أعادني الأديب الكركوكي (نصرت مردان) عبر صفحات روايته (وداعاً سيلوبي) إلى الحنين إلى منطقة (عرفة) والتي كانت تعد في فترة ما الكوة الأجمل والنافذة الأبهى في مشهد المدينة بحدائقها وبيوتاتها الجميلة الموحدة البناء على الطراز الريفي الإنكليزي، وبكانتيناتها المنظمة المصطفة على جانب واحد وكأنها إيقاع هارموني مدوزن الأوتار، أقول أعادني الصديق (نصرت) عبر شخصيته التي سماها بـ (الكركوكي) إلى أجواء عرفة عندما استغرق في حلم طويل مستلقياً على شواطئ استذكاراته التائقة إلى تلك المنطقة التي قضى فيها شطراَ من طفولته وصباه وشبابه المبكر، والصديق (نصرت) دائما يفيض حنينه إلى الأماكن الكركوكية ويمطرها برذاذات شوقه بصدق جميل وحميمية آسرة وحتى انه جعل في متن روايته حيزاً متواضعا وسماه (عرفة) الكوة التي اجتزتها إلى تلك الأيام التي أحببت فيها المنطقة وعشت فيها مدمناً حبها مع صحبةً أعزاء اثراء على القلب احتلوا أغوار الطبقات في الذاكرة المضنكة.

في فترة الخمسينيات كان لنا جار يملك احد كانتينات (عرفة) وهو والد الشاعر التركماني (عبد الخالق البياتي) الذي قاد حركة الحداثة الشعرية التركمانية الأولى، وعن طريق الجيران أولاء كانت تنتقل شذرات إلينا من حكايات عرفة المضمخة بأجوائها وحدائقها وأنفاس ناسها، ثم صادف تعيين أشقائي في شركة نفط العراق، وكان مسؤولاً عن بيوت الموظفين ملتزماً بتقديم الأثاث اللازم في تلك الدور، وهو بدوره يحدثنا عن مجريات عرفة وعن بيوتاتها التي استعملت في بنائها مادة الطابوق الأصفر في الوقت الذي كانت دور المناطق الأخرى بكركوك تعتمد على الجص والحجر. ولا أنسى اليوم الذي وطأت فيه قدماي ارض عرفة مروراً بتلة (تعليم تبة) المغزوة سفوحها بأزاهير الخباز البرية في فصل الربيع وفي مقدمة المكان كان هناك قطار رابض على سكته وعلمت ان هذا القطار مخصص لنقل العمال إلى مناطق عملهم في شركة النفط ثم مررت بحدائق المكان ومرابعه الخضراء وشوارعه المستوية وبيوتاته المشيدة على طراز موحد وسرعان ما أكشفت أن للمكان هوية خاصة وانه مختلف عن بقية أمكنة كركوك حيث النظافة معششة في كل مكان وهدوء ريفي يخيم على البقعة بأكملها.
استمرت علاقتي تمتن بعرفة مع تقادم الأيام، ففي الوقت الذي تعرفت فيه صحبتي في جماعة كركوك، كان (جان دمو) في البدء يسكن منطقة (تبة) إلى أن عائلته انتقلت إلى عرفة انتقلت إلى عرفة فانفتحت لنا كوة رحبة لزيارة المنطقة والتقاء (جان) فيها وكثيراً ما ذهبت برفقة الشاعر (صلاح فائق) ndash; وهو مقيم في فليبين في الوقت الحاضر ndash; نزوره ونتفقد كتبه أو نسأل عن كتبنا التي استعارها ولم يعدها لنا، وكنا نجد في اغلب الأحايين أنها مفقودة وان وجدت فأثار العدوان بادية على أغلفتها وصفحاتها والأمر واضح لان جان دائم الانتقال بها من مقهى إلى آخر أو تأبطها وهو يقطع شوارع المدينة، فبطبيعة الحال الكتب كانت تتهرأ وتتمزق صفحاتها.
في مرة من المرات افتقدنا جان فذهبنا للسؤال عنه وبعد أن تمازحنا معه كثيراً أردنا أن نصحبه إلى السينما إلا انه تعلل بالتعب أو بالإفلاس لا اذكر جيداً ولكننا أنا وصلاح في طريق عودتنا إلى قلب المدينة مررنا من أمام ملعب شركة النفط، بدا الملعب مكتظاً لوجود مباراة تجري بكرة القدم والسابلة يروحون ويجيئون، كان صلاح في حالة مزاجية عالية يتهكم ويوزع سخرياته البيضاء يمنة ويسرة، عندما وجد اثنين من الانضباط العسكري واقفين أمام باب الملعب يسألان عن هويات الداخلين سخر منهما واسمعهما تعليقاً نسيت فحواه فبدآ مطاردتنا فلم يكن أمامنا بد إلا من إعطاء سيقاننا للريح مجتازين أدغال المزارع المنتشرة في المنطقة كنا خائفين من أن يلقى القبض علينا، ولم نتوقف عن الجري إلى أن وصلنا بيوت (شاطرلو) ثم قطعناها مسرعين إلى الشوارع الرئيسة فسينما الحمراء دخلناها ومنحنا أنفسنا إلى رحمة الظلام، وفي عتمة السينما اللزجة عرفنا الطمأنينة والا كنا اكتوينا بلظى عذابات التوقيف وإهاناته المعنفة.
سكن صديق آخر لنا في منطقة عرفة ألا وهو الشاعر (عباس عسكر) وعندما اشترى سيارته الأولى وكانت ماركتها (موسكوفيج) خضراء اللون دعانا بهذه المناسبة إلى منزله تجمعنا في دار (جليل القيسي) وبرفقة صاحبيّ الدائميين صلاح فائق و جان دمو، قادنا الراحل (عباس) إلى داره وقد جلب معه القيسي جهاز التسجيل ذا البكرات المدورة حتى نصغي إلى صوت الخالد (زكي موران) وكنا اكتشفناه جديدا وعندما كنا نتنمل لا ندري الانتشاء سببه هذا السائل الذي لا تنزل الأحزان ساحته أم بصوت هذا المغني الخالد الذكر، لقد قضينا أمسية عرفاوية بامتياز بالصحبة الطيبة المتوجة بأحلامها وحكمها وأصوات صحبي تعلو وتزهر وتزدهي بحكايات لا تنتهي عن عوالم الشعر وفضاءات القص. استمر عشقي لمعْلمين اثنين في عرفة وعددتهما أيقونتين شاخصتين تدعوان المزيد من العشاق والمريدين والمعجبين، المعْلم الأول شجرة أرجوان فائقة الجمال والتي تزهر مع قدمة كل ربيع بحيث تتحول أزهارها إلى ندف من الثلج الملون وهذه الشجرة كانت موجودة خلف المطعم المخصص للعمال، والمعلم الثاني (الكهريز) الذي هو عبارة عن مجرى مائي يشق طريقه مع امتداد جانب من بيوت المنطقة. في العقد الثمانيني كثيرا ما كنت اذهب إلى هذا الكهريز وأبقى جالسا في سيارتي متصفحا متأملا بعض ما حملت من كتب ومجلات، مرة وقفت سيارة شرطة بمحاذاتي وترجل ضابط شاب برتبة ملازم خاطبني رأسا بلا مقدمات: ماذا تفعل هنا؟ أخبرته بأنني أطالع. وماذا تطالع؟ أريته المجلة التي كنت أطالعها ومن حسن الصدف كانت المجلة مجلة (الأقلام) البغدادية وهي مجلة حكومية تصدرها وزارة الثقافة. تصفح المجلة ولا ادري هل فهم منها شيئاً ام لم يفهم. أعاد المجلة لي وقال لاتعد هنا ثانية ألا تعرف أن هذه المنطقة كلها عوائل. قدت سيارتي وابتعدت عنه وبالفعل أغاظني هذا الموقف فانقطعت عن زيارة المنطقة عدة اشهر إلا أن الشيء المحزن الذي أحزنني هو إقدام السلطات على تفجير هذا الكهريز والعمل على تجفيفه الأمر الذي أدى فقدان عرفة احد أجمل معالمه البيئية والجمالية.
منذ مدة ترقد على طاولتي دعوة حميدة من صديقي الشاعر (عدنان أبي أندلس) إلى زيارة عرفة فهو الآن احد سكنتها وأنا كلما التقيت به يجدد ليّ الدعوة وأنا أعده بزيارته لتجديد شطرٍ من ذكرياتي في هذه البقعة الكركوكية الحميمة إلا إنني أؤجل الزيارة وأنا في دخيلة نفسي خائفاً من أن أفاجئ بالكثير من التغييرات التي أتت على جماليات المكان وفقدها لكل تلك المعالم التي أحببتها وعشقتها بإدمان في سنوات ماضيات لأنني ما زلت أعيش تلك الملامح والمشاهد في ذاكرتي وإنني متأكد من اية زورة أقوم بها إلى عرفة سوف تأتي إلى هدم تلك المعالم التي شيدتها ومنحتها فضاءا وشساعةً جميلين، ولكنني مع ذلك سأعود إلى هذه البقعة وأنا اجر خلفي أثقال كهولة لم يعد يجدي معها تقويتها بكل تلك الذكريات التي تتضبب مع تقادم الأيام.