مر اضطهاد المسلمين في بورما والتنكيل بهم والعبث بأجسادهم إلى حد شواء أطفالهم أحياء، مرور الكرام ولم يحرك المجتمع الدولي ساكنا تجاه ما يحصل من إبادة همجية لبشر ذنبهم الوحيد أنهم من معتنقي ديانة لا يستسيغها صناع قرار في دوائر غربية كبرى، يمتلكون وحدهم جميع أسباب القوة لردع المعتدين. ولم يكد جرح ميانمار يندمل، حتى طالعتنا صور من إفريقيا الوسطى يندى لها الجبين، صور يعتقد من يتمعن فيما احتوته من مشاهد بشعة أننا في أزمنة غابرة تُمتهن فيها كرامة البشر، زمن استفحلت فيه الحروب الدينية واستُبيحت فيه دماء وأعراض الآخرين كما أراضيهم بإسم المقدس، مشاهد أثبتت بالدليل القاطع أن السلام الذي بشر به إنشاء المنتظم الأممي، الذي اعتبره البعض إيذانا بولادة عالم جديدة بعد الحرب العالية الثانية، ليس سوى quot;أكذوبةquot;، وأن رغبة الدول الكبرى التي اكتوت بلهيب النازية في إنشاء عالم حر يسوده العدل وتصان فيه الحقوق والحريات لجميع البشر quot;على اختلاف الألسنة والألوانquot; لم يكن سوى حماسا آنيا سرعان ما خبا، مثلما يثبت التاريخ، لتطغى المصالح وسياسة الكيل بمكيالين على المشهد الدولي.
ويُحمل البعض مسؤولية ما طال المسلمين من مذابح للقوات الفرنسية المرابطة في إفريقيا الوسطى، ويروجون لرواية مفادها أن هذه القوات أقدمت على نزع أسلحة quot;الميليشياquot; الحامية للمسلمين ما جعل المنتمين إلى هذه الديانة يواجهون المعتدين المحسوبين على المسيحيين بصدور عارية ويتحولون إلى أهداف سهلة تُستباح ممن هب ودب. ويُشبه (بفتح الشين وكسر الباء) هؤلاء ما يحصل في إفريقيا الوسطى بمجزرة سربرينيتشا في البوسنة التي حصلت سنة 1993، والتي تُحمل جهات عديدة المسؤولية عن حصولها للقوات الهولندية التابعة للبعثة الأممية، التي أعلنت البلدة منطقة آمنة، وفرضت على مسلمي البوسنة تسليم أسلحتهم، لتتركهم لاحقا لقمة سائغة للقوات الصربية.
كما يُحمل البعض الآخر مسؤولية العمليات الإنتقامية التي تطال مسلمي إفريقيا الوسطى إلى منظمة سيليكا المسلمة المتمردة على حكم الرئيس المطاح به في مارس الماضي فرانسوا بوزيزي. إذ تُتهم هذه المنظمة بالقيام بعمليات إبادة لمؤيدي بوزيزي حين استحوذت على السلطة وهو ما أجج نيران الإنتقام من هذه المنظمة والمؤيدين لها من المسلمين لدى شرائح واسعة من المسيحيين الذين يمثلون غالبية السكان. وبالتالي فإن أصحاب هذا الطرح - وأغلبهم غربيون - يبررون، وإن ضمنيا، العنف المسلط على المدنيين المسلمين والذي فاق في بشاعته جميع التوقعات.
ويبعث تواجد قوتين تابعتين لدولتين مسلمتين، هما تشاد ودولة مغاربية، على الأرض جنبا إلى جنب مع القوات الفرنسية، على الحيرة، ويجعل البعض يتساءل عن الدور الذي تضطلع به هاتين الدولتين في إفريقيا الوسطى. فإذا لم تستطع القوات التشادية ونظيرتها التابعة لهذه الدولة المغاربية حماية مسلمي إفريقيا الوسطى فما مبرر انتشارها في بانغي ومناطق أخرى من هذا البلد الذي يتوسط القارة السمراء؟ إن تورط الرئيس التشادي إدريس ديبي في أكثر من دولة من دول جواره، وضلوعه في خلق بؤر توتر بالوكالة في أكثر من مكان، أمر بات يعرفه القاصي والداني، ومن المؤكد، بالنسبة للبعض، أن تواجده على الأرض في إفريقيا الوسطى، ممثلا بقوات بلاده، ليس لغايات نبيلة وإنما من أجل صفقة قد يجني منها هذا الرجل مكاسب سياسية وأرباحا مالية، وهو رجل الصفقات بامتياز.
ويخشى كثير من الخبراء والمحللين من أن تتحول عناصر الجيوش التابعة لهذه الدول المسلمة إلى مجرد شهود زور للتغطية على المجازر الحاصلة بحق مسلمي إفريقيا الوسطى، والهادفة بحسب هؤلاء إلى خلق أمر واقع في البلاد وتنصيب من تراه القوى الغربية خادما لمصالحها حاكما بأمره في بانغي. فالقوى الكبرى على ما يبدو لم تغفر لمنظمة سيليكا المسلمة إطاحتها بالرئيس فرانسوا بوزيزي الذي كان حاكما قمعيا ديكتاتوريا تم غض الطرف عن جرائمة وانتهاكاته نتيجة لخدماته التي قدمها باستمرار لمن قام بتنصيبه، وبالتالي فإن الفوضى الحاصلة في جمهورية إفريقيا الوسطى، بحسب أصحاب هذا الطرح، كانت بدفع من هذه القوى الخارجية لتجد الذريعة للتدخل لإعادة ترتيب البيت وفقا لمصالحها خاصة وأن البلد غني بالثروات الطبيعية وهو مثير للأطماع ويسيل اللعاب.
كما ساهمت الحدود الوهمية التي خطها مستعمر القارة السابق لتأمين مصالحه ولم يراع خلالها الإختلافات الإثنية والعرقية، في جعل إفريقيا الوسطى كما السواد الأعظم من بلدان القارة السمراء بؤرا للتوتر والصراعات القبلية، وهو ما سيبقيها على الدوام، وفقا لعديد الخبراء، ساحة للمعارك والتناحر بين مختلف المكونات. ومما لا شك فيه أن العنف سيخمد في إفريقيا الوسطى، لسنوات، أو لعقود وستفاخر بعثة السلام الأممية كما القوات الفرنسية إعلاميا بأنها حققت الهدف المرجو من إرسالها، لكن لغة الرصاص والتناحر بين الأعراق ستعاود البروز كلما سنحت الفرصة لذلك، لأن السبب الرئيسي للأزمة الذي يجعل مدنيي القارة من أطفال ونساء وشيوخ يدفعون الثمن باستمرار، وهو تحقيق المصالح الغربية في المنطقة والضرب عرض الحائط بتطلعات أبناء القارة، مازال مستمرا إلى أجل غير معلوم.