لازال الإعلام يلعب دوره المؤثر في صناعة الرأي العام في المنطقة العربية باعتباره احد اهم الاليات التي تسهم في تشكيل القناعات لمجتمع اعتاد عدد كبير من سكانه على الاتكال الى المعلومة المسربة إليه إعلاميا دون التساؤل عن حقيقة ما يكمن وراء هذه البضاعة التي لا يمكن لها ان تجد سوقا رائجة لديمومة دخولها الى ميدان التحكم بالسلوك الجمعي من دون ان يكون هنالك جمهور مُعد قسريا عبر العديد من الاساليب لتقبل هذا النموذج من الممارسة التجارية الذي لا تُحس اثاره في المدى القريب بل تتراكم لتنتج بالنهاية ما اراده ممولوا ومالكوا هذه الوسائل خدمة لمصالحهم الانية والمستقبلية لتتحول بذلك كل الحرائق الطائفية التي يجيد هذا الاعلام اشعالها الى مكاسب عظيمة تتماشى والخطط المرسومة في هذه الوسائل.&

في مقابل هذا التوجه هنالك اليوم تحذير من قبل العديد من الباحثين والمختصين يشير الى ضرورة التاكيد على تربية العقل النقدي الذي يسمح للفرد بتفحص الخطاب الاعلامي بكل اشكاله ومستوياته، فالجيوبولتيكا النقدية تدعونا اعلاميا اليوم الى تفكيك خريطة الاعلام والبحث في حقيقة المستفيدين من تشكيلها ومن يدفع ضريبة ما يمرر فيها من افكار وكيف تسهم في تشويه صورة التفاعلات الجغرافية بأسسها الحضرية والسياسية في المخيال العام للشعوب القاطنة في هذه البقعة الملتهبة بالصراعات التاريخية الممتدة منذ ازمنة بعيدة.&

ففي العراق الذي يخوض شعبه حربا شرسة ضد التنظيم الارهابي الاخطر نفوذا على مستقبل هذا البلد، برزت في الاونة الاخيرة العديد من الرسائل الاعلامية التي تحاول الطعن بحقيقة ما يجري على الارض هناك. كما تحاول اقتناص اي مشهد او حدث عرضي او سلوك فردي لتضخيم صورته وجعله العنوان العام الذي يختصر كل هذه الحرب لغايات تهدف بالنتيجة الى استدامة الصراع واعادة انتاجه بطريق مختلفة. فالبعض يتحدث عن طائفية الجيش في حربه ضده داعش وبانه موجه وقوى الحشد الشعبي ايرانيا بل ان القادة الميدانيون مرتبطون بشكل كامل بايران وهم ينفذون اجنداتها في العراق فهم بالحقيقة يستهدفون السُنة لا داعش! كما تشير بعض الرسائل الاعلامية الخبيثة الى فكرة الخطر الذي ينتظر العراق بفعل انسحاب التهديد الذي يمثله داعش ليحل محله احتلال القوى التي تقاتل داعش اليوم والتي توصف بانها ممثل ايران في الساحة العراقية! ناهيك عن الحديث بشيء من الرومانسية عن عودة الامريكان الى العراق على اعتبار انها في نظرهم ستشكل الضابط الحقيقي الذي يعول عليه لاعادة الامور الى نصابها الطبيعي والتمتع بحياة مزدهرة يملؤها الامن والاستقرار في ظل الحماية المفترضة التي سيوفرها هذا الوجود للمكون السني!

من الطبيعي جدا ان يتلقف الالاف من الناس هذه الرسائل بمحتواها الحالي دون مسائلة النفس عن حقيقة التناقضات التي تحملها في ظل غياب فلسفة التساؤل عن حياتنا اليومية التي اجهدتها ثقافة التغييب المتعمد للعقل في امور الدنيا واسقاط الرؤى الغيبية على كل مفردات وتفاصيل هذه الحياة حتى بات الكثيرون مجرد مستقبلين للافكار غير مساهمين في انتاجها او في اعادة تشكيلها لرسم ملامح سلوكيات متزنة بالحد الادنى من كل القضايا المصيرية التي تتهدد وجودنا وتضعنا جميعا على المحك.&

في الرسالة الاولى كانت هنالك العديد من الإثباتات التي تؤكد عدم مصداقيتها. فالجيش الذي استعاد شيئا من توازنه المفقود بعد صدمة الموصل أراد العمل بكل السبل للحد من تمدد داعش جغرافيا باتجاه العاصمة بغداد، لذا شُنت العديد من العمليات الناجحة لاعتراض هذا التوسع وصولا الى التحول الاستراتيجي باتجاه الأخذ بزمام المبادرة والمهاجمة لتحرير العديد من المناطق من سيطرة هذا التنظيم. اغلب هذه المناطق هي بالأساس مناطق يسكنها غالبية من السنة وليس العكس، واغلبها شهدت معارك راح ضحيتها المئات من المقاتلين الشيعة في المؤسسة العسكرية النظامية، واغلبها شهد ايضا حالة من التلاحم الشعبي بين سكان تلك المناطق والجيش الذي يُتهم بانه طائفي وتسيطر عليه فئة محددة من التركيبة السكانية في العراق. لم تنتهي مقوضات اكذوبة الطائفية عند هذا الحد بل تجسدت مؤخرا بمطالبة بعض شيوخ الانبار لقوى الحشد الشعبي بالدخول الى مدن هذه المحافظة لمساندة اهلها في الحرب ضد داعش. وهي حرب في طريقها الى اعادة انتاج المُزاج الشعبي في تلك النطاقات خارج اطار التاثير الاعلامي المغرض وخارج اطار التشنجات السياسية التي دُفع ثمنها غاليا من حياة الشعب العراقي.&

على الرغم من ان الادارة الامريكية مشاركة في علاقات وطيدة مع الدول التي تهيمن على كبريات وسائل الاعلام هذه التي تسهم بشكل او باخر في تمدد رقعة التطرف في عموم المنطقة باعتبارها المنصة الواسعة التي تسمح بترويج الارهاب وبتشويه الحقائق وبتشكيل مسارات النظر الى الاخر المختلف مع توجهات القوى التي استفادت وروجت في الامس القريب لداعش، نجد بان هذه الإدارة تقر عبر احد كبار قياداتها بافتضاح حقيقة الاكاذيب التي تركز على فكرة ان الحرب موجهة ضد مكون سكاني وليس ضد تنظيم ارهابي اذ يقول رئيس هيئة الاركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي مؤكدا اهمية ما يحصل من تطورات في المنطقة " ان هنالك اكثر من 20 مليون سُني من السكان في كل من سوريا والعراق يقفون ضد أيديولوجية داعش ". وهو عدد قابل للزيادة بشكل كبير بعد تكشف حقيقة هذا التنظيم وما يحمله من عداء لكل أولئك الذين يختلفون معه حتى وان كانوا من ذات المذهب الذي يدعي بانه الممثل الذي يذود عن مصالحه ومكتسباته ويسعى لحمياته من الاعداء الذين يتهمون في لغة تحريض طائفية بانهم في الغالب صفويون!

اعادة تشكيل الاحداث وفقا لمنطق التساؤلات النقدية تضع المرء في مواجهة حقيقة جديدة مفادها ان السنة انفسهم من كافة الانتماءات العرقية ( من العرب والاكراد والتركمان ) ومن المسلمين قبل غيرهم قد دفعوا ثمنا باهظا لنشأة داعش وسيطرتها على النطاقات التي نشطوا فيها حيث قتل المئات من الرافضين لخطاب التطرف والنفي الذي تم الترويج له عبر آلية الهيمنة الدينية، ليكونوا هم ايضا في ساحة الاستبعاد الاجتماعي الواسعة التي شملتها آلية البطش بحق من كان لديه القدرة المادية، المعنوية والفكرية والإعلامية لمواجهة انتاج التطرف. وهو ما مهد لافتضاح ما يجري من تشويه من قبل مقاومو انهيار داعش المركزين دوما على فكرة ان هنالك ستراتيجية معدة سلفا من الاخرين لتصفية السنة. إذ ان هنالك الكثير من الشواهد التي تؤكد بان هنالك العديد من المناطق العراقية التي تشهد مشاركة واسعة للسنة انفسهم في هذه الحرب المقدسة التي تسعى للحيلولة دون اختطاف العراق وطوائفه المتنوعة من قبل اشرس واعنف توجه متطرف يمكن للتاريخ المعاصر ان يشهده في دولنا على اسس دينية.&

الرسالة الثانية التي تحاول الطعن بمرجعية الاندفاع العسكري والشعبي لمواجهة داعش والحاقه قسرا بايران يسعى من خلالها البعض الى اعادة التوازن للقوة المنكسرة لداعش في ظل التطورات الميدانية الاخيرة التي ستسهم بشكل جاد في رسم مشاهد المستقبل العراقي. حيث يوجد هنالك اليوم مسعى واضحا لاعادة تجييش التجمعات السكانية في العراق طائفيا بهدف خلق الصدامات الداخلية بين مكوناتها وكذلك في صفوف المكون الواحد الذي ارتضى لنفسه من وجهة نظرهم القبول بدخول الجيش والحشد الشعبي لمناطقهم دون مقاومة. تشكيل هذه الصوة الذهنية التي تناغم مشاعر العداء لإيران في هذه المدن يراد من وراءها اقحام من أرادوا التخلي عن دعم داعش في مواجهة جديدة تجبرهم بالنهاية على العودة للاحتماء بهذا التنظيم والترحيب به ممثلا لهم في هذه المعركة بهدف ديمومة الفوضى في كل العراق. وهو مسعى ثبت انه لا يمكن ان يتحقق في ظل الادراك المتنامي بان العشائر السنية نفسها (البونمر والجبور نموذجا) قد كانت ضحية مؤلمة من قبل حتى دخول الجيش او الحشد الشعبي لهذه المناطق التي مارس فيها داعش بشاعة سلوكياته تجاه من امتنع عن تسليم شرف مدنه لهذه العصابات المنحرفة.&

لذا فان تضخيم فكرة الزخم الايراني وراء دور المقاومة العراقية الذي يُمارس ميدانيا من قبل الفصائل العراقية المختلفة لا يمكن له ان يجد مساحة تاثير كبيرة الا في النطاقات التي اصبح التساؤل والمقارنة فيها ليس ممنوعا فحسب بل ومحرما تماما في ظل الاحكام العرفية التي بدأت تُطبق على ساكني هذه المناطق التي تم مصادرة حتى حق قاطنيها بالتفكير النقدي كي لا يتم تهيئة الاجواء لحصول انقلاب سكاني – ايديولوجي ضد جماعات التطرف تلك وبالطريقة التي تسرع في تلاشيها وزوالها من خريطة المدن العراقية، وما محاولة الغاء بعض الكتب من المناهج الدراسية في المناطق التي يهيمن عليها التطرف الا دليل على محاولة ضبط مدخلات المعرفة التي تسهم في تحديد المساحة الفكرية ليس لطلبة المدارس فحسب بل لكافة افراد المجتمع عبر اعتماد اليات ووسائل مضافة تخدم هذا التوجه.&

الرسالة الثالثة التي ترى في العودة الاميركية للعراق امرا مفصليا لاعادة احياء الدور السني هي الاخرى فيها كثير من التبسيط وكثير من القفز على الحقائق الميدانية. ففي فترة ما قبل الانسحاب الامريكي كانت الكثير من هذه الوسائل تعمل على استقطاب السنة طائفيا وتشكل مجالات عزل مكانية مفترضة بحقهم عن العملية السياسية محركة الكثير من جماعات العنف باتجاهات محددة كان عنوان الكثير منها يقوم على فكرة محاربة الاحتلال ووصف الحكومة التي رحبت به على انها عميلة له بالمطلق. لذا فان عودة الاحتلال مجددا باي صيغة كانت لا يمكن لها ان تحقق الهدف الذي تسميه هذه الوسائل بعودة السنة الى الحاضنة العراقية! لذا ليس مفاجأ ان تسعى وسائل الاعلام هذه ذاتها الى العمل مستقبلا على الطعن مجددا بالحكومة العراقية جملة وتفصيلا لتصفها بانها هي التي ادخلت العراق الى فوضى الاحتلال مجددا وهي التي ارغمت الاخرين على رفع السلاح بوجه الدولة وبان كل ذلك قد جاء بفعل التعاون والتواطؤ مع طهران لا مع غيرها. فالاحتلال بنظرها عندما ياتي لا يمكن له ان يمر دون مباركة ايران وعندما لا ياتي اليوم فانه يقع بالضد من مصالح السنة وايضا بدعم ومباركة من قبل ايران التي يصورونها وكانها هي المحرك المتحكم بوجهة القوة الكبرى المهيمنة على النظام الدولي!

يبدو ان الادارة الامريكية متحسبة جيدا لمثل هذه المواقف التي لا يمكن لها ان تمرر في الاعلام العربي بعيدا عن ما يدور في اذهان صناع القرار الامريكي من تصورات عبر عنها ديمبسي بالقول " نحن في حرب ضد داعش ، ونحتاج إلى شريك موثوق به ليقوم بمهمة القتال على الأرض ، وإذا فشلت الحكومة العراقية في ذلك سيكون علينا الاتجاه للحلفاء والشركاء في المنطقة ". دون ان يتحدث هذا الاعلام ولو بشكل عابر عن دور هؤلاء الحلفاء والشركاء الامريكين في المنطقة في افشال الادوار التي تلعبها الحكومة العراقية لاعادة ترتيب اوضاع البيت العراقي من الداخل لسحب فتيل الازمة والحيلولة دون تفجرها طائفيا، ودون ان يتسائل عن الدور الذي تلعبه مثل هذه الرسائل السلبية في تحويل العراق الى شريك غير موثوق به للاخرين الذين يمارسون ابشع الادوار في الوقوف موقف المتفرج من الحريق العراقي الذي كان قاب قوسين او ادنى من وصوله الى داخل دولهم.&

ان تغيير فلسفة ومفاهيم مثل هذا الخطاب هي احد المداخل المهمة الكفيلة باعادة انتاج خريطة التفاعلات العراقية الداخلية والاقليمية بعيدا عن تجاذبات ما بعد 2003 بطريقة تسمح لنا جميعا بالانفتاح على الدول التي كانت ممسكة بادوات انتاج هذا الخطاب لاعادة تشكيل العلاقات بعيدا عن الرؤية الضيقة للحدث العراقي من منظار المصالح الانية ذات الاسس الطائفية التي اوصلت الامور الى هذا المنزلق الخطير والتي يمكن عبر اعادة صياغتها ترسيخ فكرة أنها حرب مفصلية ضد التشدد وليست حربا محددة ضد مكون واسع الانتشار ليس من مصلحة الدولة العراقية الحديثة ولا حتى من مصلحة ايران ان تفكر بالصراع معه.&

كاتب واكاديمي عراقي&

[email protected]
&