تذكرنا سلوكيات البعض في حكومة بغداد بتأخير دفع مرتبات الموظفين في اقليم كوردستان كلما حدثت مشكلة أو تم تصنيع أزمة ما مع الإقليم، بتلك الحصارات التي كانت تضربها ذات الحكومة ولكن بتسميات مختلفة وبنفس هذا السلوك على مدن وقرى كوردستان عبر تاريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها، ويعرف العراقيون والكوردستانيون المواد المحرمة دخولها إلى تلك المناطق ابتداء من الوقود والشاي والسكر وانتهاء ببقية مفردات المواد الغذائية، إلا بكميات محددة وبموافقات الجهات الأمنية والعسكرية، فطيلة الصراع مع حكومات بغداد الدكتاتورية، كانت تستخدم تلك الأنظمة أكثر الوسائل خناثة وخباثة في صراعها مع الشعب عامة ومع كوردستان وشعبها وحركتها التحررية خاصة تلك الأساليب التي ترتبط بقوت الأهالي ومصادر عيشها، فلم يك صدام حسين لوحده أو حزب البعث بمفرده يعتنق هكذا نمط من السلوك المنحرف، فقد أثبتت الأيام بأنه نتاج تراكم كبير من الإمراض الأخلاقية والتربوية التي حملتها معظم الطغم العسكرية أو المدنية التي تسلطت على حكم هذه الدولة العجب، فلم يتوانَ احد منهم من اقتراف أسوء الجرائم بحق الآخرين وخاصة المكونات غير العربية التي تصل حد الإبادة الجماعية، منذ مطلع ثلاثينات القرن الماضي، حينما قتلت قوات الجيش بأوامر من أعلى السلطات أيام حكم الملك غازي ورشيد عالي الكيلاني، ما يقرب من ثلاثة ألاف آشوري في منطقة سميل وعشرات القرى الآشورية في الموصل ودهوك خلال عدة أيام من شهر آب 1933م، أعقبتها حملات أكثر وحشية في جبل سنجار التي تحولت إلى تقليد تقوم به القوات العراقية ضد كل من اختلف مع نظامها السياسي، حتى تكللت (بطولات) ذلك الجيش العقائدي بإبادة ما يقرب من ربع مليون طفل وامرأة وشيخ من كوردستان لا لشيء إلا لأنهم كوردا، وأحرقت عشرات الآلاف من سكان مدينة حلبجة وأخواتها في كرميان وبادينان بالأسلحة الكيماوية، ناهيك عن الحصارات المخزية التي كانت تضربها على المدن والبلدات والقرى الكوردستانية، بما يشبه ما يريده البعض اليوم في محاولاتهم للوي ذراع الشعب وكسر تطلعه للمستقبل الحر المزدهر، هذا الشعب الذي أنجز تطورا خلال عقد من الزمان عجزت عن تنفيذه حكومات بغداد خلال ثمانين عاما من تأسيسها لهذه المنطقة؟

إن قراءة سريعة لذلك التاريخ المقزز يظهر لنا حقيقة ما يجري الآن، في بلاد يفترض أنها غادرت هيكليا تلك الأنماط من الحكم، لكنها وللأسف الشديد ما زالت سائدة كثقافة متكلسة في مفاصل كثير ممن يفترض أنهم يمثلون حقبة جديدة سواء في المجال المدني أو العسكري، الذي ما يزال يرضخ لعقيدة الطغيان والهيمنة والقوة، ووسيلة بيد الحاكم يستخدمها كلما شاء لمجرد الاختلاف في الرأي أو التعبير لفرض ارداته بعيدا عن فكرة وعقيدة الدولة المؤسساتية القائمة على المواطنة والشراكة الحقيقية بين الجميع في الحقوق والواجبات حسبما ثبتها الدستور، ويبدو والله اعلم أنها ثقافة ممسوخة من الخناثة والخباثة في محاولة لكسر الإرادات، هذه الثقافة التي تعشش في عقول وقلوب كثير ممن اعتلى الكرسي في بغداد ووجد حوله عدة ألاف من الجندرمة، وذهب إلى شاطئ دجلة فرأى خياله في الماء ليضن انه أصبح إمبراطورا على الجهات الأربع كما فعلها القائد الضرورة ومن شابهه إلى يوم الدين وانتهت به إلى تلك النهايات السوداء؟