(1)
حوالي عام 1370 ق. م حكم اخناتون ـ امنحتب الرابع ـ مصر، وأعلن عن مذهبه الجديد، عبادة الشمس (آتون). ونتيجة للصراع الديني الذي نشب بينه بين كهنة (آمون)، قرر اخناتون تحطيم تمثال الإله آمون، وهدم المعابد التي يُذكر فيها اسمه، في طيبة عاصمة مصر آنذاك، في محاولة منه لطمس الهوية القديمة التي عاشت مصر عليها لقرون عديدة. وحينما فشل قرر نقل العاصمة إلى مدينة "تل العمارنة" . وبعد وفاة اخناتون، قرر كهنة آمون هدم مدينته المقدسة، والتخلص من كل ما يشير إليه أو إلى دينه الجديد، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه. لكن المصيبة هنا، أن مصر فقدت نتيجة هذا الصراع الديني، مساحة لا يستهان بها من نفوذها الذي امتد من منابع النيل إلى حدود الشام، ولم تستعد مكانتها تلك إلا بعد سنوات طوال، وملوك أشداء. ولا أعلم ماذا كان الموقف الشعبي من هذا الصراع السياسي ـ الديني، لكن من المؤكد أن الشارع عانى في ذلك التوقيت من سياسة الاستقطاب بين قناعات حكامهم، وقداسة كهنتهم.

(2)
(المصريين شعب متدين بطبعه) من قائل هذه العبارة!! ولماذا!!

(3)
969م ، يحكم الفاطميون مصر، ويتحول مذهب الدولة الرسمي إلى المذهب الشيعي (الإسماعيلي)، ويمارس الحكام الجدد أشد أنواع الاستقطاب المذهبي ، متبعون سياسة العصا والجزرة، فعمدوا إلى اقصاء شيوخ السنة وقضاتهم من أي منصب رسمي، واعتبروا المواطنين من أهل السنة مواطن درجة ثانية، وفي عهد "الحاكم بأمر الله" أصدر أمراً بوجوب سب الصحابة على المنابر. وبما أن استمرار الحال من المحال، انهار الفاطميون على يد صلاح الدين الأيوبي (السني ـ الشافعي)، فانقلبت الأوضاع، وطارد صلاح الدين كل من اتبع المذهب الشيعي، من نخبة وعامة، بل وامتدت سطوته كذلك إلى الجماعات الصوفية فنفى وقتل كل من خالفه في العقيدة والمذهب. وظل الناس بين حجري الرحى، تطحنهم أهواء ملوكهم، وما يعتقدون أنه الحق.

(4)
6 أكتوبر (1981) الرئيس (المؤمن) الشهيد، أنور السادات، يُغتال على يد الجماعة الإسلامية، في أزهى حلله، وفي احتفال عيد النصر. صراع ديني ـ سياسي أخر أوصلنا إلى خسارة فادحة.

(5)
2013، جبريل يهبط على معتصمي رابعة، وسيدنا محمد يجعل مرسي إماماً، كما روج الأخوان من على منصتهم، وبسطاء يصدقون ، ويحترقون حطباً في مدفأة الأخوان. نتيجة بديهة لعام أسود حكم فيه الأخوان المسلمين مصر، وبوصفهم كما يصفون أنفسهم، بالجماعة المختارة، والتي تحمل الخير لمصر، أدخلونا أسود أنفاق الصراع الديني والسياسي بطبيعة الحال، وانقسم المجتمع بعد أن وحدته الميادين في ثورة يناير، وظهرت طائفة " المصلحجية" من جديد، وتحولت مصر في أقل من عام، إلى دولة يحكمها فصيل واحد، يزايد على جموع الشعب، بأنه الأفضل دينياً وأخلاقياً، وعلى الجميع اتباعه. وبغباء أخواني أصيل، انقلب السحر على الساحر، وانهار الأخوان بمنتهى البساطة. ولكن ظل الاستقطاب الذي يملك جذورة في المجتمع، قائماً ينهش فينا بلا هوادة.

(6)
2014، يشتهر الرئيس السيسي بتدينه الشديد، بل أن سيماهم على وجوهم، فـ"ذبيبة" الصلاة علامة أصيلة في تاريخ الرجل، وهذا بالطبع في إجماله أمر محمود. فلا يكاد يخلو خطاب من خطاباته السياسية بالمناسبة، إلا ويّذكرنا بهذا الأمر، فيتحول الخطاب تدريجياً من هدفه السياسي إلى سياق ديني. وقد يكون للأمر ضرورة سياسية، فأعداؤه من الأخوان يدّعون بوقاحة يحسدون عليها، أنه قد أطاح بحكمهم ليس فقط السياسي، بل والديني كذلك، فهو يحارب الإسلام في شخصهم، وكأنهم احتكروا الإسلام لصالحهم!!.
الخطورة هنا ليست في السمت الديني للسيسي، فهذا شأنه الخاص والذي يجد قبولاً عند الأغلبية الشعبية، ولكن الأهم هو انسحابه على مستوى الخطاب السياسي إلى مربع الأخوان الديني، وكذلك الجماعات الإرهابية (الحركية منها والسلفية)، التي تناصرهم. فالخطاب الديني الذي تحاول به الدولة وعلى رأسها الرئيس، أن تنفي عن نفسها أي شبه ضد إسلامية، في مقابل خطاب الجماعات الإرهابية، والتسويق الإعلامي الذي تمارسه جماعة الأخوان، قد يدخلنا جميعاً في نفق الصراع الديني بلا داعي . فالدولة تكتسب شرعيتها تدريجياً، والرئيس لديه شرعية وشعبية لا يخطئها إلا مغرض، وبالتالي علينا جميعاً أن نتجاوز مرحلة الخطاب الديني، أو انتظار الفتوى من مشيخة الأزهر أو شيوخ السلفية، التي تمنح شرعية هشة لا يحتاج إليها أحد، فالدولة التي تسعى إلى خطب دينية، بديلاً عن خطاب سياسي محكم، والأهم انجازات حقيقية على أرض الواقع، قد تلقي بنا إلى تهلكة الصراع على الله ـ كما تعودنا منذ القدم، بين مختلف الفرق والجماعات، خاصة ونحن في حالة استقطاب ديني قبل أن يكون سياسي، فالمجتمع بأكمله يحتاج إلى من يخاطبه بخطاب العقل والعمل، وليس خطاب الشرعية الدينية. " إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ. "
وقى الله مصر شر الفتن والانقسام.

[email protected]
&