مرجعية النجف شريكة كل الحكومات العراقية منذ الانتخابات الاولى، لأنها الراعي والداعم المباشر والمرشد.
لقد ضغط المرجع السيستاني في البدء، لإجراء الانتخابات واقرار دستور دائم، وكان له التأثير الابرز في تحديد خيارات الناخب الشيعي، ومثلها في لجنة كتابة الدستور، وكيلاه في كربلاء والبصرة أحمد الصافي وعلي عبد الحكيم الصافي، ووقف خلف تشكيل الائتلاف الشيعي في انتخاباتي مطلع 2005 ونهاية 2005، وتسابق الساسة على ابوابها مرارا، وسمح بالعمليات العسكرية ضد جند السماء في "الزرگه"، وكان وكلاء المرجع الكربلائيون يتحدثون بالشأن السياسي كل جمعة، واغلقت ابوابها غضبا أمام السياسيين، ووقفت اطراف مرجعية ضد ترشيح المالكي للولاية الثالثة، وطالب احد اعمدتها بعدم انتخاب ائتلافه الانتخابي، ثم وقف المرجع الاعلى مع تغييره داعما ضمنا حيدر العبادي لرئاسة الوزراء، ومر رئيس الجمهورية به قبل الذهاب الى السعودية، وقال انه حمل رسائل شفاهية بين المرجع والملك السعودي، وبذلك يعود الساسة على الابواب النجفية مجددا...
فهل يندرج هذا ضمن الولاية الخاصة التي تطرحها مرجعية النجف قبالة ولاية الفقيه المعتمدة لدى الثيوقراطية الايرانية؟
حتى وقت قريب كان التيار الاقوى في مرجعية النجف ضد ولاية الفقيه، خصوصا في زمن مرجعية المرجع الاشهر اية الله الخوئي وهو استاذ المرجع السيستاني وسلفه، لدرجة أن مؤسسات ولاية الفقيه في ايران وقفت بالضد منه، وثقفت لمواجهته خلال الثمانينيات وحتى اواسط التسعينيات. وعلى الضد وقف المرجع الثوري الاخر محمد الصدر ضد دعاة الولاية الخاصة ونادى بولاية الفقيه، وهو كذلك واجه نفورا سياسيا ايرانية كونه منافسا.
المرجع السيستاني يندرج تقليديا ضمن المدرسة القائلة بالولاية الخاصة، التي لا تتدخل في الحياة العامة، ولا تخوض الا في شؤون المكلّفين من البالغين الشيعة، وتشرف على توزيع أموال الخمس (الضريبة الدينية الشيعية الأخرى الموازية للزكاة)، أما الحكم وشؤونه فمتروك للأمام المهدي الغائب، فلم يكن أحد من دعاة الولاية الخاصة مقتنعا باقامة حكومة اسلامية.
لكن قبل فترة المرجع الخوئي وخلال الخمسينيات والستينيات، وتحديدا في فترة مرجعية محسن الحكيم، حصلت بعض التدخلات، أشهرها فتواه "الشيوعية كفر وإلحاد"، ومطالبته عبد الكريم قاسم باغلاق معمل الخمور، ومعارضته لقانون الاحوال الشخصية الذي يساوي المرأة بالرجل في المواريث، ثم الارشادات التي كان يحمّلها لبعض السياسيين في عهد العارفين، ولذلك خاف البعث من تأثيراته، فعمل على تشويه سمعته باتهام ابنه مهدي الحكيم بالعمالة، واصدار مذكرة القاء قبض ضده.
قبل تلك الفترة كان الصراع على اوجه بين نموذجين من المرجعيات، الاولى لكاظم اليزدي واضع أسس التقليد بصيغته الراهنة، وهو فقيه عاصر نهاية الحكم العثماني وبداية الاستعمار، والثانية مرجعية الميرزا الشيرازي التي تضم اسماء اخرى كالاخوند الخراساني ومهدي الخاصي ومحمد سعيد الحبوبي، والتي اعلنت مقاومة المستعمر وثم الافتاء بالمشاركة في ثورة العشرين، ثم قيادتها... الا ان الغلبة كانت دائما للنموذج الاخر، نموذج اليزدي. وحتى في حالة الحكيم بقيت الامور في حدود دقيقة، وقرأت الفتوى ضد الشيوعيين بأنها دفاع عن الاسلام ضد كفر الشيوعية، بمعنى أنه لا يحتاج الى القول بولاية الفقيه.
فهل ورث المرجع السيستاني كل هذه الادبيات ليلتزم بها، ام انه اعاد تعريفها؟!
السلوك المرجعي حتى الان يشي بأن مفهوم الولاية الخاصة يعاد انتاجه عمليا، دون الخوض في تفصيلات ذلك فقهيا. فمنهجية النجف خلال السنوات العشر الماضية اعتمدت على التدخل في مسارات الامور السياسية، والتأثير على خيارات الافراد السياسية، وهي أمور لا تتماشى مع الولاية الخاصة، رغم أنها لا تصل لمستوى المنهجية الايرانية في ادارة الحكم. لكن حتى& في ايران لا يتدخل خامنئي في كل الامور، لأن الرئيس هو المعني بها، الا أنه يتدخل في فض النزاعات، وايضا في حماية الفصل بين السلطات، وحماية "الاسلام الشيعي" والثوابت التي قامت عليها جمهورية ايران الاسلامية، مثل العلاقة مع الغرب، وقضايا مثل الملف النووي الايراني.
وبعض من هذه الامور يمارس المرجع السيستاني دوره ونفوذه في مثيلاتها. دعم تغيير رئيس الحكومة وفتوى الجهاد الكفائي، مفردات تكوّن عملية التغيير في المفاهيم التي تتبعها المرجعية في علاقتها بالشأن العام، وهي علاقة عادة ما لا تتيحها الولاية الخاصة، ولكنها لا تبلغ حد الولاية العامة على طريقة طهران. وللمناسبة، فقد شهدت اجواء حركة الخضر التي قادها مير حسين موسوي في 2009 مطالبات بتحويل ولاية الفقيه في ايران الى شيء يشبه دور المرجع السيستاني، باعتبارها حلا وسطا يخفف من صلاحيات الفقيه في الجمهورية الاسلامية، وفي الوقت ذاته تعطيه بعض الدور في الحياة العامة.

لكن لماذا لا يؤسس لذلك نظرياً في مفردات الفقه الشيعي؟
هناك خمسة احتمالات:
الاول: الخشية من عودة الصدام مع نظرية ولاية الفقيه الايرانية، بطرح صيغة مخففة عنها.
الثاني: ان المرجعية النجفية لا تريد تحمل مسؤولية الاخفاقات السياسية التي ستحصل لو تأسس الامر نظريا واصبح له أساس في الفقه والعقيدة. فالتأسيس يعني اعلانا رسميا له استحقاقات تصل الى حد المحاسبة.
الثالث: انها تدرك ان ما يجري مؤقت فرضته الظروف الانتقالية من الحكم السني الى الحكم الشيعي او المساهمة الشيعية الاكبر في تاريخهم العراقي، ولا يفترض التأسيس له ليصبح اطارا يحدد الفقهاء القادمين، بل يترك الامر لتشخيص المرجع.
الرابع: ترك التأسيس لذلك سياسيا، بحيث يصبح الدور المرجعي دورا مؤسسا عبر السياسيين أنفسهم دون الحاجة لاقرار ذلك فقهيا، وهو ما تحقق في الدستور وما يحدث عن كل ازمة توجه بوصلة القيادات الى بوابة السيستاني.
والاحتمال الخامس ان يكون المرجع الحالي مخلصاً لإرث اسلافه ممن بنوا التراث الراهن على الولاية الخاصة في عصر الغيبة، فأي تنظير جديد يؤدي الى متغير تبدو المرجعية النجفية غير مستعدة له، وربما تخشاه.
احتمالات قد تجتمع مع بعضها كدافع، الا أنها تبدو اسبابا تبقي الدور المرجعي في اطار غير رسمي، دون الحاجة للتورط في عملية التأسيس التي وقعت فيها ولاية الفقيه الايرانية. لذلك ان النجف تبدو اكثر هدوء واقل ثورية في التعاطي مع الواقع؛ فهي مؤثرة ولها مكانة وقرارها انتصر على المالكي الذي حاول ان ينافسها، وفي الوقت نفسه، تحافظ على دورها "الابوي"، وعندما يحاسب المجتمع او الجهات المعنية الحكومة، فان المرجعية تبادر لتكون مع المحاسِبين...
رغم ذلك، يبقى كل هذا غير كاف لتغطية وضع ان المرجعية شريكة كل الحكومات العراقية منذ أول انتخابات!.
.
&