها، وهي الفترة الإنتقالية عادة، وكل من يشك بإنتهاء الثورة أو أنها وئدت، لا يملك المدارك الكافية حول أبعاد الثورة السورية، ولا يتمكن من قراءة الواقع والمسيرة بكليتها، كما ويغيب عنه الجدلية التي يتحرك ضمنها كل هذه التيارات، والعلاقات الخفية بينهم وبين السلطة الشمولية التي كانت تسودهم حتى قبل الثورة بشكل مباشر.

تشويه الثورة بل وأدها تقع في مقدمة مخططات كل هذه الأطراف، للحفاظ على الذات، حتى ولو لم تكن واضحة لدى بعض الإنتهازيين أنفسهم، لذلك يتواجد البعض منهم في الساحات ويظهرون أكثر ثورية من الشباب الثوري، لكن أبعادهم آنية، وغايتهم تقف عند حدود تقويض السلطة والسيطرة عليها. محاربتهم للسلطة من ضمن الثورة وبالأساليب التي أرادتها السلطة ذاتها، استخدموها بتقنية سياسية وميدانية دقيقة، من ضمنها الإستئثار بالمعارضة الخارجية ومحاربة كل القوى الوطنية، وكذلك محاربة الشباب الثوري بطرق متنوعة في الداخل والخارج، وهذه من الأسباب التي طولت في عمر بشار الأسد، وحكومته، ومدتهم بالعديد من النقاط الإيجابية التي اعتمدوا عليها لتقوية ذاتهم في الخارج، و استغلال الزمن لإعادة حساباتهم الداخلية ولم شملهم، ومثلما طرحت السلطة بعض الإصلاحات المشوهة لتأليب الرأي العام العالمي، والتلاعب بأراء الشعب، تخلفت بالمقابل المجموعات المعارضة من الإتيان بمشروع ثوري يمكن أن تؤثر على الداخل أو على السياسة الخارجية، أوتعكس ما قدمته السلطة.

لم تتخلف هذه التيارات بالقيام بواجباتها على اكمل وجه، فقد ساعدت السلطة الشمولية من تدمير الوطن بكل الطرق، وكانت هي غاية الجهتين، لأنهم يدركون أن الثورة أعمق من أن يفرقوا مسيرة شبابية من الشوارع أو يخلون الساحات منهم، فالثورة متغلغلة في المفاهيم، وهي منتشرة في معظم الجيل الشبابي الحاضر، وستترسخ في الأجيال القادمة، ولا يمكن بإسكات المجموعات الثورية من القضاء على الثورة، لذلك كانت المهمة أوسع وأعمق من مواجهات روتينية. أرادت السلطة القضاء على البنية التحتية للوطن الذي لم يكن ينتمي إليها يوماً ولم يكن يراها سوى منبعاً للنهب ومطية للسيطرة، وقتل الشعب لتخويف هذا الجيل الثوري واسكاته، فالتيارات التكفيرية بدورها لم ترى يوماً هؤلاء الشباب الثوريين سوى جيل لا ينتمي إلى المنابع الروحانية التي يدعونها، ولا يمكن أن ينسبونهم إلى خصوصياتهم، فكان الشباب واضحين في دعواتهم وشعاراتهم، طالبوا بخلق ثقافة عصرية حضارية، وتحديث المجتمع ومفاهيمه، فكان عملية وأدهم أو تهجيرهم مصاحبة لتدمير السلطة للوطن، وبهذا تمكنوا من نقل الثورة من صراع بين الشعب والسلطة، إلى صراع بين طائفتين، أو طوائف ومذاهب، وهم الأن ينقلونها بشكل فاضح إلى صراع أثني، بين الكرد والعرب، ويعمل عليها التيارات التكفيرية مثلما تعمل عليها السلطة بطرقها الخاصة.

يتبع... تحت عنوان التكفيريون والمنطقة الكردية

الولايات المتحدة الأميريكية

[email protected]