ليس الخوف إلا طريق أخرى للعبور إلى التخلف.. لما له من علاقة وثيقة بقلب الإنسان؛ ومتى كان القلب غير مطمئن فلا يمكن لقدراتنا العقلية أن تسمو بروحنا إلى تحضر مأمول وعيش كريم..
لكن ماذا عن الخوف عندما يختلط بالسياسة؟ أو بصيغة أخرى أكثر laquo;راهنية raquo; مع زمننا وشعوبنا المعاصرة: ماذا عن الديمقراطية والخوف؟

في مؤلفه الأخير'روح الدين' يربط الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن علاقة قوية بين الخوف و'الديمقراطية' كما هي دائرة اليوم؛ ردا على الدعوى التي تقول ليس كل سلطان يثير الخوف، ولا كل خوف من ورائه سلطان؛ والتي ترى أن السلطان 'الديمقراطي' لا خوف معه، لا من القتل ولا من القهر ولا من الخوف نفسه. وهذا الإعتراض الطهائي يمكن حصره في الأوجه الآتية : أن أنواع الخوف السابقة الذكر لا توجد في السلاطين عل شاكلة واحدة أو بمقدار واحد؛ مثلا الخوف من القهر قد يكون في سلطان مكشوفا، في حين يكون في آخر غيره مستورا لا يكاد يتبينه إلا أهل المعرفة بمكر الحكم، وقد يكون الخوف يتحمله المحكومون على مضض.
***
هذه الأنواع من الخوف تختلف صورة ومقدارا في الأوطان المتقدمة- مع العلم أنه في بلدان العالم المتخلف لم تعرف إلا أشكالا مشبوهة أو محرفة، بل مزيفة من هذا السلطان 'الديمقراطي'- حسبك كما يقول طه عبد الرحمن الإختلافات التي تكشفها المقارنة بين الديمقراطيات داخل أوروبا، ناهيك عن المقارنة بين الديمقراطيات في أمريكا كـ'الديمقراطية' في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم بينها وبين الديمقراطيات في آسيا مثل' الديمقراطية اليابانية'.

كما أن السلطان السياسي يستعمل الخوف لأغراض سياسية مختلفة كدعم النظام السياسي القائم. فضلا على أن المواطنين أنفسهم يسهمون في إنتاج الخوف واصطناعه داخل المجتمع كما يسهم فيه الحاكم ويصطنعه؛ لكن كلا الطرقتين مختلفتين فمثلا الفاعلون السياسيون اليمينيون يخوفون من هجوم جحافل المهاجرين، واليساريون يخوفون من انبعاث السلوكيات الفاشية؛ والفاعلون الاجتماعيون يخوفون من التراجع عن المكتسبات الاجتماعية والصحية والأسرية ونظام التقاعد وانهيار القدرة الشرائية؛ والفاعلون الإقتصاديون يخوفون من فقدان المنافسة، فضلا عن التهديد بتسريح العمال.
وعليه فإن هذا الخوف يجعله وسيلة للتعبئة الإجتماعية.

***
إذن، لا غرابة أن يؤدي هذا الضرب من الخوف الجماهيري كما يسميه الفيلسوف طه عبد الرحمان إلى قيام احتجاجات شعبية واسعة، وتظاهرات عملاقة في الشارع، وإضرابات مهنية متوالية، واعتصامات متواصلة في الأمكنة العامة وبالتالي إلى بروز ما يسمى بـlaquo;الحركات الاجتماعية الجديدةraquo;، وتسييس فضاءات ثقافية واجتماعية لم تكن تعرف بها أو تقبلها الإتجاهات السائدة للأنظمة الديموقراطية، بل يمضي طه في تحليله العميق مستشرفا واقعنا المعاصر والراهني بالقول أن هذا الخوف أفضى إلى قيام ثورات جيل على جيل أو جنس على جنس أو عرق عل عرق في أكثر من بلد laquo;ديمقراطيraquo;، ولو كانت في الغلب انتفاضات سلمية أقرب إلى التمردات العنيفة.

إذن، كيف السبيل للحاكم المتسيد في' السلطان الديمقراطي' أن يخفي هذا الخوف حتى لا يؤدي إلى موته السياسي و القضاء على مستقبله الإنتخابي.. وحتى يعيد إلتفاف المواطنين حوله؟
الحل هو دفع خوف المواطنين بخوف آخر هو laquo;الخوف من العدوraquo; الذي يتغير بتغير المصالح وموازين القوى؛ حيث يبدو هو الشر الأكبر والمهدد الأخطر للأمن القومي بل الأمن العالمي! حينئذ، أكيد أن روح الحماسة والتضحية والغيرة على الوطن ستنبعث من جديد في نفوس المواطنين، وينسوا إلى حين مقهوريتهم.. وبهذا يمكن للحاكم المتسيد أن يتذرع بتهديد أعداء بلاده في الخارج على أعداء سلطانه في الداخل.

ويقدم طه مثالا لذلك من السلطان' الديمقراطي' الأمريكي، حيث أبتكر من الأعداء صورا كثيرا آخرها laquo; الإرهاب الإسلاميraquo; ثم جهاد الغرب، ثم سلاح الدمار الشامل، ولا يزال يلوح بهذا الإرهاب الداهم متجاهلا أسبابه وظروفه.. وكل هذه الأشكال من التصرفات الخرقاء فقط من أجل القضاء على ما يسميه طه عبد الرحمن بــ laquo;فتنة المطالب والحقوقraquo; التي ما فتئت تشتد وتتكاثر في البلاد.

وليس أنفع للمتسيدون من هذا النوع منlaquo;الديمقراطيةraquo; حيث لها نجاعة سياسية، ويوهمون شعوبهم أنهم ديمقراطيون وقادرون على الوقوف ضد أعدائهم بدون رفع السلاح في وجوههم، كأن تنظم إدارتهم بين الفينة والأخرى أعمالا مشبوهة تزرع الرعب في النفوس تخرس معه الألسن وتنسى فئات المجتمع مطالبها في الإصلاح السياسي...