من حسنات الحراك الذي سماه البعض ربيعا عربيا رغم التحفظ على المفهوم ، زعزعة بعض الثوابت وتجاوز بعض المسلمات مما يستلزم البحث عن اليات جديدة لتحليل وفهم الواقع العربي بعدما اصبحت الابجديات القديمة والمفاهيم الكلاسيكية متجاوزة او بالأحرى فقدت سيادتها على المشهد وظهور فاعلين جدد يملكون القدرة على خلخلة التوازن المعهود وان كانوا لا يملكون القدرة بعد على خلق نموذج بديل يتجاوز او يلغي ما هو موجود لأسباب ذاتية وموضوعية.

قبل نصف قرن او يزيد خلعت اخر الشعوب العربية جلباب الاستعمار المباشر ، وبدأت ثمار اتفاقية سايكس بيكو تظهر بشكل ملموس على واقع منطقة الشرق الاوسط ، كما دشنت القوى الغربية اولى مراحل الغزو الناعم والاستعمار المقنع وبشكل غير مباشر ، وقبل رحيل اخر جندي بريطاني من هذا الشرق وأخر مقيم عسكري تم زرع بذور دولة بإنشاء اول كيبوتس وتغيير وجهة سفن الشحن القادمة من اوروبا الشرقية وروسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي حينها الى فلسطين ، لكن عوض ان تحمل بالبضائع حملت بالبشر او حسب سادة القارة العجوز انداك سفن محملة بشعب يبحث عن وطن ،متوجهة الى وطن بلا شعب على حد قولهم ، لان القبائل في عرفهم ليست شعوب ، والأمم التي تفترض وحدة العرق والعقيدة كأساس للهوية لا يمكن ان تصير دولا تستحق ان تتمتع بالسيادة الكاملة ، هل كان الغرب يدرك حينها ان اسطوانة الاقليات سيرددها الكل في بدايات الالفية الثالثة؟ وان المجتمعات الجغرافية هي التي سترسم قدر سبعة مليارات من نسل ادم يسكنون على هذه الارض ، وسيبقى حملة التاريخ والمتشدقون بربط الهوية بشبر ارض نصب عليها الاجداد اول خيمة ، مجرد ديكور لتأثيث المشهد ،ومستهلكون لأنماط ثقافية وسلوكية جمعت على مر قرون من مناطق مختلفة ، مهما فرقتها الجغرافيا وحدتها هوية هجينة ستهدد كل من اراد حصرها بالتاريخ بشعارات الكونية فيما بعد ،

من مذكرات المبشرين استلهم الغرب منهجية رسم خريطة المذاهب والاتنيات والطوائف بل وحتى الارض ، في بلاد العرب ، ومن مدارس وكليات تم تأسيسها حتى قبل ان يظهر مفهوم الجامعة في الشرق تخرج زعماء وقادات ومفكرون ينفذون عن وعي او بدونه ما تم رسمه من قبل. ومهد خيال المستشرقين لفهم شخصية الانسان في هذا المجال الذي احاطته الصحراء بغموض يغري بأكثر من اكتشاف.

في سنة 1866 تأسست الكلية السورية البروتستانتية التي ستسمى فيما بعد الجامعة الامريكية في بيروت ، وبعدها سنة 1920 تم تأسيس الجامعة الامريكية في القاهرة كبداية لانتشار المؤسسات التعليمية الامريكية بالشرق الاوسط والأدنى التي خولت لها مهمة تكوين القيادات التي ستحكم بالنيابة المنطقة مستقبلا بعد ظهور مفردة الاستقلال في معجم العرب وبداية الرحلة المضنية للبحث عن سيادة تحتاج الى تزكية مشروطة ، وفي سياق التحضيرات اقحم المبدأ الثاني عشر ضمن المبادئ الاربعة عشر التي وضعها الرئيس الامريكي وورد ولسون في نهاية العرب العالمية الاولى مفهومان سيتم توظيفهما بعدقرن في المنطقة نفسها وان اختلفت الظروف ، مفهوم الامن على الحياة والتطور للحصول على حكم ذاتي شبيه بالاستقلال.

اقرر وورد ولسون رئيس الولايات المتحدة الامريكية قبل نهاية الحرب العالمية الاولى حق القوميات العربية الخاضعة للحكم العثماني في الحياة وحقها في التطور للحصول على حكم ذاتي لتسهيل اجراءات التفكيك والحصول على مصادر الطاقة وضم الانظمة التي يحتمل ان تولد بعد انتهاء اخر فصول الانتداب الفرنسي والبريطاني بالمنطقة الى دائرتها الضيقة ، بعد قرن من الزمن تقريبا اقرت حكومة بوش الابن ومهندسها بريمر في مشروع فيدرالية العراق حق الاكراد في الحياة تنديدا بماسات الديجيل التي كاد البعض ان يدرجها في صفحة واحدة مع تاريخ المحرقة النازية كما يقتضي منطق التحالفات بالمنطقة ، وتذكر صابرا وشتيلا في سياق الذكرى وليس كجريمة تستوجب العقاب او التعويض او حتى ورقة يمكن ان توظف لتحقيق بعض المكاسب على طاولة التفاوض ، كما اقرت بحق التطور وعقد اتفاقيات في مجال تصدير واستغلال وتطوير حقول النفط التابعة لنفوذ اربيل لحكومة البرزاني حتى دون الرجوع الى بغداد التي اختزلها نفس الحق ، حق الحياة ومنطق القوميات والمذهبية والطائفية ، الى منطقتين تأجل فيهما حق التطور وتم الابقاء فيهما على ضرورة الحصول على حق الحياة اولا ، منطقة خضراء تحظى بحق الحياة ومنطقة خارجها وتابعة لها توزع عليها الانفجارات حق الموت بسخاء وتوزع عليها بقايا حزب البعث ومليشيات العشائر وداعش والقاعدة حق التمرد واليأس وعدم الاستقرار بجرعات تكاد تكون قاتلة و بدرجات متفاوتة ، ويبقى حق التطور مؤجلا فيهما معا الى اشعار اخر ، هل كان يدرك وورد ولسون لتبصره ان هذا الشرق ولمدة قرن سيظل يناضل فقط لأجل الحصول على هذا الحق الذي منحه الله لكل دابة على الارض دون استثناء ولن يحققه لأسباب كلها تتعلق بانعدام الحق الثاني التطور بمفهومه الشامل؟ ام ادرك بوش وإدارته ومعه الدول الافتراضية التي افرزتها العولمة الشركات العابرة للقارات والمهتمة بعقود النفط وما تخبئه رمال الشرق اكثر من اهتمامها بشعوبه وأنظمة موالية تحكمها و تغريها عقارب البوصلة كلما توجهت جهة الغرب ، ان انظمة الموالاة ولو حتى بعد مرور قرن على المبادئ الاربعة عشرة لحكومة امريكا في نهاية الحرب العالمية الاولى ، لم تستوعب التاريخ جيدا وما تزال تحتاج الى التذكير وإعادة تمثيل نفس المشهد ولو بديكور مختلف وبشخصيات مختلفة وأمام جمهور مختلف؟

بغداد ، الفلوجة، بيروت، دمشق ، حلب، حماة ،غزة، هنا نسي القادة والشعب معا متعة تعلم الخطو نحو الامام ، وصار الهاجس كيف ينجو المرء من عبوة ناسفة او رصاصة طائشة لقناص يبحث عن الجنة بإرسال اخوانه الى المقابر معتقدا انه يعجل موعد رحلتهم الى الجحيم وهو لا يعرف انه يعجل موعد مغادرتهم لجحيم خلقته الطائفية والمذهبية والأصولية والدفاع عن اطماع ومخططات انظمة علمتنا ان نكون فئران تجارب لما انتجته تكنولوجيا الموت في كل مكان واستعمله الدهاء السياسي والاقتصادي لرسم الخرائط وفق ما يخدم مصلحة البعض ووفق ما تقتضيه ظروف كل مرحلة ، هنا اصبح الموت حدثا عاديا يعبئ اللوائح وتنافس احصائياته لوائح الولادة ، وصارت مؤتمرات الدول المانحة معرضا فيه تعرض ماسات شعوب ادمنت قسرا كارثة اللجوء ، ومزاد فيه يقنعنا الجلاد ان في قلبه مكان للرحمة ، ويعرف شيئا اخر غير التجارة في الارض والنسل يمكن ان يدرج في خانة الكرم.

ترى هل ان الاوان لنبحث عن السبل الكفيلة ب جعل حق الحياة غير قابل للمصادرة ولا الاستلاب ، ونترك كوصية للأجيال القادمة ضرورة انتزاع حق التطور للحصول على حكم ذاتي حقيقي لا يدخل في معجم المنطقة مستقبلا مفاهيم مغلوطة خلقت كيانات هجينة على ارضها يختلط فيها وهم الثورة مع

الحرب بالوكالة؟ ، كم يلزم هدا الشرق من التنازلات والتضحيات والدماء والقرابين التي يقدمها في معبد الديمقراطية المزعومة ليتجاوز عتبة الحق الاول ، حق الحياة ، ويمر الى اكتساب او حتى انتزاع او منح حق التطور لعله يحكم ذاته بذاته اخيرا؟

[email protected]

المراجع :

كتاب الولايات المتحدة والمشرق العربي تأليف د. احمد عبد الرحيم مصطفى ، سلسلة عالم المعرفة

مقالات متفرقة في الانترنيت وابحات عن تاريخ السياسة الخارجية الامريكية في الشرق الاوسط